غزة: “ابنتي تبكي على الهاتف، تقول أمي، نحن نتحول إلى أرقام”!

عندما زرت غزة في الصيف، كنت قد التقيت بالدكتور مدحت صيدم، واليوم رحل، عاد إلى منزله للراحة والاطمئنان على عائلته لبضع ساعات، بعد أسبوع من العمل في المستشفى، ولم تمضِ ساعة حتى عاد إلى المستشفى ولكن جثة هامدة.

كنت أحاول الوصول لأخي الطبيب في مستشفى ناصر في خانيونس، ولكن لا أحد من عائلتي يجيب، مضت 3 أيام متتالية بلا أي خبر عنهم، لجأت للفيسبوك لأرى أن الدكتور عمر فروانة، الطبيب وعميد كلية الطب في الجامعة الإسلامية، قد قُتل مع زوجته وأولاده وأحفاده.

أخذت أمسك بأيدي أولئك الذين تُركوا لمصير الموت، كنت أتلو لهم القرآن وأغلق عيون من ارتقى منهم، ثم أنتقل لشخص آخر سيصبح قريباً رقماً آخر، ويستمر الدكتور القدرة في سرد الأرقام التي تتزايد بسرعة،  حتى أصبح 70% من الضحايا من النساء والأطفال!

أخبار متدفقة من القطاع عن سيل من المذابح العائلية لا يتوقف، وآخرها كان القصف الإسرائيلي للمستشفى الأهلي، الذي أسفر عن مقتل مئات المرضى والأطفال والجرحى ومن لجأ إلى المستشفى من عائلات نازحة بحثاً عن الأمان.

لقد  تجاوز عدد ضحايا غزة  3 آلاف غالبيتهم العظمى من النساء والأطفال، فالمجازر ليست صوراً ولكنها بث حي تلتقطه عدسات الكاميرات، عائلات يتم القضاء عليها واحدة تلو الآخرى، فلا تزال صور الجرحى والضحايا تملأ المستشفيات في غزة، والأطباء في حالة صدمة من عدد الضحايا غير المسبوق. 

رفضوا مكالمة الاحتلال الإسرائيلي، فأصبحوا هدفاً، حيث تم إخطار الدكتور محمد أبو موسى بتعرض منزله للقصف، فرحلت عائلته، ومع ذلك، فهو يواصل العمل لإنقاذ من بقي على قيد الحياة، وتلك صدمة أخرى!

“أمي نحن نتحول إلى أرقام”

ظهر الدكتور أشرف القدرة من مستشفى الشفاء مرة أخرى، ليسرد أسماء المزيد من زملائه القتلى، وقد كان وجهه يحكي القصة، بين الموتى والجرحى ونقص الأدوية، ثم وجه نداءً إلى المجتمع الدولي لوقف المذابح، فتقريره يزخر بالصور والأرقام، المزيد من الأرقام حتى تحولنا إلى أرقام!

في تلك اللحظات، عدت بذاكرتي إلى العام 2002، في بيت حانون، حين كنت أعمل مترجمة لصحيفة الغارديان، عندما تعرضت بيت حانون للهجوم، تم نقل الجرحى إلى مستشفى الشفاء، المئات منهم كانوا بحاجة لعمليات، فاضطر الأطباء للمفاضلة والاختيار لمن لديهم فرصة أكبر للعلاج.

ما يجري في غزة اليوم لا يختلف عن قصة جدتي كثيراً، فقد تم منح الدولة الاستعمارية الاستيطانية الإذن لاستكمال الإبادة الجماعية التي بدأت عام 1948، أما الألم والصدمة الناتجة عن هذه التجارب، فهي محفورة في ذكريات الناجين، داخل فلسطين وخارجها، في الوقت الذي تستمر فيه الفظائع والعالم يراقب بصمت!

توقفت عن الترجمة وقتها، وأخذت أمسك بأيدي أولئك الذين تُركوا لمصير الموت، كنت أتلو لهم القرآن وأغلق عيون من ارتقى منهم، ثم أنتقل لشخص آخر سيصبح قريباً رقماً آخر، ويستمر الدكتور القدرة في سرد الأرقام التي تتزايد بسرعة،  حتى أصبح 70% من الضحايا من النساء والأطفال!

يرن هاتفي لأسمع ابنتي على الخط باكية، قالت “هل تعرفين معتز؟”، فقلت لها “أي معتز؟ تكلمي بسرعة”، فأخبرتني أن منزل معتز العزايزة قد تم قصفه، ورحل جميع أفراد أسرته، قالت ابنتي “لقد رحلوا جميعاً يا أمي”.

 معتز العزايزة، صحفي فلسطيني من غزة، يبلغ من العمر 24 عاماً، كان قد عاد لتوه من خانيونس إلى دير البلح بعد تغطية الأخبار هناك، وقبل دقائق من قصف منزله، سمع الانفجار وهرع إلى المكان، ليرى وطنه وعائلته يذهبان في طرفة عين.

اتصلت بي ابنتي مرة أخرى تبكي، لتخبرني بمأساة جديدة، هذه المرة قُتل يوسف دواس، صحفي مستقل، يعمل مع صحيفة (فلسطين كرونيكل)، عضو في المجموعة الفلسطينية “نحن لسنا أرقاماً”، التي تعمل على توثيق انتهاكات حقوق الإنسان في غزة، مع 5 من أفراد عائلته.

خلال كتابة هذه السطور، قتل 15 صحفياً!

قتلوا وهم يفرون!

هذه المرة القصف على منزل في خانيونس، ارتقى القاضي فاهم النجار، مع زوجته وأولاده وشقيقه وعدد من الجيران، لا نعرف كل الأسماء، كما استشهد 14 فرداً من عائلة برهوم في رح و10 أفراد من عائلة مخيمر في خانيونس.

خبر قصف جديد من مخيم جباليا، تحديداً في منزل الفاخورة، حيث قتل 20 فرداً، أخبرت ابني عزيز ذو 15 عاماً أن يعود إلى دراسته، ولكنه اعترض قائلاً “أمي لماذا أنت قلقة علي؟ أبناء عمومتي يعيشون هذا، ولا يشاهدونه فقط عبر التلفاز، لا تقلقي أنا بخير”.

في 13 أكتوبر، قُتل ما لا يقل عن 70 شخصاً في شاحنات أو عربات تجرها حمير كانت تفر من الموت نحو جنوب القطاع، وفي لحظة أعدني المشهد المروع إلى قبل 76 سنة، عند تهجير جدتي، والذي وثقت أحداثه في كتابي “الفصل العنصري في فلسطين”.

في عام 1948، هاجمت القوات الصهيونية قريتها بيت دراس، فاضطرت للفرار سيرًا على الأقدام مع أهل القرية، بحثًا عن الأمان في بلدة أسدود التي أصبحت فيما بعد مدينة إسرائيلية، حيث وصفت جدتي القنابل وإطلاق النار، كاد الرصاص يخدش رأس جدتي وساقيها، ولكنها واصلت الجري،  وكأن بوابة الجحيم انفتحت في ذلك اليوم ولم تغلق أبدًا.

ما يجري في غزة اليوم لا يختلف عن قصة جدتي كثيراً، فقد تم منح الدولة الاستعمارية الاستيطانية الإذن لاستكمال الإبادة الجماعية التي بدأت عام 1948، أما الألم والصدمة الناتجة عن هذه التجارب، فهي محفورة في ذكريات الناجين، داخل فلسطين وخارجها، في الوقت الذي تستمر فيه الفظائع والعالم يراقب بصمت!

بقلم غادة عقيل

ترجمة وتحرير مريم الحمد

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة