إذا كتب علينا الموت فيجب أن تحيا قصصنا

بقلم غادة عقيل

ترجمة وتحرير نجاح خاطر 

تتعرض مدينتي خان يونس التي تم إعلانها في البداية كمنطقة آمنة لحملة إبادة جماعية الآن، حيث تمطرها القنابل من الجو والبحر يومياً، فيما ترتكب القوات الإسرائيلية على الأرض فظائع ضد المدنيين في المدينة ومخيمها.

وفي قلب هذا الرعب المتواصل، نشرت صديقتي العزيزة عبير بركات، محاضرة اللغة الإنجليزية في الكلية الجامعية للعلوم التطبيقية بغزة، رسالة على وسائل التواصل الاجتماعي، علقت فيها على طلب أحد الجيران منها الحصول على بعض المسكنات، قائلةً: ” في غزة لا يوجد شيء اسمه مسكن، فليس لدينا في غزة سوى القتل والألم”.

أصبحت الأدوية الأساسية بما فيها المسكنات رفاهية في غزة، فالذين يعانون من أمراض مزمنة مثل السرطان ومشاكل الكبد والذين هم في حاجة ماسة إلى غسيل الكلى يشعرون بالإهمال لعدم قدرتهم على الحصول على الرعاية اللازمة أو حتى على مساحة صغيرة في المستشفى.

وقد ارتفع عدد الجرحى، بحسب ما أفادت به وزارة الصحة في غزة، إلى أكثر من 50,000، يواجهون الموت على أرضيات أو ممرات المستشفى بسبب النقص الحاد في الأدوية والمساحة والرعاية والحرمان من العلاج المناسب.

ومنذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة، سُمح لـ 400 شخص فقط، أي أقل من 1% من إجمالي الجرحى، بمغادرة القطاع لتلقي العلاج.

حياة الجحيم 

يرسم أخي الطبيب في مستشفى ناصر بخان يونس، صورة مرعبة لعدد كبير من عمليات بتر الأطراف التي أجريت لأطفال وبالغين بسبب الالتهابات، واصفاً الحياة في المستشفى بالجحيم.

إنهم يستقبلون مئات الجرحى في كل يوم، مما يفوق القدرة المحدودة والمستنزفة أصلاً على توفير الرعاية الكافية، لقد تحول المستشفى إلى ما يشبه معسكر اعتقال، حيث يستسلم الجرحى والمرضى لنقص الرعاية فيما يصارع الأطباء العجز.

وفي غزة، تلد النساء الحوامل في المنازل والملاجئ وحتى في الشوارع دون الحصول على الرعاية المناسبة.

لنأخذ على سبيل المثال روان، حفيدة شقيق زوجي التي غادرت مخيم الشاطئ للاجئين للحفاظ على سلامتها ولجأت إلى منزل جدها في خان يونس برفقة عائلتها وخالتها مجدية البالغة من العمر 78 عاماً.

وفي مساحة محدودة لمنزل مكون من ثلاث غرف نوم يستوعب الآن أكثر من 30 نازحًا، عرض جد روان المرآب ليكون مأوى مؤقتًا.

وخلال الأسبوع الماضي، دخلت روان المخاض بعد منتصف الليل في ظل القصف الكثيف، بينما كانت محاصرة بسبب استحالة نقلها إلى مستشفى ناصر الذي يبعد مجرد خمس دقائق بالسيارة ولم يكن بالمقدور طلب سيارة إسعاف، وهو ترف آخر الآن في غزة، لتختلط صرخاتها اثناء المخاض مع أصوات القنابل المتفجرة.

ولم تتمكن نساء العائلة، ومن ضمنهن عمتها مجدية، التي قررت محاولة النوم في المنزل للتخلص من الصداع الشديد في ظل عدم توفر المسكنات، من الوصول إلى المرآب لتقديم المساعدة.

ولم يتبق سوى زوجها واقفاً عاجزاً باكياً إلى جانب والدها وأطفالها الثلاثة الذين كانوا ينتظرون في المرآب أيضاً.

في الظلام وتحت القصف، اعتمد والد روان، حسن، وهو مدرب ومربي كلاب وخيول، على خبرته في توصيل الكلاب للمساعدة، كان يتلقى التوجيهات بالصوت المرتفع من مجدية التي لم تتمكن من الوصول إليهم بنفسها.

ومع بزوغ الفجر، علم الحي بنبأ مولودة روان الجديدة وانتشر الخبر عبر الأحاديث الصاخبة، وجاءت الجارات لتقديم التهنئة، ليجدن روان هزيلة يغمرها الخجل إذ تشعر بالامتنان لأنها تمكنت من ولادة صغيرتها في الظلام لتجنب الحرج من مواجهة والدها.

ومع كتابة هذه الكلمات، لا تزال روان تعاني من الصدمة والمرض والجوع وندرة الطعام فيما تعتني عمتها مجدية بالطفلة.

لا بد لقصصنا أن تبقى 

 تروي مجدية التي تنحدر من قرية السوافير التي دمرتها نكبة عام 1948، بينما تحمل بين ذراعيها مولودة روان الجديدة، كيف اضطرت هي وعائلتها، بمن فيهم شقيقها الأكبر أبو عصام الذي كان يبلغ من العمر 13 عامًا تقريبًا، وشقيقها الأصغر أبو وليد، الذي كان عمره عامًا واحدًا، إلى مغادرة السوافير عندما كانت في الثالثة من عمرها.

وفيما يواجه شعب غزة الموت يوميًا، فإن حكاية مجدية القديمة التي تعود إلى عام 1948، والتي يتم مشاركتها الآن مع الأطفال والكبار، تسعى إلى ضمان بقاء القصة والتاريخ، حتى لو لم تفعل ذلك

لقد انطلقوا وقتها في رحلة بحثًا عن الأمان، ووجدوا في البداية ملجأ في قرية حمامة، وفي مواجهة المزيد من الهجمات، واصلوا طريقهم إلى السدود والمجدل وبيت حانون وجباليا، قبل أن يستقروا في نهاية المطاف في مخيم الشاطئ.

أمام هذا الواقع الكارثي وفي مواجهة المجاعة والحصص الغذائية الشحيحة ومياه الشرب المحدودة وانتشار الأمراض، لا تجد مجدية ما تفعله سوى أن تستمر في رواية الحكاية. 

كان إصرار مجدية على إبقاء القصة الفلسطينية حية حاضراً أيضًا لدى رفعت العرعير، الكاتب والشاعر وأستاذ الأدب الإنجليزي، الذي قُتل مع زوجته وأطفاله وعائلته أثناء لجوئهم إلى منزل شقيقته في مخيم جباليا في 7 كانون الأول / ديسمبر، وكان قد كتب في قصيدته الأخيرة:

إن كان لا بدّ أن أموت،

فعليك أن تعيش انت

لتروي قصتي

وتبيع كل أشيائي

وتشتري قماشة وعصباً

حتى يرى طفلٌ في مكان ما من غزّة

السماء في عينيه

مُنتظراً أباه الذي رحل في لمح البصر

دون أن يُودّع أحداً،

ولا حتّى جسده

يرى الطفل الطائرة الورقية، طائرتي

التي صنعتها، تُحلّق عالياً

ويظنّ للحظة أن في السماء ملاكاً،

يُعيد الحبّ،

إن كان لا بدّ أن أموت

فليأتِ موتي بالأمل

فليصبح حكاية”. 

وبينما نشهد المأساة تصبح كل حالة وفاة بمثابة دعوة للأحياء ليصبحوا رواة قصص، ليشهدوا على الألم الذي يتجاوز الأجيال.

إذا كان علينا أن نموت، فليحملوا ذلك الأمل، ولتكن حكاياتنا شهادة على الصمود في مواجهة القمع الذي لا هوادة فيه.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة