حكم محكمة العدل الدولية يمثل انتصاراً لجنوب أفريقيا يحمل ملامح تحول في النظام العالمي القائم!

بقلم زينات آدم

ترجمة وتحرير مريم الحمد

لقد أصدرت محكمة العدل الدولية في لاهاي حكماً لم يكن متوقعاً حول التدابير المؤقتة في قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل، فجاء حكمها لصالح جنوب إفريقيا من الناحية النظرية.

رغم فشل المحكمة في الدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار، كما كان مأمولاً، واعتمادها بدلاً من ذلك للغة أكثر ليونة ودبلوماسية، إلا أن الحكم يظل مهماً بسبب اعترافه ضمنياً بملامح إبادة جماعية ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين. 

ظل السؤال الملح حتى صدور الحكم حول ما إذا كانت أعلى محكمة عالمية قادرة على إصدار أحكام عادلة ودون عوائق سياسية الطابع أم لا، وتتمثل الإجابة بشكل ما في غياب كلمة “وقف إطلاق النار” والتي تشير إلى مستوى من التسوية السياسية لإرضاء حلفاء إسرائيل الغربيين.

كانت قوة الطرح التي قدمتها جنوب أفريقيا سبباً في تشجيع دول أخرى على تقديم الدعم والاهتمام بالانضمام إلى جنوب أفريقيا، وهو ما تمت قراءته على أنه ملامح بداية تحول في بلدان الجنوب العالمي نحو اللجوء للقانون العالمي الذي وضعته الأجندات السياسية الإمبريالية

ومع ذلك، فقد رحب الجميع بالحكم باعتباره انتصارًا للفلسطينيين والجنوب العالمي ضد النظام الإمبريالي الغربي، حتى أن جنوب إفريقيا مضت في تقديم ملف القضية رغم التصريحات العدوانية من جانب الإدارة الأمريكية، مؤكدة بذلك على التزامها الأخلاقي لمنع الإبادة الجماعية في غزة.

تدابير مؤقتة

في 29 ديسمبر، رفعت جنوب أفريقيا دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية، تطلب فيها إصدار أمر قضائي عاجل ضد إسرائيل على أساس أن الهجمات الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر تمثل انتهاكاً لاتفاقية الإبادة الجماعية والتي وقعت عليها إسرائيل وجنوب إفريقيا.

في 11 بناير، قدمت جنوب إفريقيا قضيتها في جلسة استماع أمام المحكمة، تبعها جلسة استماع لإسرائيل في اليوم التالي، لكن الطرح بين الجلستين كان متبايناً بشكل واضح، فمن جانب حظي الفريق القانوني لجنوب أفريقيا بالثناء على مستوى العالم بسبب الحجج الواضحة والقضية المترابطة التي تم تقديمها بين يدي المحكمة، في الوقت الذي افتقر فيه الدفاع الإسرائيلي إلى الأدلة.

مجرد الإشارة إلى أن من أفعال إسرائيل ما قد يندرج تحت ملامح إبادة جماعية هو نتيجة مهمة وغير مسبوقة

كانت قوة الطرح التي قدمتها جنوب أفريقيا سبباً في تشجيع دول أخرى على تقديم الدعم والاهتمام بالانضمام إلى جنوب أفريقيا، وهو ما تمت قراءته على أنه ملامح بداية تحول في بلدان الجنوب العالمي نحو اللجوء للقانون العالمي الذي وضعته الأجندات السياسية الإمبريالية.

يرى  المدير العام لإدارة العلاقات الدولية والتعاون وعضو فريق جنوب أفريقيا إلى لاهاي، زين دانجور، أن إسرائيل “لطالما حظيت بالإفلات المؤسسي من العقاب على انتهاكات مختلفة للقانون الدولي، بما في ذلك جرائم الحرب، وذلك بسبب دعم القوى الغربية لها، والآن تم اختراق ذلك لأول مرة، وصار لزاماً على تلك الأنظمة أن تحاسب إسرائيل على أفعالها”.

طلبت جنوب إفريقيا من محكمة العدل الدولية إصدار أمر قضائي مؤقت بشأن 9 تدابير، على رأسها الوقف الفوري لجميع العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد غزة، واتخاذ جميع التدابير المعقولة لمنع الإبادة الجماعية للفلسطينيين، والكف عن ارتكاب ما يدل على وجود جريمة إبادة جماعية.

وفي بند آخر من الحكم،  فقد أمرت المحكمة بوصول الفلسطينيين  إلى المساعدات الإنسانية دون عوائق، بما في ذلك الغذاء والماء والوقود والإمدادات الطبية والنظافة، فضلاً عن المأوى والملبس، كما دعت المحكمة إلى اتخاذ إجراءات عقابية ضد التحريض على الإبادة الجماعية.

في قراءتها للحكم، تطرقت رئيسة المحكمة، جوان دونوغو، إلى اختصاص المحكمة للنظر في القضية، مؤكدة أن قضية جنوب إفريقيا قانونية الشكل، فتحدثت عن نزاعها مع إسرائيل بشكل مناسب في العديد من الارتباطات الثنائية والمتعددة الأطراف، كما اقتبست أيضًا من تصريحات الحكومة الإسرائيلية التي اعترفت بالدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا، حيث تم وصف الدعوى بأنها “غير متماسكة من الناحية القانونية والواقعية، ولكنها فاحشة”.

هذا يدل على أن الطرفين لديهما وجهات نظر متعارضة فيما يتعلق بالتزاماتهما تجاه اتفاقية الإبادة الجماعية، وبالتالي فإن قيام إحدى الدولتين بعرض القضية على المحكمة أمر مقبول،  أما النتيجة فهي انتصار لجنوب أفريقيا، خاصة مع رفض الالتماس الذي قدمته إسرائيل إلى المحكمة لإلغاء الأمر.

حسب تأكيدات أحد القضاة في المحكمة، القاضي دونوهيو، فليس من المتوقع في الوقت الحالي أن تتوصل المحكمة إلى نتيجة بشأن ما إذا كانت أعمال الإبادة الجماعية قد حدثت أم لا، ولكن مجرد الإشارة إلى أن من أفعال إسرائيل ما قد يندرج تحت ملامح إبادة جماعية هو نتيجة مهمة وغير مسبوقة.

في قراءة الحكم،  تطرقت القاضية إلى الحديث عن السكان الفلسطينيين في غزة والذين يبلغ عددهم أكثر من 2 مليون شخص، باعتبارهم مجموعة محددة الملامح (وذلك ما يتماشى مع التعريف الوارد في اتفاقية الإبادة الجماعية).

تطرقت القاضية في حديثها أيضاً إلى الاعتراف بالتقارير الواردة من مصادر موثوقة عن عدد القتلى والأضرار الجسيمة التي لحقت بالبنية التحتية وتشريد 1.9 مليون فلسطيني، ووصف وكيل الأمين العام للأمم المتحدة مارتن غريفيث بأن غزة أصبحت مكاناً “للموت واليأس، وأن غزة باتت غير صالحة للسكن، حيث يواجه 93% من السكان أزمة جوع وعواقب أخرى قاتلة.

إضافة إلى ذلك، فقد أشارت أيضاً إلى التصريحات التحريضية التي أدلى بها وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت في وقت مبكر في 9 أكتوبر، حين أشار إلى حصار متعمد على سكان غزة، واصفاً إياهم بأنهم “حيوانات بشرية”.

أكدت القاضية كذلك على أن سلطة المحكمة لن تقتصر على تحديد انتهاكات الاتفاقية حاليًا، بل سوف تركز على تحديد وجود خطر حقيقي وشيك لانتهاك الحقوق، مع الإشارة أيضًا إلى أن كلمة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، حول استمرار العملية العسكرية على غزة لعدة شهور أخرى.

“وقف إطلاق النار” ضمني

لقد كانت سردية الحكم الصادر قوية وحازمة، الأمر الذي خلق انطباعاً بأن جميع طلبات جنوب إفريقيا سوف يتم الاستجابة لها، لكن المحكمة في نهاية المطاف خففت لهجة الحكم النهائي.

أمرت المحكمة إسرائيل باتخاذ تدابير عملية فورية في حدود سلطتها لمنع الإبادة الجماعية ووقف جيشها عن ارتكاب مثل هذه الأفعال، وضمان توفير المساعدات الإنسانية، ومنع التحريض العلني والمعاقبة عليه، وتقديم تقرير إلى المحكمة بشأن التدابير المتخذة في غضون شهر من صدور الحكم، دون أمر واضح وصريح بوقف إطلاق النار.

كانت وزيرة خارجية جنوب إفريقيا، ناليدي باندور، على رأس الوفد الذي ذهب إلى محكمة العدل الدولية للاستماع إلى الحكم في قصر السلام، ففي تصريحاتها قبل صدور القرار، أكدت على أن الهدف الأساسي لقضية جنوب أفريقيا هو “تسليط الضوء على محنة الأبرياء في فلسطين وتنبيه المجتمع الدولي إلى خطر ذلك، فبعد تقديم الدعوى أصبحت القضية الفلسطينية في مقدمة اهتمامات العالم، وهذا إنجاز كبير لجنوب أفريقيا “.

أما بعد صدور الحكم، فقد بدت باندور محبطة بسبب عدم وجود كلمة “وقف” في القرار، ومع ذلك، فإن القرار وإن لم يدعو صراحةً إلى وقف إطلاق النار، إلا أنه يعني ذلك ضمنياً، فلا يمكن تنفيذ أحكام منع الإبادة الجماعية إلا بوقف إطلاق النار!

وفي خطاب متلفز بعد صدور الحكم، أشاد رئيس جنوب أفريقيا، سيريل رامافوسا، بقرار المحكمة باعتباره انتصاراً للقانون الدولي وحقوق الإنسان والعدالة، مؤكداً على أن جنوب إفريقيا رحبت بالقرار.

قيام دولة خرجت من الاستعمار و ذاقت ويلات جريمة الفصل العنصري بالتقدم بالدعوى له رمزية كبيرة، فجنوب إفريقيا اعتبرت ذلك واجبًا باعتبارها دولة طرفًا في اتفاقية الإبادة الجماعية

جاء في خطابه: “يمثل هذا الحكم خطوة أولى مهمة في سعينا لتحقيق العدالة لشعب غزة، ونتوقع من إسرائيل، باعتبارها دولة ديمقراطية نصبت نفسها ودولة تحترم سيادة القانون، أن تقوم بالالتزام بالتدابير التي أصدرتها المحكمة، فبعد أكثر من نصف قرن من الاحتلال والسلب والقمع والفصل العنصري، استجابت أخيراً هيئة بارزة في الأمم المتحدة لصرخات الشعب الفلسطيني من أجل العدالة، فاليوم، تقف إسرائيل أمام المجتمع الدولي، وقد انكشفت جرائمها ضد الفلسطينيين، نحن نعرف كيف يبدو الفصل العنصري، وقد عايشناه ونحن، كجنوب أفريقيين، لن نكون متفرجين سلبيين ونشاهد، فالجرائم التي ارتكبت ضدنا في السابق يتم ارتكابها اليوم في أماكن أخرى،  نحن نقف إلى جانب الحرية للجميع، نحن نقف إلى جانب العدالة”.

أما إسرائيل، فلم تكترث بقرار المحكمة واستمرت بقصف المدنيين في غزة، حتى أن عدداً من القادة الإسرائيليين وصف المحكمة بأنها “معادية للسامية”.

ردود أفعال متباينة

بين غزة والضفة الغربية، ومدن أخرى حول العالم، تباينت ردود الأفعال حول قرار المحكمة، فقد أعرب المدنيون في غزة بعد مرور 112 يومًا من القصف المتواصل، عن خيبة أملهم إزاء فشل المحكمة الدولية في الدعوة بشكل نهائي إلى وقف إطلاق النار.

من جانبها، أشادت لجنة التنسيق الفلسطينية المناهضة للفصل العنصري بالحكم باعتباره هزيمة لإسرائيل، وجاء في بيانها: “صحيح أن المحكمة لم تأمر صراحة بوقف فوري ودائم لإطلاق النار لوقف الإبادة الجماعية، إلا أنه يجب الآن الضغط على الدول أكثر من أي وقت مضى للوفاء بالتزاماتها القانونية وفرض وقف إطلاق النار على إسرائيل”.

وقد أعرب آخرون عن عميق امتنانهم وتكريمهم لجنوب أفريقيا، فخطوتها نحو تقديم الدعوى من الأساس عزز وجهات النظر السائدة على نطاق واسع بأن إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية.

من الناحية الإجرائية، من المتوقع الآن أن تقوم جنوب أفريقيا بإخطار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رسميًا بأمر المحكمة عملاً بالمادة 41 (2) من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، ولكن الحقيقة أنه الجهاز الأمني ​​الرئيسي للأمم المتحدة مصاب بالشلل بسبب الفيتو الأمريكي بعد فشل 3 قرارات سابقة تدعو إلى وقف إطلاق النار!

سوف تظل القضية بين جنوب أفريقيا وإسرائيل مستمرة في لاهاي لفترة طويلة تمتد لسنوات بعد الجلسة الأخيرة، وتلك لحظة مهمة، لأن  تحرك جنوب أفريقيا الشجاع لاستدعاء اتفاقية الإبادة الجماعية في أعلى هيئة قضائية عالمية وانتصارها التاريخي يحمل ملامح تحول في النظام العالمي القائم.

سوف يكون للقرار المؤقت الذي اتخذته المحكمة الدولية تداعيات دولية بعيدة المدى

من جانب آخر، فإن قيام دولة خرجت من الاستعمار و ذاقت ويلات جريمة الفصل العنصري بالتقدم بالدعوى له رمزية كبيرة، فجنوب إفريقيا اعتبرت ذلك واجبًا باعتبارها دولة طرفًا في اتفاقية الإبادة الجماعية، وفقاً لدانجور.

دائماً ما تظهر إسرائيل عدوانية في معاداتها لأحكام القانون الدولي، وتحرص على استحضار قضية المحرقة والإبادة الجماعية لليهود الأوروبيين من أجل ارتكاب جرائم ضد الفلسطينيين مع الإفلات من العقاب.

في سابقة من نوعها، فسوف يكون للقرار المؤقت الذي اتخذته المحكمة الدولية تداعيات دولية بعيدة المدى، ولكن هل يمكن أن تتضمن فرصة لحلفاء إسرائيل الغربيين بتصحيح سياساتهم المنافقة المتمثلة في دعم الفصل العنصري والعنف والحصار والضم باسم الأمن والدفاع عن النفس؟!

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة