دعم بريطانيا للصهيونية هو السبب وراء 76 عاماً من صراع ما زال مستمراً

بقلم ديفيد هيرست

ترجمة وتحرير مريم الحمد

يعيش الرئيس الأمريكي جو بايدن مع الكونغرس الأمريكي ووزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون في عالم موازٍ بالفعل، ففي عالمهم، كان من الممكن أن وقف إطلاق النار غداً بمجرد تسليم حماس للأسرى لديها دون تفاوض يذكر!

في عالمهم أيضاً، يعد الضغط المستمر على حماس الطريقة الوحيدة لإجبار الحركة على إطلاق سراح هؤلاء الأسرى، ومن هنا يجب تسليح إسرائيل لتقوم بالضغط، وهذا تفسير قيام القوات الإسرائيلية بشن “عمليات دقيقة” شرق رفح الآن، على اعتبار أنها لا تريد تجاوز الخط الأحمر الذي وضعه بايدن حول استخدام القنابل الثقيلة التي زودتها بها الولايات المتحدة.

“إنها مجرد شحنة واحدة تأخرت، ولم تتجاوز إسرائيل الخط الأحمر في رفح” – جاك لوي- السفير الأمريكي لدى إسرائيل

من المفارقة أن السيناتور الأمريكي غريب الأطوار، ليندسي جراهام، هو المتحدث الأكثر بلاغة في التعبير عنهم، حين استحضر ما فعلته القنبلة النووية الأمريكية في هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين في الحرب العالمية الثانية، باعتبار ذلك حلاً للتعامل مع غزة وسبباً لتسليح إسرائيل بالقنابل التي تحتاجها لإنهاء الحرب  عبر إسقاط 200 رأس نووي على غزة دفعة واحدة!!

أما في العالم الحقيقي، فقد انسحبت الولايات المتحدة من اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه بوساطة مصرية، والذي وقعت عليه حماس وكان برعاية مدير وكالة الاستخبارات المركزية بيل بيرنز، كما قام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتحدي بايدن عبر قيامه بشن أكبر هجوم على جميع أنحاء غزة منذ بدء الحرب وقطع جميع المساعدات باستثناء كميات رمزية.

في العالم الحقيقي أيضاً، تستمر القوات الإسرائيلية بقصف شرق رفح ووسط وشمال قطاع غزة، فيما تتعرض جباليا في الشمال والزيتون في مدينة غزة والنصيرات في الوسط ورفح في الجنوب لقصف مكثف في وقت واحد.

في العالم الحقيقي، تم إغلاق معبر رفح، نقطة الدخول الرئيسية للمساعدات، وبشكل كامل، ولم يعد يُسمح إلا بدخول 6 شاحنات فقط من المساعدات عبر معبر في كرم أبو سالم الإسرائيلي.

وفي العالم الحقيقي، أكدت الأونروا على نزوح ما يقرب من 450 ألف شخص شمالاً، متجهين إلى مدينتي خان يونس ودير البلح المدمرتين، بينما يتجه عشرات الآلاف في مدينة غزة جنوباً هرباً مما وصفه برنامج الأغذية العالمي بـ “المجاعة الشاملة”.

في العالم الحقيقي، أصبح نصف سكان غزة على وشك التكدس في وسط غزة، حيث لا طعام ولا مياه عذبة للتعامل مع هذا التدفق من اللاجئين، وفوق ذلك كله لا يوجد مكان آمن للفرار إليه!

كشف الخداع في خطاب بايدن

سلوك نتنياهو تسبب بكشف الخداع في خطاب بايدن، فنتنياهو لا يتصرف بمنطق “بغض النظر عن التكاليف البشرية”، فالتكلفة البشرية بالنسبة له هي هدف من أهداف الحرب، توافقه في ذلك المؤسسة العسكرية بالإضافة إلى أغلبية واضحة من الإسرائيليين الذين يريدون أن تكون التكلفة البشرية باهظة، وكأن 8 أشهر من المذبحة لم تروي عطشهم للانتقام بعد!

في ضوء ذلك، ما هو رد فعل بايدن على قيام حليفه الرئيسي بتجاهله؟

لقد قدم بايدن إجابتين في هذا السياق، أولهما أن الهجوم على رفح لم  يحدث، وبالتالي لم يتم تجاوز أي خطوط حمراء، والإجابة الثانية أن اللوم في هذا الهجوم إن كان موجوداً، فإنه يقع على عاتق حماس.

اختصرها السفير الأمريكي لدى إسرائيل، جاك لوي، حين هز كتفيه كتفيه قائلاً: “إنها مجرد شحنة واحدة تأخرت، ولم تتجاوز إسرائيل الخط الأحمر في رفح”.

وفي الواقع، اتفق بايدن مع إسرائيل، حيث صرح في حفل لجمع التبرعات في سياتل قائلاً: ” إسرائيل قالت أن الأمر متروك لحماس،  فإذا أرادوا الاشتباك في رفح، يمكننا إنهاء الأمر غداً، ويبدأ وقف إطلاق النار غداً”.

لا شك أن كلا العذرين ضرب من الهراء، فلو تمكنت حماس من “إنهاء كل ذلك الآن” لكان قد تم التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار قبل أشهر، لكن رفض إسرائيل “إنهاء كل ذلك الآن” قبل استئصال حماس هو الذي أدى إلى انهيار المفاوضات الأخيرة، حيث وقعت حماس على اتفاق وقف إطلاق النار الذي كان سيضمن وقفاً دائماً للقتال، لكن إسرائيل رفضته، ومع ذلك تستمر الولايات المتحدة في دعمها!

ماذا سيحصل لو أعادت القوات الإسرائيلية احتلال 3 كيلومترات من أصل 16 كيلومتراً من الأرض التي يطلق عليها ممر فيلادلفيا، ولكن ماذا سيحدث لمصر لو احتلت إسرائيل الحدود بأكملها؟

هذه الحرب لا تتعلق بإعادة الرهائن، فاستمرار الحرب، يعني نقصان عدد الأسرى الإسرائيليين الـ 128، والذين يُعتقد أنهم ما زالوا على قيد الحياة، ولكنهم قد يموتون بالقصف الإسرائيلي وليس على يد حماس.

تحيز بريطاني كامل لإسرائيل

لقد ظهر كاميرون بمظهر أسوأ حتى من بايدن، إن صح التعبير، ففي عدة مقابلات، أشار إلى أن قطع الأسلحة عن إسرائيل من شأنه أن يقوي حماس، حتى أنه انتقد هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) لعدم وصفها حماس بأنها منظمة إرهابية.

لقد رفض كاميرون عودة التمويل البريطاني للأونروا، رغم أن المراجعة المستقلة التي أجرتها الأمم المتحدة برئاسة وزير خارجية فرنسي سابق لم تجد أي دليل يدعم مزاعم إسرائيل بأن من موظفي الأونروا من هم أعضاء في حماس.

رد اللورد كاميرون بسخرية حين سئل عن تمويل الأونروا قائلاً: “نحن أكثر تطلباً من ذلك”، حقًا؟ لذا، فإن مطالبة المملكة المتحدة بقطع التمويل دون التحقيق في هذه الادعاءات، يجب أن يستند على “معلومات متاحة للعامة” فقط!

لقد قام أكثر من 50 نائباً وعضواً في مجلس اللوردات بحث كاميرون على استعادة التمويل، معتبرين أنه بذلك يرسل “رسالة تضامن قوية إلى المتضررين من الأزمة في غزة”، ولكن تم تجاهل كل شيء، ففي عهد كاميرون، أصبحت بريطانيا متحيزة ومتحالفة بشكل كامل مع الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل!

مثل إسرائيل، فإن بريطانيا عازمة على تدمير الأونروا ومعها الحماية القانونية الدولية الوحيدة التي يتمتع بها اللاجئون الفلسطينيون في جميع أنحاء العالم، فيما يبدو أن كاميرون قد تبنى منطق ستالين حين قال:”لا يوجد رجل، إذن لا مشكلة”، ولكن في هذه الحالة “لا يوجد لاجئون، إذن لا مشكلة”.

مثل إسرائيل أيضاً، تريد بريطانيا أن تنتهي هذه الحرب فقط عندما يتم تدمير حماس، وبما أن بريطانيا تصر على هدف لا يمكن تحقيقه، فهي تدعم إعادة الاحتلال الدائم لغزة

مثل نتنياهو، تجاهل كاميرون وفاة الأسير البريطاني الإسرائيلي نداف بوبلويل، الذي توفي متأثراً بجراحه التي أصيب بها في القصف الإسرائيلي، كما التزم كاميرون الصمت حول قضية إغلاق معبر رفح، حتى عندما تحدث لبي بي سي قائلاً أن المملكة المتحدة “لا تدعم عملية كبيرة في رفح دون خطة”، وصمت عن نزوح قرابة نصف مليون لاجئ شمالاً من رفح إلى منطقة ليس لديها القدرة على إطعامهم ومياههم.

ترفض بريطانيا دعم أي إجراء قانوني في المحكمة الجنائية الدولية أو محكمة العدل الدولية، مستخدمة ورقة التوت التي من شأنها أن تعرقل المفاوضات التي انسحبت منها إسرائيل بالفعل، فللمرة الثانية في هذه الحرب، يعطي بايدن وكاميرون نتنياهو ضوءاً أخضر واضحاً لمواصلة هذه الحرب، بتعمد استهداف سكان غزة ككل.

جسر بعيد

بتراجعه عن خطة وقف إطلاق النار التي وقعتها حماس، يتجاهل بايدن حقيقة مزعجة، فمقترح الصفقة لم يكن ضد حماس، كما قال أحد المسؤولين الأميركيين، بل كان وثيقة صاغتها مصر، ولذلك فإن رفضها كخطة سلام ولد مستويات من الغضب والإحساس بالذل  في القاهرة.

لم تحسن التسريبات الإسرائيلية لوسائل الإعلام من المزاج السيء في القاهرة، ففي الليلة التي احتل فيها الجيش الإسرائيلي الجانب الفلسطيني من معبر رفح، نقلت وسائل إعلام إسرائيلية عن مصدر لم يذكر اسمه قوله إن إسرائيل أبلغت مصر أن هذا توغل محدود، وسينتهي بحلول الصباح، ولكن بزغ فجر ذلك اليوم على رفع علم إسرائيلي كبير فوق المعبر!

في الوقت نفسه، استمرت مصادر أمنية إسرائيلية في تغذية وسائل الإعلام الإسرائيلية بتسريبات عن تعاون مع مصر من تحت الطاولة، تعمل فيه القاهرة مع إسرائيل لإنهاء الأنفاق تحت الحدود، وأن القاهرة وافقت على خطة لتولي شركة أمريكية خاصة إدارة معبر رفح.

بين عشية وضحاها، بدأت وسائل الإعلام المصرية المرخصة رسمياً بالإشادة بما فعلته كتائب القسام، حيث أعلن عمرو أديب مثلاً، أن إسرائيل خسرت مصر، بعد الإعلان عن نية مصر الانضمام إلى جنوب إفريقيا في قضيتها المتعلقة بالإبادة الجماعية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية.

ومع ذلك، فإذا نظرنا إلى الماضي، نجد أنه كان هناك تفاهم ضمني بين إسرائيل ومصر حول إعادة احتلال معبر رفح، فمنذ شهر يناير الماضي، ذكرت القناة 13 الإسرائيلية، نقلاً عن مسؤولين لم تذكر أسماءهم، أن إسرائيل أبلغت مصر بنيتها إرسال قوات إلى رفح وممر فيلادلفيا بزعم تخليص المنطقة من مقاتلي المقاومة الفلسطينية، كما أشارت القناة إلى أن القاهرة أعربت عن قلقها بشأن الخطة، محذرة من أن مثل هذا الإجراء قد يؤدي إلى نزوح جماعي للفلسطينيين إلى سيناء.

من جانبها، زعمت المصادر الإسرائيلية أن احتلال رفح سيكون “خطوة مؤقتة” وأن “إسرائيل لن تبقى هناك بعد انتهاء العملية”، ولكن من الواضح أن إسرائيل نكثت بوعدها للقاهرة بل إن الخطة قد ذهبت فعلاً إلى أبعد  مما يمكن أن تتحمله مصر بكثير.

حتى الآن، أعادت القوات الإسرائيلية احتلال 3 كيلومترات من أصل 16 كيلومتراً من الأرض التي يطلق عليها ممر فيلادلفيا، ولكن ماذا سيحدث لمصر لو احتلت إسرائيل الحدود بأكملها؟

للمفارقة، فإن المصلحة المشتركة في التخلص من حماس في غزة سوف تتحول إلى تضارب مصالح، فإذا أعيد احتلال الممر بأكمله، فسوف تفقد مصر السيطرة الكاملة على الوصول إلى غزة، فضلاً عن مصدر الدخل المربح، ولا يمكن لأي دولة مصرية، تحت حكم أي زعيم تحمل ذلك، وكأن إعادة احتلال رفح قد أصبح بالفعل جسراً بعيد المنال بالنسبة لمصر.

ليس مصر فقط، وإنما هناك الإمارات، أكبر مؤيدي التطبيع مع إسرائيل، فقد أغضبها اقتراح نتنياهو حول مساعدة الإمارات في إدارة غزة بعد حماس، حيث وبخ وزير الخارجية الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان نتنياهو في منشور على موقع X، قائلاً: إن أبو ظبي تدين تصريحات الزعيم الإسرائيلي، والإمارات تؤكد أن رئيس الوزراء الإسرائيلي لا يتمتع بأي صفة قانونية لاتخاذ هذه الخطوة، كما ترفض الإمارات الانجرار إلى أي خطة تهدف إلى توفير الغطاء للوجود الإسرائيلي في قطاع غزة”.

من بلفور إلى كاميرون

لقد أصبحت رفح الكأس التي قد تسمم أي زعيم عربي، بغض النظر عن كراهيته للإخوان المسلمين أو لحماس، وبناء على ذلك، إذا لم يحدث أي تراجع آخر في سياسة بايدن الخارجية، فمن المرجح أن تستمر هذه الحرب خلال حملته الانتخابية وحتى العام المقبل.

منذ 76 عاماً،  وزال المبدعون الاستعماريون الإسرائيليون مستمرون في التشكل،  فمن اللورد بلفور، الذي مهد إعلانه عام 1917 الطريق لإقامة وطن لليهود في فلسطين، إلى اللورد كاميرون، فهي سياسة واحدة لم تتغير يوماً!

لم يذكر بلفور كلمة فلسطينيين ناهيك عن الحديث عن حقوقهم السياسية، لقد تحدث عن مجتمعات السكان الأصليين كما لو كانوا أقلية، فيما كان اليهود يشكلون 10% فقط من سكان فلسطين في ذلك الوقت.

لا يفعل كاميرون أي شيء من أجل إقامة دولة فلسطينية، إنه يتحدث عن ذلك بالكلام فقط، وفي نفس الوقت، يبذل قصارى جهده في مساعدة إسرائيل على تدمير الدولة الفلسطينية في غزة.

لقد كان وعد بلفور مثيراً للجدل في ذلك الوقت كما هو الآن، فاليهودي إدوين مونتاجو الذي كان يخدم في مجلس الوزراء البريطاني، كان قد كتب إدانة طويلة وبليغة للصهيونية واصفاً إياها بـ “العقيدة السياسية الخبيثة”، كما استطاع التنبؤ بتصرفات الصهيونية وخطواتها.

جاء في نص إدانته: “أفترض أن هذا يعني أن المسلمين والمسيحيين يجب أن يفسحوا الطريق لليهود، وأنه يجب وضع اليهود في جميع مراكز التفضيل ويجب أن يرتبطوا بشكل خاص بفلسطين بنفس الطريقة التي ترتبط بها إنجلترا مع الإنجليز أو فرنسا مع الفرنسيين، فالأتراك وغيرهم من المسلمين في فلسطين يعتبرون أجانب، تماماً كما سيتم التعامل مع اليهود فيما بعد كأجانب في كل بلد باستثناء فلسطين، وربما أيضاً يجب منح الجنسية فقط نتيجة لأسباب دينية”.

على خطى بلفور، يحكم كاميرون على بريطانيا بالتقليل من وزنها وأهميتها في الشرق الأوسط، ولكن قد حان الوقت لتقاعد الطبقة السياسية بأكملها، وظهور جيل جديد يلقي بهذه السياسة إلى المكان الوحيد الذي يستحق أن يقيم فيه وهو مزبلة التاريخ، ذلك أن دعم بريطانيا للصهيونية خلال 75 عامأً كان سبباً في استمرار الصراع، ولكن ألم يحن الوقت لتتوقف تلك البربرية الإسرائيلية؟!

للاطلاع على النص الأصلي (هنا)

مقالات ذات صلة