الحرب على غزة تضع عقيدة التحرر الفلسطينية في مواجهة الصهيونية الإنجيلية

بقلم حميد دباشي

ترجمة وتحرير مريم الحمد

إن الفظائع التي ترتكبها إسرائيل في فلسطين نيابة عن “الحضارة الغربية” تعدت كل مقاييس الوحشية ولم يعد بالإمكان حساب عواقبها الكارثية، فباتت هناك قضايا أخلاقية وفلسفية وعقدية على المحك على خلفية هذه الحرب البشعة.

وهنا أتساءل عن ماهية تلك الفلسفة أو العقيدة الدينية أو الخيال الأخلاقي التي يمكن معها  التصالح مع همجية إسرائيل كمشروع استعماري استيطاني؟ ففلسطين وخاصة غزة، أصبحت في صلب هذا النقاش اليوم، بعد أن فقدت أوروبا والغرب كل مصداقيتها.

في الوقت الذي تعد فيه عقيدة التحرر الفلسطينية قوية ومتجذرة وعادلة، فإن الصهيونية الإنجيلية باتت في موضع تكشفت فيه وحشيتها وبربريتها أمام العالم أكثر من أي وقت مضى

أعتقد أن علينا أن نأخذ رئيس المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية، نتنياهو، على محمل الجد حين يصرح أن “هذه الحرب ليست حرباً بين إسرائيل وحماس فقط، إنها حرب تهدف حقًا إلى إنقاذ الحضارة الغربية وقيم الحضارة الغربية”، وهو محق في ذلك، فذبح أكثر من 27 ألف فلسطيني في 3 أشهر علامة على “الحضارة الغربية” في أبشع صورها!

بات العالم كله يواجه وحشية “الحضارة الغربية”، ليس فقط من الناحية السياسية، فلابد من ربط ذلك بالجذور الفاسدة للشر المتأصل في الحمض النووي لفلسفة وعقيدة الإنجيلية الصهيونية.

تشكل حماس جزءاً لا يتجزأ من القضية الفلسطينية، كما أن الصهيونية الإنجيلية واليهودية تشكل جزءاً لا يتجزأ من الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي

في خطبته لقداس عيد الميلاد الأخير، عبر القس منذر إسحاق عن الغضب من الحرب على غزة بالقول: “نحن غاضبون، لقد هزمنا، كان ينبغي أن يكون هذا وقت الفرح ولكننا في حداد وخائفون”، فمن بين الفلسطينيين الذين ذبحوا مسيحيون ومسلمون، قتلوا جميعاً على يد الجيش الإسرائيلي الذي تم تجهيزه بدعم الولايات المتحدة وأوروبا.

قوة ميتافيزيقية 

من المستحيل التمييز بين الفلسطيني المسلم والمسيحي عندما يتعلق الأمر بنضالهما وتضحياتهما من أجل تحرير وطنهما، وخير مثال على ذلك أنه عندما قُتلت الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة كانت خرج في جنازتها الجميع.

يمكن القول أن مصطلح “الفلسطيني” نفسه قد اكتسب قوة ميتافيزيقية خاصة به إن صح التعبير، ولا يمكن اختزالها في القواسم المسيحية أو الإسلامية.

وفي هذا السياق، تعتبر خطبة إسحاق جزءاً مما يمكن تسميته “عقيدة  التحرر الفلسطينية”، والذي تقف في مواجهة الصهيونية الإنجيلية التي ربطت زوراً بين المسيحية والاستعمار الاستيطاني للمساعدة والتحريض على الغزو الصهيوني لفلسطين.

وفي الوقت الذي تعد فيه عقيدة التحرر الفلسطينية قوية ومتجذرة وعادلة، فإن الصهيونية الإنجيلية باتت في موضع تكشفت فيه وحشيتها وبربريتها أمام العالم أكثر من أي وقت مضى.

بعد قرابة قرن من النضال، اجتمع المسلمون والمسيحيون الفلسطينيون على حد سواء في مساحة تحرير تتجاوز انتماءاتهم الطائفية.

أما في السياق الأمريكي، فقد طرح عالم الاجتماع، روبرت بيلا، فكرة “الدين المدني الأمريكي”، تاييداً لزميله الفرنسي، إميل دوركهايم، الذي سبقه في الحديث عن أن الدين هو “الوعي الجماعي” بحسب تعبيره.

يبقى أن نراقب ما إذا كان اليهود من ذوي الضمائر الحية، الذين سئموا من الصهيونية، سوف ينادون بتفكيك جذري للصهيونية إنقاذاً لعقيدتهم اليهودية أولاً، أم لا، فليس هناك حتى اليوم كتلة ذات مصداقية لتفكيك الصهيونية من الداخل

رغم كون فكرة الدين المدني فلسفة قوية من الناحية المجتمعية، إلا أنها لم تستطع الصمود أمام الصهيونية الإنجيلية الشريرة التي تدعم كلا من الفصائل الأكثر رجعية في الحزب الجمهوري والمستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية.

وإذا أردنا جمع أفكار بيلا ودوركهايم معًا وإعادة صياغتها في السياق الفلسطيني، يصبح الوعي الجماعي للفلسطينيين، الذين يهدفون إلى تحرير وطنهم من الغزو الوحشي الذي تدعمه أيديولوجية صهيونية يهودية مسيحية واضحاً، ومن هنا تظهر أهمية اجتماع الفلسطينيين لتشكيل عقيدة تحررية فريدة  تتجاوز كلاً من المسيحية والإسلام.

جذور عقدية

ترجع جذور الصهيونية الإنجيلية إلى زمن بارتولومي دي لاس كاساس (1484-1566)، عندما وضع قواعد المسيحية الاستعمارية الاستيطانية بشكل مباشر في خدمة الغزو الأوروبي لـ “العالم الجديد”. 

وعلى الجانب الآخر، فإن عقيدة التحرر الفلسطينية ترجع بجذورها  إلى عقيدة التحرر في أمريكا اللاتينية، وذلك وفق ما عبر عنه الكاهن الدومينيكي غوستافو جوتيريز.

ومن هذا المنطلق، تشكل حماس جزءاً لا يتجزأ من القضية الفلسطينية، كما أن الصهيونية الإنجيلية واليهودية تشكل جزءاً لا يتجزأ من الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، ولذلك من المهم في الإطار الوطني الفلسطيني المستقبلي، أن تدرك حماس أو أي جماعة إسلامية أخرى أن عليها التعامل مع كل المواطنين بعيداً عن الطائفية.

ليست الحرب دينية إذن، ولا معركة عقدية أو أيديولوجية، بل هي معركة بين تعصب ديني يسعى لحكم العالم، وثورة تحرر مدنية بنت رؤية قوية لمستقبل ما بعد الصهيونية.

يبقى أن نراقب ما إذا كان اليهود من ذوي الضمائر الحية، الذين سئموا من الصهيونية، سوف ينادون بتفكيك جذري للصهيونية إنقاذاً لعقيدتهم اليهودية أولاً، أم لا، فليس هناك حتى اليوم كتلة ذات مصداقية لتفكيك الصهيونية من الداخل.

في خطبته، قال القس إسحاق: “هنا في فلسطين، تم استخدام الكتاب المقدس كسلاح ضدنا وهو نصنا المقدس، نحن هنا نواجه عقيدة الإمبراطورية بقناع التفوق والسيادة، وهذا يضع عقيدة التحرر الفلسطينية في مواجهة الصهيونية الإنجيلية، ولكن التاريخ يقف إلى جانب الذين تعرضوا للوحشية وطوبى للودعاء فإنهم يرثون الأرض” (متى 5: 5).

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة