الإبادة الجماعية في إسرائيل وليدة عقود من الاستعمار

بقلم إميل بادارين

ترجمة وتحرير مريم الحمد

في حكمها الأخير، أكدت محكمة العدل الدولية أن “الخطر حقيقي ووشيك” فيما يتعلق بارتكاب إسرائيل لجريمة الإبادة الجماعية في غزة، وهو أمر لا شك أنه لم يحدث من فراغ، بل هو نتيجة متأصلة في بنية الفكر الاستعماري الاستيطاني الإحلالي والذي فرضته الإمبريالية الأوروبية الأمريكية على فلسطين.

كما جاء في الطلب الذي قدمته جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية، فإن عقوداً من الاستعمار الإسرائيلي هي التي أدت إلى وصول الدولة إلى لحظة الإبادة الجماعية.

إن آلية الدفاع عن النفس هذه تحرم الشعوب المستعمرة من حقوق الدفاع عن النفس والمقاومة للحفاظ على إنسانيتها واستعادتها، كما أنها من الضحايا مذنبين!

في عام 2006، اعتبر الباحث الشهير في الاستعمار الاستيطاني، باتريك وولف، أن هناك ملامح إبادة جماعية في فلسطين، وذلك وفقاً لمؤشرات على ديناميات الإبادة الجماعية من خلال قيام إسرائيل باحتجاز السكان الفلسطينيين فيما يشبه “المحميات” أو “غيتو وارسو” في الضفة الغربية وغزة.

ولا تمثل الإبادة الجماعية سوى مظهر واحد من المظاهر الفظيعة الدالة على العنف الاستعماري الاستيطاني، بهدف الاستيلاء على الأراضي ونزع ملكية أصحابها من السكان الأصليين.

هناك جيش لا يتألف من الجنود فحسب، بل يضم أيضًا الفلاسفة والمنظرين ورجال الدين الذين يبررون الاستعمار أخلاقيًا باعتباره أفعالًا تدخل ضمن سياق الدفاع عن النفس أو على مبدأ أنه “لا يوجد خيار أمام اليهود”. 

وتعد هذه الفكرة راسخة بعمق في الفكر الاستعماري، والتي تم على أساسها تجريم الشعوب المستعمرة وحرمانها من حق المقاومة الوجودية، ومحاولة إعادة تشكيل أرواحهم ونفسياتهم وهوياتهم لتتناسب مع مخططات المستعمرين، كما يوضح فرانتز فانون في كتابه “جلد أسود وأقنعة بيضاء”.

إن آلية الدفاع عن النفس هذه تحرم الشعوب المستعمرة من حقوق الدفاع عن النفس والمقاومة للحفاظ على إنسانيتها واستعادتها، كما أنها من الضحايا مذنبين!

على سبيل المثال، فقد اعتبر الغزاة الأسبان أن “الوفيات والمصائب” التي أوقعوها بالشعوب الأصلية في أمريكا الجنوبية هي “خطأ تلك الشعوب” لوقوفهم في طريق الغزاة، كما أشار الفيلسوف جورج هيجل إلى أن الأفارقة مذنبون بسبب “ازدرائهم الفطري للإنسانية” مما جعلهم عرضة “للسقوط بالآلاف في الحرب مع الأوروبيين”.

ومن نفس المنطلق، تدين إسرائيل الفلسطينيين لأنهم “أجبروا” المستوطنين الصهاينة على قتلهم، كما زعمت رئيسة الوزراء الإسرائيلية السابقة غولدا مائير!

الحقيقة مقابل البروباغندا

ما يحدث اليوم في القرن 21، يؤكد على إصرار كبار المفكرين الأوروبيين المرتبطين بمدرسة فرانكفورت للنظرية النقدية على تذكيرنا بارتباط الأخلاق الأوروبية الحديثة بالاستعمار، حيث أعرب الفيلسوف الأوروبي البارز، يورغن هابرماس، وآخرون عن تضامنهم مع إسرائيل في منتصف نوفمبر.

 فلسطين هي ساحة المعركة الأخلاقية في عصرنا، حيث يتم تشريح العنصرية المتأصلة في الفكر الأوروبي الاستعماري وكشفه ومقاومته، ويعكس نظام الفكر هذا النمط التاريخي للفظائع الاستعمارية في جميع أنحاء الجنوب العالمي، بما في ذلك الإبادة الجماعية الحاصلة في فلسطين اليوم

وقد استند هابرماس في موقفه إلى الاتهام المفتعل بأن حماس تنوي “القضاء على الحياة اليهودية بشكل عام”، مما يعني أنه ليس أمام إسرائيل خيار سوى “الانتقام” بالطريقة التي اتبعتها، رغم تأكيد حماس على أنها  “لا تخوض صراعا ضد اليهود لأنهم يهود ولكنها تخوض صراعاً ضد الصهاينة الذين يحتلون فلسطين”.

من جانب آخر، فقد ردد نقاد آخرون، بمن فيهم سيلا بن حبيب، الادعاءات الإسرائيلية بشأن قتل الأطفال وحرق الناس أحياء، والتي أصبحت تهماً بالية تم فضحها كدعاية ملفقة.

من الواضح أن الحقيقة والحقائق والبرهان والموضوعية والسياق والتاريخ ليس لها أي مكان عندما تكون المصالح الأوروبية الاستعمارية على المحك!

لقد تم تجريد الفلسطينيين، مثل جميع الشعوب المستعمرة، من حقوق المقاومة الوجودية والدفاع عن النفس، وبهذا فقد وقع الفلسطينيون ضحية صراع مع التفوق الأبيض ورغبة الغرب في التكفير عن معاداة السامية والإبادة الجماعية لليهود الأوروبيين.

هكذا أصبح الفلسطينيون تجسيدًا حياً لمن يمكن أن نطلق عليهم “الملعونين في الأرض” في هذا القرن، فقد أُجبروا حرفيًا على الخروج من خلال الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، ولكن لما يعتبره هابرماس وزملاءه بأنهم “يستحقون حماية خاصة” مدعين الحفاظ على كرامتهم الإنسانية والتي تتوافق مع “الروح الديمقراطية” للغرب.

“التجربة الفلسطينية تحت الاستعمار والموت تلخص القضية العالمية وما وراءها من الأخلاق والمعرفة والفكر” – وائل الحلاق- أستاذ في علم الاجتماع والأخلاق

هذا يمثل وجهين لنفس الفكرة العنصرية واللاإنسانية، حيث يتم تحريض الأقليات المضطهدة، سواء كانوا من اليهود أوالمسلمين المصنفين على أنهم شعوب سامية، ضد العرق الآري الأوروبي الذي أعلن نفسه متفوقاً. 

ساحة المعركة الأخلاقية

لقد مكّن هذا التنظير العنصري المجموعات التي ترى نفسها متفوقة من ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد أولئك الذين تم اعتبارهم أقل شأناً وأقل قيمة، فكانت النتيجة العملية هي حرمان الناس من حقهم الديمقراطي والأساسي في المعارضة والاحتجاج وإدانة الإبادة الجماعية.

لقد التزم هابرماس ورفاقه من مدرسة فرانكفورت الفكرية بصمت طويل واضح تجاه الاستعمار والمقاومة الاستعمارية للإمبريالية الغربية، ولم يكسروا هذا الصمت منذ زمن طويل إلا ليعبروا صراحة عن تضامنهم مع إسرائيل، آخر دولة فصل عنصري في العالم.

حتى بعد حكم محكمة العدل الدولية، فقد دافع القادة والنقاد والصحفيون والعلماء والفلاسفة عن حق إسرائيل في “الحماية”، فيما التزموا الصمت تجاه الجرائم الواقعة في غزة!

إن التحول السريع من الصمت إلى الصوت العالي، والعكس بالعكس، ليس مفاجئاً، فهذا يظهر كنتيجة طبيعية لما أسماه الأكاديمي إدوارد سعيد “العالمية المبهجة” وأخلاقها المرنة التي تخدم الاستعمار الغربي.

إن فلسطين هي ساحة المعركة الأخلاقية في عصرنا، حيث يتم تشريح العنصرية المتأصلة في الفكر الأوروبي الاستعماري وكشفه ومقاومته، ويعكس نظام الفكر هذا النمط التاريخي للفظائع الاستعمارية في جميع أنحاء الجنوب العالمي، بما في ذلك الإبادة الجماعية الحاصلة في فلسطين اليوم.

لقد عبر عن هذا المعنى أستاذ الأخلاق، وائل حلاق، الذي أشار إلى أن التجربة الفلسطينية تحت الاستعمار والموت تلخص القضية العالمية وما وراءها من الأخلاق والمعرفة والفكر.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة