بقلم ديفيد هيرست
ترجمة وتحرير مريم الحمد
من كان يعتقد بأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سوف يكون الرئيس الذي يوقف الحرب التي كان ينتظرها الشرق الأوسط، فعليه أن يلقي نظرة على ما يجري حالياً في الضفة الغربية المحتلة ليعلم أن الوضع ليس كذلك.
بعد امتعاضه من مشهد مئات المقاتلين من حماس وسيارات الجيب التي تحيط بمركبة النقل التابعة للصليب الأحمر والتي احتجزت أول ثلاثة رهائن إسرائيليين تم إطلاق سراحهم، يقوم الجيش الإسرائيلي بتدمير جنين بشراسة لم تخمد 15 شهراً من الحرب المستمرة في غزة ولو جزءاً منها.
ما من شك في أن صور إطلاق سراح الرهائن في مدينة غزة قد سببت صدمة للجمهور الإسرائيلي الذي تغذى على أساطير النصر المطلق، فوفقاً للصحفي الإسرائيلي فراي الذي أوضح لموقع ميدل إيست آي: “بعد عام و4 أشهر من إيهام الجمهور بالمعلومات والروايات التي لا أساس لها عن قصص النصر والانتقام، يرى الجمهور الإسرائيلي من غزة صور سيارات تويوتا وأعضاء حماس المسلحين وغزة تنهض من تحت الأنقاض”.
لقد أصبحت الحرب عبئاً ثقيلاً على الحكومة والجيش والمجتمع ككل، فالمجتمع الإسرائيلي منقسم كما لم يحدث من قبل، ولم يسبق أن كان هناك هذا المستوى من المعارضة الداخلية ضد الحرب أثناء خوضها
رغم تزامن المشهدين، إلا أن الهجوم البري الأخير على مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية كان مخططاً له مسبقاً، ولكن اختيار التوقيت كان بهدف إبقاء وزير المالية الإسرائيلي والقنصل العام الفعلي للضفة الغربية المحتلة، بتسلئيل سموتريتش، في الحكومة عندما هدد بالاستقالة بسبب وقف إطلاق النار في غزة.
في حقيبة الإغراء المعدة لسموتريتش، كان هناك أيضاً الوعد بتطهير قيادة الجيش، فالجنرال هرتسي هاليفي، رئيس الأركان الذي استقال هذا الأسبوع، ورغم ما فعله في غزة، إلا أن رئيس الأركان القادم سوف يكون أشد وطأة من هاليفي!
في اللحظة التي كان فيها ترامب يرفع العقوبات عن مستوطنين متطرفين، كان هناك آخرون ممن هاجموا الفلسطينيين في بلدة الفندق الفلسطينية، وكأن إسرائيل قد ضغطت على زر الإيقاف المؤقت في غزة ليس من أجل شيء إلا إطلاق العنان لنفسها لتمارس جحيماً في الضفة الغربية!
في غضون ساعات، كانت هناك 10 جثث ملقاة في شوارع جنين، أفلا يعطي ذلك ملحماً عن نمط ولاية ترامب الثانية؟!
تكرار للعلاقة “الحلم”
لا يمكن لأحد أن يجادل في الحقائق، فكل التفاصيل باتت جاهزة لتكرار العلاقة “الحلم” مع إسرائيل والتي حققها ترامب خلال فترة ولايته الأولى، حيث سمح ترامب لإسرائيل بضم مرتفعات الجولان المحتلة، واستخدام اتفاقات أبراهام كأداة لدفن القضية الفلسطينية ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس.
الإسرائيليين قد سئموا فقط من الحرب، وذلك بسبب التكلفة التي دفعوها هم أنفسهم في أرواح الجنود والجرحى والتكلفة التي تكبدها الاقتصاد والأثر الذي أحدثته الحرب على أسلوب حياتهم الغربي السهل الذي يعيشه هذا الجيل من الإسرائيليين
ومنذ بداية ولايته الثانية والأخيرة، عين ترامب مايك هاكابي، الذي يعتقد أنه لا يوجد شيء اسمه فلسطيني، سفيراً، كما عين وزيراً للدفاع صرح بأنه يجب بناء معبد ثالث على أنقاض المسجد الأقصى، كما عين مبعوث السلام للمنطقة ستيف ويتكوف الذي يريد “نقل سكان غزة إلى إندونيسيا”.
من خلال اختياراته هذه، لقد أوضح ترامب نفسه بشكل لا لبس فيه بأنه لا يهتم البتة بمصير 7 ملايين فلسطيني، فهو مهتم بغزة باعتبارها أكبر موقع هدم في العالم، ناظراً فقط إلى الفرصة التي تمثلها المنطقة المطلة على الشاطئ، حيث قال: “يمكن القيام بأشياء جميلة هناك، أشياء رائعة”.
الحقيقة أن ترامب لا يهتم بأي عربي سواء كان غنياً أو فقيراً، وإنما يمتد تعاطفه مع السعودية إلى الحد الذي يرغب فيه محمد بن سلمان، ولي العهد، في فتح محفظته فقط، حتى عندما سُئل عن رحلته الخارجية الأولى، ذكر الرياض لأن السعودية سوف تدفع 450 مليار دولار لشراء منتجات أمريكية، فقال: “لا أعلم إذا أرادت السعودية 500 مليار دولار فسوف نضعها في حساب التضخم”.
هل يريد ترامب أن يثبت مرة أخرى، من خلال اختياراته لإدارته وتجاهله للإبادة الجماعية، بأنه الشخصية المثالية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو؟ وهل تكون سياسة نتنياهو القديمة بمثابة إجهاض للدولة الفلسطينية حتى من قبل أن تولد؟!
إن حلم ترامب بوجود دولة إسرائيل تحت سيطرة الصهيونية الدينية موجود بالتأكيد، فالصهيونية الدينية باتت تسيطر على الكثير من المناصب ومراكز القوى داخل إسرائيل أكثر من أي وقت مضى، فهي تسيطر على الضفة الغربية وشرطة الحدود، وقد وصلت إلى أعلى المستويات في الجيش وسحقت المحاكم، وقد أصبح لها الآن صوت في مجلس الوزراء لا يمكن لنتنياهو أن يتجاهله.
كل هذا صحيح، ولكن الفرق أن ترامب ونتنياهو لم يعودا يعيشان في العالم الذي ظنا أنهما رسماه وسيطرا عليه في عام 2017، فإذا ما تُركت إسرائيل بمفردها، فقد تصبح مصدراً لعدم الاستقرار في المنطقة، وبالتالي بالنسبة لترامب.
لا وطن لكبار السن
لقد استخدم نتنياهو هذا التعبير خلال اجتماعه القصير مع ويتكوف كذريعة للتوصل إلى وقف إطلاق النار الذي كان من الممكن أن يضمنه في يوليو الماضي، ولكنه ماطل حتى وصل لأسباب داخلية متزايدة أجبرته اليوم على القيام بذلك.
تدلل استطلاعات الرأي الإسرائيلية على وجود تناقض، حيث يعتقد 62% من الإسرائيليين أنه لا يوجد أبرياء في غزة، وفي نفس الوقت فإن 60-70% منهم يؤيدون إنهاء الحرب، ويرجع سبب التناقض هذا إلى الغياب التام لأي تعاطف مع الفلسطينيين.
السبب الحقيقي هو أن الإسرائيليين قد سئموا فقط من الحرب، وذلك بسبب التكلفة التي دفعوها هم أنفسهم في أرواح الجنود والجرحى والتكلفة التي تكبدها الاقتصاد والأثر الذي أحدثته الحرب على أسلوب حياتهم الغربي السهل الذي يعيشه هذا الجيل من الإسرائيليين.
لقد أصبحت الحرب عبئاً ثقيلاً على الحكومة والجيش والمجتمع ككل، فالمجتمع الإسرائيلي منقسم كما لم يحدث من قبل، ولم يسبق أن كان هناك هذا المستوى من المعارضة الداخلية ضد الحرب أثناء خوضها.
لم يخفف وقف إطلاق النار في لبنان الضغط على نتنياهو، بل زاد عليه الضغط، فنتنياهو، الذي يقترب من منتصف فترة ولايته الحالية كرئيس للوزراء، يعلم أنه سوف يتم القضاء عليه في الانتخابات المقبلة إذا استمر على هذا النحو.
والسؤال هنا، إذا كانت إسرائيل مرهقة من الحرب كما تشير استطلاعات الرأي، فلماذا تبدأ حرباً أخرى في الضفة الغربية، ولماذا احتلت مساحة أكبر من الأراضي السورية مقارنة بما تحتله حالياً في غزة؟!
ضم جزئي
لقد نجح نتنياهو مرة أخرى في تقديره لما يمكن أن تتسامح معه واشنطن، فترامب لم يوقف حرب غزة إلا من أجل الرهائن الإسرائيليين، وبمجرد عودتهم، تستطيع إسرائيل أن تفعل ما تريد في غزة أو الضفة الغربية.
نحن نتعامل مع إدارة أمريكية ليس لديها أدنى فكرة عن هوية الفلسطينيين أو ماهيتهم، فهم ينظرون إلى المنطقة من منظور إسرائيل فقط، وهذا ما فعلته أمريكا دوماً إلا أنها اليوم أقصر نظراً، وهذه وصفة مناسبة لكارثة تنذر بمزيد من الصراع في المستقبل، وسرعان ما يتحول وقف إطلاق النار في غزة إلى ذكرى!
في رده على سؤال حول مستقبل وقف إطلاق النار أثناء توقيعه على أوامر تنفيذية في المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، قال ترامب: “إنها ليست حربنا، إنها حربهم، وأنا لست واثقاً مما سيحدث لكنني أعتقد أنهم ضعفاء للغاية على الجانب الآخر”.
يدرك نتنياهو أيضاً بأن الهجوم العسكري في الضفة الغربية واستبدال هاليفي هما ثمن إبقاء سموتريتش إلى جانبه، فقد صرح سموتريتش بأن الفترة المقبلة سوف تشهد تغيير في القيادات العسكرية العليا تمهيداً لاستئناف الحرب على قطاع غزة.
من جانبه، يعكف فريق ترامب على تنفيذ عملية في الضفة الغربية لتفكيك مخيمات اللاجئين استعداداً للضم الجزئي، فمرشحة ترامب لمنصب سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، إليز ستيفانيك، تعتقد أن إسرائيل تتمتع بالسيادة الدينية على يهودا والسامرة على حد تعبيرها، ففي نظرها، ليس للفلسطينيين حق كشعب.
ولا يقتصر هدف نتنياهو على الضم فقط، فهو يعلم أن تصرفاته في جنين لن تؤدي إلى تدمير المدينة فحسب، بل إلى تدمير السلطة الفلسطينية نفسها، وهي هيئة تعيش بالفعل على أجهزة الإنعاش فلم يعد بإمكانها البقاء كمساعد للآلة العسكرية الإسرائيلية في هدم جنين وطولكرم ونابلس وجميع مراكز المقاومة الأخرى.
أعتقد أننا سوف نرى انشقاقات متزايدة في قوات الأمن الوقائي المسلحة والمدربة كما رأينا في الانتفاضة الثانية، وهذا أمر يعرفه نتنياهو جيداً.
ما هو أكبر “كعب أخيل” إسرائيل؟
بالنسبة لنتنياهو، فإن ترتيبات الحكم التي يرغب في رؤيتها في مرحلة ما بعد الحرب في الضفة الغربية سوف تكون هي نفسها التي كانت عليه في غزة، أي العودة إلى أيام الصفقات الفردية مع من يسيطرون على كل مدينة ومجتمع.
مثل غزة، فإن الضفة الغربية سوف تكون تحت الحكم العسكري الإسرائيلي الدائم، ولكن هنا يكمن اختلاف رئيسي آخر عن ولاية ترامب الأولى، فإسرائيل ربما خسرت هذه المرة جيلاً كاملاً من اليهود الأمريكيين بسبب الوحشية التي أظهرتها في غزة، فقد فقدت تعاطف ودعم المنطقة برمتها.
في المقابل، فقد وصل جيل جديد من المستبدين إلى السلطة في السعودية والإمارات، والذين كانوا غير مبالين بالقضية الفلسطينية، فقبل أن تدمر غزة، كانت إسرائيل بالفعل على أعتاب نصر كامل، إلا أن إساءة قراءة إسرائيل للعرب الذين تعيش بينهم هي نقطة ضعفها الأكبر.
لا يزال يتعين على إسرائيل أن تستوعب حقيقة مفادها أن حربها على غزة قد أثارت غضب جيل كامل من العرب وأثارت حماسهم على نحو لم يحدث في أي حرب من قبل، فما الذي يمكن أن يحفز المغربي على التخلي عن غبار الذهب الناتج عن الإقامة الدائمة في البطاقة الخضراء في أمريكا من أجل الموت المحقق في هجوم بسكين في شوارع تل أبيب؟
إن إسرائيل غافلة تماماً عن المنطقة التي تعيش فيها، بل حتى أنها لا ترى أن الأمر يستحق الاهتمام بها إلا بالتصرف كأكبر متنمر في الملعب!
إذا مضت إسرائيل قدماً في خططها بالضفة الغربية، فسوف تزيد من تطرف 6 ملايين فلسطيني في الأردن وملايين سكان الضفة الشرقية بشكل لم يسبق له مثيل، وسوف يتعين على جيش ترامب الأمريكي أن يتحرك، لأنه يمتلك الكثير من الأصول والقواعد في المنطقة.
لقد حذر وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي مرات لا تحصى من هذه العواقب وتم تجاهله، حيث قال الصفدي: “الضفة الغربية على حدودنا والوضع خطير، وما يحدث هناك قد يزعزع أمن المنطقة”،
وبالتأكيد لن يكون ترامب في وضع يسمح له بتجاهل انهيار الأردن إذا حدث، فالمشكلة لن تكون “مشكلتهم” فحسب، بل مشكلته أيضاً آنذاك، لأن ذلك من شأنه أن يهدد التأثير العسكري الأمريكي بأكمله في المنطقة.
نحن نتعامل مع إدارة أمريكية ليس لديها أدنى فكرة عن هوية الفلسطينيين أو ماهيتهم، فهم ينظرون إلى المنطقة من منظور إسرائيل فقط، وهذا ما فعلته أمريكا دوماً إلا أنها اليوم أقصر نظراً، وهذه وصفة مناسبة لكارثة تنذر بمزيد من الصراع في المستقبل، وسرعان ما يتحول وقف إطلاق النار في غزة إلى ذكرى!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)