بقلم عابد أبو شحادة
ترجمة وتحرير مريم الحمد
قد يستغرق الأمر بعض الوقت حتى يفهم العالم كيف تمكن دونالد ترامب من فرض وقف إطلاق النار في غزة واتفاق تبادل الأسرى على إسرائيل، فذلك لم يكن بالتأكيد نابعاً من أي معارضة أيديولوجية أو أخلاقية للحرب، ولكنها رغبة نرجسية بحتة بأنه وحده يقود الإمبراطورية الأمريكية ويقرر متى تنتهي الحرب.
ويأتي وقف إطلاق النار هذا بعد 15 شهراً من تلاعب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بمهارة بإدارة بايدن، حتى تساءل الكثيرون حول العالم عن الكيفية التي تمكنت بها تل أبيب من إملاء سياسات الإبادة الجماعية في غزة على الولايات المتحدة، مما ساهم في نهاية المطاف في خسارة الديمقراطيين في الانتخابات.
وحشية إسرائيل ذكرتنا بجيوش العصور الوسطى، وهو الأمر الذي أثار تساؤلات أخلاقية جوهرية حول ماهية مجتمع إسرائيلي يبرر تجويع المدنيين ومنع المساعدات الإنسانية عن تحقيق أهداف عسكرية
واليوم علينا أن نترقب ونرى كيف ستكافأ إدارة ترامب إسرائيل ونتنياهو، في ظل جمهور إسرائيلي مصدوم من قبول نفس الصفقة التي اقترحتها إدارة بايدن قبل أشهر، الأمر الذي يثير تساؤلات حول سبب استمرار الحرب و”التضحية بأرواح الجنود” وتعريض الرهائن للخطر، وفوق كل ذلك أن أياً من أهداف الحرب الإسرائيلية لم يتحقق!
لقد فشلت إسرائيل في تفكيك حماس أو حتى في إضعاف قدراتها العسكرية، فاضطرت إسرائيل في النهاية إلى التوقيع على اتفاق مع حماس، ولم يعد هناك حديث عن سيناريو لا تكون فيه حماس حاضرة في غزة المقبلة.
علاوة على ذلك، فلم تتمكن الحملة العسكرية من إعادة الرهائن رغم تدمير غزة، كما أن موقع إسرائيل الاستراتيجي في العالم أصبح الآن أسوأ مما كان عليه في بداية الحرب، خاصة مع إصدار المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال بحق نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت والجنود والضباط الإسرائيليين المتهمين بارتكاب جرائم حرب.
بعد الحرب على غزة، عادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة، وهذا يعني أن أي مناقشات حول التطبيع مع الدول العربية والإسلامية لا يمكنها اليوم تجاهل المطالب الفلسطينية.
موقف مضطرب
اليوم يجد نتنياهو نفسه في وضع محفوف بالمخاطر، فقد راهن على ترامب في الانتخابات الأخيرة، بأن يكون أكثر استعداداً لمهاجمة إيران، وبالتالي السماح له بتقديم “نصر مطلق” لناخبيه بضرب المنشآت النووية الإيرانية بعد قيامه بإضعاف قدرات حزب الله العسكرية وتقويض الوجود الإيراني في سوريا.
رغم الكارثة والدمار الذي لحق بالقطاع، إلا أن نتنياهو يدرك الآن أن السردية الفلسطينية تتلخص في البقاء والقدرة على الصمود، وهذا المفهوم قد تشكل لدى جيل كامل ولن يختفي
أما الحقيقة اليوم، فهي أنه يواجه واقعاً فرض عليه التوقيع على صفقة تتطلب انسحاباً إسرائيلياً من ممرات نتساريم وفيلادلفيا في غزة، إلى جانب إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين.
من جانب آخر، فقد أصبح الآن الوزراء وأعضاء الكنيست اليمينيون من حزب الليكود وغيره من الفصائل اليمينية، الذين كانوا يحلمون بإعادة بناء المستوطنات في غزة، مضطرون الآن إلى تقبل انسحاب الجيش إذا تم تنفيذ المرحلة الثانية من الصفقة وبذلك تتحطم أحلامهم إلى الأبد.
خلافاً لمعتقدات اليمين الإسرائيلي وأولئك الذين ينظرون إلى إسرائيل باعتبارها قوة مطلقة، تظل الحقيقة أنه لا يزال هناك نحو مليوني فلسطيني في غزة، وأن حماس ما زالت تقاتل، رغم التكتيكات الهمجية التي تنتهجها إسرائيل ضد شعب غزة، فقد فشلت إسرائيل في نهاية المطاف في سعيها للطرد والتطهير والاستيطان.
اقتصر الرد الإسرائيلي على هذا الفشل بقرارات أكثر تطرفاً، فتحرك وزير الدفاع يسرائيل كاتس لإلغاء جميع أوامر الاعتقال الإداري ضد المستوطنين اليهود مطالباً بإطلاق سراحهم كجزء من حزمة تعويضات لوزير المالية بتسلئيل سموتريتش، وذلك لتشجيعه على عدم مغادرة الائتلاف.
ويسلط هذا التصرف الضوء على منطق الحكومة الإسرائيلية الحالي، والذي يتمثل في الحفاظ على الائتلاف وتجنب خوض انتخابات بأي ثمن أو محاكمة نتنياهو بالفساد، ومحاولة التنصل من إجراءات المحكمة الجنائية الدولية التي تلوح في الأفق.
وحشية القرون الوسطى
على الصعيد الإقليمي، وعد نتنياهو باستعادة قوة الردع الإسرائيلية والضغط من أجل “نزع التطرف” لدى الفلسطينيين، غير أن وحشية إسرائيل ذكرتنا بجيوش العصور الوسطى، وهو الأمر الذي أثار تساؤلات أخلاقية جوهرية حول ماهية مجتمع إسرائيلي يبرر تجويع المدنيين ومنع المساعدات الإنسانية عن تحقيق أهداف عسكرية.
منذ بدأت الحرب، لم تهدأ المناقشات حول الإبادة الجماعية داخل إسرائيل، حتى وصل الأمر بأن تنصح الحكومة الإسرائيلية جنودها بتجنب السفر إلى الخارج وإخفاء هوياتهم، ليس لأن حكومات العالم اتخذت إجراءات حاسمة ضد الإبادة الجماعية، بل لأن الرأي العام العالمي قد شهد همجية إسرائيل، فأصبحت دولة منبوذة يواجه مواطنوها العواقب.
لقد نجحت حماس فهي لا تزال القوة المهيمنة في غزة، وقد حصلت على صفقة تبادل الأسرى وقاتلت حتى النهاية دون استسلام، فرغم الكارثة والدمار الذي لحق بالقطاع، إلا أن نتنياهو يدرك الآن أن السردية الفلسطينية تتلخص في البقاء والقدرة على الصمود، وهذا المفهوم قد تشكل لدى جيل كامل ولن يختفي.
مع وقف إطلاق النار، أصبح كل صحفي جاد في العالم يحلم الآن بدخول غزة، ليرى ويوثق ويحاول فهم ما حدث، ولاشك أن المزيد من الأسئلة سوف تظهر وسوف يتم كتابة المزيد من التقارير حول جرائم الحرب الإسرائيلية، فالجنون الإسرائيلي لم يحقق أي انتصار، لا عسكرياً، ولا سياسياً لنتنياهو.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)