بقلم فيتوريا فولجر
إنها العاصمة سنغافورة، مركز مالي مشهور بمزيج ثقافي غني يختبئ بين ناطحات السحاب الحديثة التي تكسو شوارع المدينة النابضة بالحياة، وفي قلب تلك الشوارع حي ذو طابع خاص يدعى شارع العرب، حيث يتميز باصطفاف المتاجر الملونة ضمن بنايات تتكون من طابقين، ويستمتع الماشي في الحي بالتقاط روائح تتزاحم من المطاعم التقليدية في الشارع، وألوان من المنسوجات والحرف اليدوية وُضعت لجذب عيون السياح والزوار، في شارع يتوسطه مسجد السلطان الذي بني على الطراز الهندي تعلوه قبة ذهبية عظيمة.
وتعد المنطقة التي تحمل اليوم أسماء شوارع مثل “عربي” أو “مسقط” أو “شارع البصرة، معبرة عن الثقافة العربية والإسلامية، ليس حديثاً فحسب، فقد ظلت منذ أكثر من قرن مركزاً للتجار بشكل عام والتجار العرب بشكل خاص.
الجالية العربية موجودة في سنغافورة منذ أكثر من 200 عام، وكان المهاجرون إليها من العرب من المجموعات الأكثر ثراء في المدينة يوماً وكانوا يمتلكون مساحات شاسعة من الأراضي، كما كان لمساهمتهم التجارية والصناعية أثر في تطوير سنغافورة لتصبح مزدهرة اليوم، تأثير يمكن رؤيته حتى اليوم في طعام أهل المدينة وأماكن العبادة والترفيه، فكيف بدأت حكاية الوجود العربي في سنغافورة؟ وكيف حافظوا على حضورهم وتأثيرهم حتى اليوم؟
كيف تكون المجتمع العربي في سنغافورة؟
يروى أن العرب وصلوا إلى سنغافورة أول مرة عام 1819، وهو نفس العام الذي وصل فيه المسؤول الاستعماري البريطاني الذي يعد المؤسس الحديث للدولة في سنغافورة، ستامفورد رافلز، ويقال أن الكثير من العرب جاؤوا من حضرموت جنوب اليمن، في رحلة هجرة عبر المحيط الهندي إلى جنوب شرق آسيا، بعد أن كانوا يقومون برحلات تجارية إلى نفس المنطقة في القرن الثامن عشر ويأتون بالبهارات والمنسوجات.
وتشير بعض المصادر التاريخية إلى أن الحاكم الإنجليزي رافلز هو من استقطب التجار العرب من حضرموت، التي كانت مستعمرة بريطانية أيضاً، من أجل الاستثمار فيها وتنميتها، وخصص مكاناً عريقاً لهم هو شارع العرب ذاته اليوم، أول التجار الذين وصلوا سنغافورة كان سيد محمد بن هارون الجنيد، وسرعان ما تبعه حضرميون أثرياء آخرون.
مع حلول عام 1930، كان هناك قرابة 1200 عربي في سنغافورة، يملكون ما يقرب من نصف أراضي المدينة النامية، التي حولوها بعضها إلى مزارع وأخرى إلى مبانٍ راقية مثل قصر الكاف وفندق رافلز الذي تم تأسيسه عام 1887 من قبل الأخوين ساركيز، أصحاب فنادق أرمنية فاخرة ينحدرون من إيران، بعد استئجارهم الأرض من عائلة السقاف اليمنية، وكان أول مبنى مزود بالكهرباء في سنغافورة.
تفكك الثروة العربية
لم يدم الثراء العربي طويلاً، ففي عام 1939، أدخلت حكومة الاستعمار البريطاني ضوابط على الإيجارات، وبعد استقلال سنغافورة لاحقاً عام 1965، نص قانون حيازة الأراضي الجديد على حصول الحكومة على الأراضي لإقامة مشاريع الإسكان والتنمية بأسعار معقولة لتشمل الطبقات الأقل دخلاً في المجتمع، ومع دخول الثمانينيات من القرن العشرين، كانت الحكومة أكبر مالك للأراضي، الأمر الذي أدى إلى تلاشي قيمة ومساحات أراضي العرب.
وعن هذه الخسارة العربية للأراضي ، حدثتني رئيس الشبكة العربية في سنغافورة وسليلة عائلة السقاف، خديجة العطاس، تقول “ولدت بالقرب من الحي العربي في مجمع من الأكواخ، تعيش فيه عائلتي الممتدة، كنت في 13 من عمري عندما استولت الحكومة على الممتلكات بالكامل مقابل تعويض ضئيل”.
رغم التحول الاقتصادي الذي مرت به العائلات العربية، إلا أنها أخذت بالتكيف مع الوقت باتجاه الاستثمار في قطاعات جديدة، فقد أخبرتني هدى الجنيد، سليلة أول عائلة عربية جاءت إلى سنغافورة، أنه بعد استيلاء الحكومة على الأراضي، قام جدها بفتح متاجر لبيع العطور الشرقية والأقمشة من إندونيسيا، حتى ازدهرت تجارته وورثها والدها وأعمامها.
اندماج في المأكولات وأشياء أخرى…
كان للعائلات العربية في سنغافورة مساهمات حضارية عديدة، من بناء مسجد عمر كامبونغ ملقا، أقدم مساجد الجزيرة، إلى المستشفيات والجسور وحفر الآبار العامة، فعائلة الكاف مثلاً، قامت ببناء مسجدين وحدائق على الطراز الياباني بالإضافة إلى أول مركز تسوق في المدينة.
“نحن نعيش في مكان آمن للغاية حيث يُسمح لنا بممارسة ثقافتنا وتقاليدنا وديننا دون أي مانع”
خديجة العطاس- الشبكة العربية في سنغافورة
ترك العرب بصمة مهمة في مشهد الطعام في سنغافورة، الأمر الذي زاد من اندماجهم الثقافي في المجتمع، مثل انتشار القهوة العربية التي يملؤها العرب بالزنجبيل بدل الهيل هناك، بالإضافة إلى وجود نسخة سنغافورية من الفول المدمس، تسمى حساء الفول المطبوخ، ونسخة من المعمول الذي يقدم في العيد، لكن يتم حشوه في سنغافورة بالفول السوداني بدلاً من التمر، كما يمكن العثور على طبق أرز المندي الحضرمي بين ثنايا قوائم الطعام في بعض المطاعم، لكنهم يتجاهلون خطوة التدخين الأخيرة في المندي ليصبح نسخة مندي سنغافورية!
إرث جديد
يبلغ عدد السكان العرب في سنغافورة اليوم ما بين 8-10 آلاف شخص، يمارسون ثقافتهم وتقاليهم العربية وطقوسهم الدينية بحرية مطلقة، ويسعون جاهدين لخلق إرث جديد من العطاء في المجتمع السنغافوري الذي ينتمون إليه، لم يعودوا أثرياء كما كانوا في السابق، فقلت مساهماتهم الخيرية، لكنهم يسعون إلى المساهمة بالمهارات والخبرات في المجالات الطبية والفن والأزياء والموسيقى.
“إنه وقت جيد جدًا بالنسبة للمجتمع العربي ، حيث تعمل الحكومة على تعزيز التنوع ، بما في ذلك بين مجموعات الأقليات العرقية” – خديجة العطاس – الشبكة العربية في سنغافورة
ومن الجدير بالذكر أن منظمات مثل الشبكة العربية بادرت منذ وقت مبكر بتنظيم معارض الطعام وحفلات الموسيقى العربية ومعارض الفن العربي، وتقديم المنح الدراسية للطلاب العرب الذين يقيمون في سنغافورة، بالإضافة إلى جهود تقديم المساعدة للاجئين في ماليزيا وسوريا واليمن.
ويطمح المجتمع العربي في سنغافورة اليوم، إلى إنشاء المركز العربي في منطقة “كامبونج جلام” أي شارع العرب، الذي بدأت منه حكاية الوجود العربي في البلاد.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)