بقلم حميد دباشي
ترجمة وتحرير مريم الحمد
يتمتع الأمريكيون عموماً بذاكرة قصيرة ويعتقدون أن العالم كله يعاني من نفس المشكلة، سواء كان هذا العالم يعيش داخل الولايات المتحدة أو خارجها، فهو يعاني من فقدان الذاكرة الأمريكي الجمعي وما ينطوي عليه من عنف متواصل، فالعالم يحتاج إلى ذاكرة أطول بكثير حتى يتمكن من النجاة من الفوضى التي تلحقها واشنطن به!
إن الخلاف المزيف بين الجمهوريين والديمقراطيين الأمريكيين، المحافظين والليبراليين، لا علاقة له على الإطلاق عندما يتعلق الأمر بموقفهم العنصري المشترك ضد المهاجرين الجدد
قبل شهر، صرح وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو بأن وزارة الخارجية ألغت ما لا يقل عن 300 تأشيرة طالب، مع استمرار إدارة ترامب في استهداف الطلاب.
لقد ولد روبيو نفسه في عام 1971 لأبوين كوبيين في فلوريدا، ولم يكونا قد أصبحا مواطنين أمريكيين بعد في ذلك الوقت، ولكنه قام بتجاوز تلك الجزئية من ذاكرته من أجل تحقيق النجاح في عالم السياسة الأمريكية المعادي للأجانب.
إن كراهية الأجانب هذه أمر محدد للثقافة السياسية الأمريكية، ففي الحرب العالمية الثانية، قامت حكومة الولايات المتحدة باعتقال ونقل وسجن حوالي 120 ألف أمريكي في معسكرات الاعتقال، فقط لأنهم من أصل ياباني، وقبل ذلك بكثير انخرط المستوطنون الأوروبيون البيض في تجارة الرقيق لسرقة الأمريكيين الأصليين من وطنهم، وتحويل أراضيهم التي تم احتلالها لاحقاً إلى ملاذ للتفوق الأبيض!
عبر تاريخ البلاد المشبع بالدماء، بوسعنا أن نتذكر القسوة والإبادة الجماعية الثقافية التي شهدتها المدارس الداخلية للأمريكيين الأصليين، حيث تم اختطاف الأطفال الصغار من عائلاتهم في محاولة لإعادة هندستهم إلى أشبه بالأشخاص البيض على مبدأ “اقتلوا الهندي الذي بداخله” كأحد الشعارات الأكثر شراسة.
الحقيقة أن استهداف الطلاب الأجانب الضعفاء أو العمال المهاجرين بالمضايقة وسوء المعاملة والترحيل إنما يشكل طبيعة ثانية للأنظمة الحاكمة في الولايات المتحدة!
إطلاق العنان لروح الانتقام
إن المستوطنين الأوروبيين البيض الذين يسمون أنفسهم “أمريكيين” لا يحبون الأشخاص الذين لا يشبهونهم، وهذه هي الفكرة السائدة عبر التاريخ الأمريكي بأكمله، حيث تشكل روائع أدبية وسياسية مثل رواية جيمس بالدوين لعام 1963 تحت عنوان “النار في المرة القادمة” شهادات أخلاقية على هذه الحقيقة.
لم يخترع الرئيس دونالد ترامب هذا النوع من القسوة الأمريكية، فهو يحملها فقط إلى نهايتها ربما، فهناك اليوم تصعيد ممنهج لشيطنة ترامب من قبل مؤسسة الإمبريالية الليبرالية بأكملها، وذلك بسبب شعورهم بالحرج من أسلوبه الفج والواضح، وفي نفس الوقت يستخدمون ذلك كتمويه لتبرئة بقية التاريخ الأمريكي، وكأنه كان ملاذاً للكرم تجاه الأجانب!
رغم اختلاف دوافعهم السياسية المعلنة، إلا أن الخيط المشترك المتمثل في كراهية الأجانب في الولايات المتحدة يوحدهم جميعاً
يمكن القول أن ترامب هو جالوت أمريكي ولا يمكن إصلاحه، ولكن لو نظرنا إلى كل رئيس أمريكي على مدى القرن الماضي، فمن هو الرئيس الذي كان يرحب بالطلاب والعلماء الأجانب إلا إذا كانوا أوروبيين يساعدون في بناء القنبلة الذرية؟!
إن التفوق الأبيض الذي يحكم الولايات المتحدة ببساطة يكره الأجانب الآخرين الذين قد يبدون مختلفين عنهم، حتى قبل وقت طويل من استسلام ترامب للصهاينة الذين ارتكبوا الإبادة الجماعية والذين تجمعوا بسعادة في بلاطه الملكي، وأطلقوا العنان لروح الانتقام ضد ساحات الجامعات حيث كان الناس يحتجون على إرهاب الدولة الإسرائيلي ضد المدنيين الفلسطينيين، كان رؤساء الولايات المتحدة السابقون يستهدفون أيضاً الطلاب الأجانب.
في سبعينيات القرن الماضي، وفي عهد الرئيس الراحل جيمي كارتر، كان هناك أمر للطلاب الإيرانيين بإبلاغ السلطات الفيدرالية وفحص تأشيراتهم وإعادة تأكيدها تحت التهديد بالترحيل، وكل ذلك بسبب جريمة الثورة التي كانت تتكشف في وطنهم إيران آنذاك.
ذاكرة أطول
لقد قدم سلف ترامب، الرئيس السابق باراك أوباما، مخططاً لما يسمى بحظر المسلمين، وهنا يجب أن يدرك الأمريكيون بأن الدول السبع ذات الأغلبية المسلمة المستهدفة في الأمر التنفيذي لترامب قد تم تحديدها لأول مرة على أنها “دول مثيرة للقلق” في عهد إدارة أوباما.
إن الخلاف المزيف بين الجمهوريين والديمقراطيين الأمريكيين، المحافظين والليبراليين، لا علاقة له على الإطلاق عندما يتعلق الأمر بموقفهم العنصري المشترك ضد المهاجرين الجدد، فكل ما يتعين على روبيو فعله هو أن ينظر في المرآة ليرى من أين أتت عائلته قبل أن يقوم بتشويه صورة المهاجرين الجدد الآخرين وترحيلهم.
في ظل إدارة ترامب الثانية، يشهد العالم الهجوم الأكثر شراسة حتى الآن على الطلاب الفلسطينيين والمؤيدين للفلسطينيين، والذين يشعرون بالغضب الشديد من الموجة الجديدة من الإبادة الجماعية الصهيونية التي تذبح أصدقائهم وعائلاتهم في غزة وفي جميع أنحاء فلسطين.
إن ترامب يستخدم ببساطة ما أرساه الرؤساء السابقون، من كارتر إلى أوباما، ضد هؤلاء الأشخاص لمواقفهم وأصلهم فقط، فقد كان الرئيس السابق فرانكلين روزفلت، الذي أمر باعتقال الأمريكيين اليابانيين خلال الحرب العالمية الثانية، ديمقراطياً فيما ترامب جمهوري، ولكن عندما يتعلق الأمر بكراهية الأجانب فلا فرق جوهري.
أراد كارتر أن يظهر وكأنه يتصرف ضد محتجزي الرهائن في إيران، كما صور أوباما الدول السبع ذات الأغلبية المسلمة على أنها ملاذات للإرهابيين، في حين قام بتسليح إسرائيل حتى أسنانها لإرهاب المنطقة وذبح الفلسطينيين، واليوم يستهدف ترامب أي شخص يعارض الإبادة الجماعية الجارية في غزة ويواصل نهج إدارة بايدن الثابت في دعم المذبحة في غزة.
رغم اختلاف دوافعهم السياسية المعلنة، إلا أن الخيط المشترك المتمثل في كراهية الأجانب في الولايات المتحدة يوحدهم جميعاً، وما الشك في الطلاب الأجانب إلا تعبير عن مسار مستدام من العنصرية الأمريكية العميقة الجذور ونظرية تفوق العرق الأبيض.
إذا كان ترامب وأعوانه الصهاينة يعتقدون حقاً أنهم قادرون على إسكات العالم كله من خلال اختطاف وترحيل عدد قليل من الطلاب الأجانب في الجامعات الأمريكية، فإنهم واهمون، فعند استدعاء ذاكرة أطول، يمكننا أن نرى أن ترامب هو سليل مباشر لجميع رؤساء الولايات المتحدة السابقين وسجل البلاد المستمر من كراهية الأجانب، وبالتالي يجب أن نستمر في المسار ونتحدث عن حقيقتنا الثابتة المتمثلة في أننا شعوب معذبة أمام قوتهم الواهية.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)