النكبة… جرح الفلسطينيين الغائر منذ 75 عاماً

بقلم ياسر سليمان

ترجمة وتحرير مريم الحمد

في كتابها “ Unclaimed Experience“، وضعت اختصاصية علم النفس والصدمات، كارثي كاروث، إطاراً للتحليل النفسي لفهم تأثير النكبة الفلسطينية داخل النفس وخارجها، فالصدمة بتعريفها العلمي هي “قصة جرح يصرخ، يخاطبنا ليخبرنا بواقع أو حقيقة لا نستطيع فهمها بطريقة أخرى”، وتلك هي النكبة الفلسطينية بالفعل، جرح كبير مفتوح في التاريخ والذاكرة، يخاطبنا بإصرار وإلحاح لتذكيرنا بأن الفلسطينيين ما زالوا محرومين من موطنهم.

النكبة هي الخسارة والبحث الذي لا ينتهي عن محاولة الشفاء، سواء كنا نتحدث عن الفلسطينيين الذين ما زالوا يعيشون اليوم على الأراضي الفلسطينية أو من هم في الشتات، فإن فلسطين هي الموقع الحي لصدمة استدعاء الضحايا، عبر إحياء صورة وذاكرة مكان كان لآلاف السنين مكانهم هم، وكأن النكبة لغالبية الفلسطينيين صدمة هزيمة مذلة للشعب الأصلي، اًصحاب الوطن الشرعيون، على يد عدو أجنبي مغتصب، بمساعدة وتواطؤ قوة إمبريالية فاسدة أخلاقياً!

وتعد النكبة جرحاً متدفقاً بسبب النتيجة الكابوسية التي آلت إليها الحرب، وظل مفتوحاً بتتابع الهزائم بعد ذلك من استسلامات مخزية متزايدة ما زلنا نشهدها في المشهد السياسي العربي البائس حتى اليوم، فكل استسلام يرجعنا نحن الفلسطينيون إلى عمق تشريح ذلك الجرح المفتوح، بوصفه اغتصاب عصابة لوطن وثقافة وذاكرة كاملة!

ما وراء الجغرافيا

سوف يؤدي الغياب عن الوطن وغياب الأحبة حتماً إلى تعتيم ذكريات الفلسطيني عن وطنه ما قبل النكبة عبر مرور الوقت، ولكن الغياب أيضاً يجعل القلب ينمو بحب الوطن والارتباط العاطفي بفلسطين وما فقده ليصبح ذلك كله وقود مقاومة للآثار النفسية المدمرة التي تحصل نتيجة مرور الزمن، فهي علاقة الضد، زيادة السنين تزيد الحنين.

وللغياب قدرة على تضخيم الذكريات خاصة المرتبطة منها بالأم أو الأب أو المنزل أو الأقارب، مع ما يحمله من ذاكرة الروائح الحلوة والمذاقات الشهية والأشكال الملونة لتلك البيئة التي تم حرمانه منها، فهي ذكريات بقدر ما هي مؤلمة، تثير دافعاً لارتباط أوثق، فبدلاً من الانحسار إلى ماضٍ بعيد ومنسي ربما فقط، توسعت فلسطين تدريجياً لتشمل جغرافيا أوسع ومجالات ثقافية وميادين جيوسياسية، جمعت أحفادها عبر الأجيال أينما كانوا تحت لواء الخسارة التي تسمى النكبة يقابلها الأمل بالعودة.

على الرغم من الجهود المبذولة لمحو سكانها الأصليين، فقد تجاوزت فلسطين عالم أجدادنا بطريقة ما جغرافياً وثقافياً وسياسياً

منذ النكبة، أصبحت فلسطين نموذجاً مجازياً واسعاً وثرياً يشير إلى الانتماء والمقاومة والتصميم على العودة، فمن استراليا إلى اسطنبول، ومن كامبردج إلى نيويورك، ينتشر الفلسطينيون في بلدان كثيرة، ومن الممكن جداً أن تتصادف بأي فلسطيني في أي بلد وتسمع قصته كما حدث معي، حين تعرفت على فتاة صغيرة تدعى بيسان، على اسم البلدة الفلسطينية القديمة “بيسان”.

يمكنك أن ترى بيسان كبصمة على جسد كل فلسطيني يحيي ذكرى المكان الذي ضاع منا، وفي نفس الوقت، يؤصل لشركة بين الفلسطينيين ويحثهم على الوعد بعدم النسيان أبداً.

بعد أن زرت بيسان في فلسطين عدة مرات خلال العشرين سنة الماضية، تعجبت من تاريخها الغني متعدد الطبقات، وكنت أتساءل دوماً كيف سوف أشعر لو كان اسمي “بيسان” كتلك الفتاة الصغيرة، هل سيجلب لي ذلك الاسم السعادة أم الشجن؟ هل سيكون الاحساس بالتعافي النفسي أم أني سأغضب؟ هل سأكون متفائلاً؟ وماذا يمكنني أن أقول لإسرائيلي من كاليفورنيا اختار الإقامة في أرضي المفقودة التي تحمل اسمي نفسه؟!

باستخدام الأسماء التي تستحضر ذاكرة الأماكن التي تم طمسها، يحمل الفلسطينيون فلسطين التي تخصهم على أجسادهم، وكأنهم يلتزمون بعهد مع الأم والأب والبيت وضياع الأرض، أتذكر كيف اعتقد ولداي في سن مبكرة جداً، أنه من خلال لصق اسم فلسطين على الخرائط الانجليزية للمنطقة، فإنهما سوف يجعلان العودة بطريقة ما أمراً ممكناً إلى منطقة الأجداد.

في مرحلة ما من مسيرته الرياضية، جاب ابني الأكبر، وهو هاوي تجديف متحمس في اسكتلندا لم يبلغ 18 عاماً بعد، الانترنت بحثاً عن فريق فلسطيني للتجديف، كان يريد أن يعرف إن كان بإمكان الفلسطينيين تشكيل فريق لتمثيل فلسطين في الأولمبياد، هكذا يحفظ ابني ذاكرة الوطن.

“أن تكون فلسطينياً”

النكبة صدمة مشبعة بالمعاني الأخلاقية والمسؤوليات التي تتجاوز فلسطين كمكان جغرافي محدود، ولكي تتحدث عن فلسطين للعالم، يجب عليك أن تحيي فلسطين عند كل من يرفض الظلم والقمع والاحتلال، بغض النظر عن خلفياتهم العرقية أو الدينية أو السياسية أو أنماط حياتهم، يجب عليهم الانغماس في فلسطين كقضية، كما نجحت جنوب إفريقيا خلال نضالها ضد الفصل العنصري والاستعمار البريطاني.

حتى تظهر فلسطين كقضية يهتم بها أحرار من العالم يتبنونها، يجب توسيع دائرة الفلسطينيين لمحو صدمة النكبة، ومن المهم هنا أن تصبح فلسطينياً من الناحية الأخلاقية والفكرية، وذلك يجعل هوية الفلسطيني دعوة مفتوحة لجميع أولئك الذين يملكون توجهاً سياسياً أخلاقياً، ووجهة محددة نحو السلام والعدل.

يتوافق هذا المعنى الشامل لفلسطين كقضية مع فهم النكبة كصدمة وجرح مفتوح، ومع ذلك، فإن من وُلدوا فلسطينيين من خلال صدفة تاريخية ربطتهم بذلك المكان، عليهم أن يقودوا الطريق برفقة من انضموا إليه كقضية فكرياً وعاطفياً ومادياً.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة