لماذا فشلت جهود الصهيونية في قمع التضامن مع فلسطين في الجامعات الأمريكية؟

بقلم حميد دباشي

ترجمة وتحرير مريم الحمد

قبل قرن تقريباً، أشار الباحث الديني الإنجليزي، جون هنري كاردينال نيومان، في دراسته حول فكرة الجامعة، إلى أن الهدف من الجامعة هو تقديم فرضية “المعرفة الموحدة” لتمكين وإثراء الطلاب لاكتساب أي شكل من أشكال المعرفة التي قد تتطلبها مهنتهم.

وبعد مرور قرن، نشر الباحث الأمريكي، ياروسلاف بيليكان، ما يعد بمثابة جزء ثانً لعمل نيومان، بعنوان “فكرة الجامعة: إعادة فحص”، حيث قام بتحديث تقييم نيومان وشدد على العلاقة بين المنح الدراسية والتدريس والأهمية القصوى للاستقصاء الحر.

لاحقاً، وفي كتابه “الجامعة الأمريكية الكبرى: صعودها إلى التفوق، ودورها الوطني ولماذا يجب حمايتها”، قام العميد السابق في جامعة كولومبيا، جوناثان كول، بتفصيل كل من الأهمية العالمية للجامعات الأمريكية والتهديدات الأيديولوجية التي تواجهها محليًا من الضغوط السياسية.

يعد القاسم المشترك بين جميع هذه الدراسات التاريخية هو اعترافها بالطابع الفريد للجامعة والحاجة إلى حمايتها من القوى الخارجية التي تسعى إلى الإضرار بطابعها الفكري و رسالتها الأخلاقية وروح التحقيق الحر في القضايا الأكثر حيوية في الماضي البعيد والحاضر.

إن تصاعد تهمة معاداة السامية في الجامعات الأمريكية هو نتيجة أساسية لجهود السياسيين اليمينيين والمتبرعين لهم، لإسكات الانتقادات الموجهة إلى إسرائيل وحرف أجيال عن التفكير النقدي والعلم!

في الولايات المتحدة اليوم ، هناك قوى خارجية شريرة، سياسية ومالية، تسعى إلى تشويه هوية الجامعة ودورها، فالدراسة التي أجراها عالم الاجتماع الأمريكي، سيجموند دايموند، بعنوان “الحرم الجامعي المخترق: تعاون الجامعات مع مجتمع الاستخبارات 1945-1955″، تتطرق إلى الأساليب التي تم بها انتهاك موقع الجامعة تاريخياً من قبل قوى خارجية.

كان آخر مصادر هذه الضغوط الأيديولوجية في السنوات الاخيرة هم العنصريون المتطرفون البيض والمتعصبون الكارهون للأجانب والمثليين، أما اليوم، فقد أصبحت القوى الصهيونية المسلحة التي تسعى إلى خنق وإسكات القوى الإبداعية والانتقادية العاملة في الجامعة على رأس تلك الضغوط، حيث تسعى هذه المجموعات إلى السيطرة على الكيفية التي يفكر بها الناس في العالم!

وبما أن الحرم الجامعي هو المكان الذي يبحث فيه الناس عن الحقائق ويتحدثون عنها وينشرونها، فهذه حقيقة تزعج هؤلاء المتطرفين اليمينيين الذين يسعون إلى إسكات وترهيب وتشويه سمعة الأشخاص الذين يجرؤون على التحدث.

هجمة الصهيونية على لغة الخطاب

منذ 7 أكتوبر، تعرضت الجامعات الأمريكية للهجوم من قبل المانحين المؤيدين لإسرائيل وأتباعهم السياسيين، الذين يعتقدون أن أموالهم قد منحتهم القدرة على تغيير الوضع كما يريدون، فقد تم تشكيل طبيعة هذه المؤسسات بطريقة تخنق أي انتقاد لسياسات إسرائيل، ولكنهم يعرفون أن الحفاظ على هذا وهم وقضية خاسرة، ومع ذلك يصرون عليها.

قبل أسابيع، أبدى رؤساء 3 جامعات أمريكية كبرى، هي هارفارد وجامعة بنسلفانيا ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، استياء من تعامل أعضاء جمهوريين المؤيدين بشدة لإسرائيل في الكونغرس، حيث تم اتهام جامعاتهم بـ “معاداة السامية”، وهو اتهام شنيع استخدموه كسلاح لتخويفهم وإسكات من يجرؤ على انتقاد إسرائيل.

من المفارقة، أن هذه الحادثة جاءت في نفس الوقت تقريبًا الذي أقر فيه مجلس النواب تشريعاً يساوي بين انتقاد الصهيونية ومعاداة السامية!

لقد أدت شهادات رئيسات الجامعات الثلاثة إلى الهجوم عليهن إعلامياً وطردهن، حيث استقالت إحداهما فيما اعتذرت أخرى عن عدم إدانة خطاب الكراهية المتوهم، أما الثالثة فلم نسمع عنها شيء.

انطلاقاً من هذه الحادثة، تم تنبيه رؤساء الجامعات الآخرين الذين تعهدوا بالولاء للعلم الإسرائيلي وإعلان الولاء للمستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية والسماح بشيطنة الفلسطينيين باعتبارهم “إرهابيين”، وإسكات أعضاء هيئة التدريس والطلاب الذين يجرؤون على قول الحقيقة.

تخيل المشهد، في الوقت الذي تقوم فيه إسرائيل بذبح الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، يوافق أنصارها في الكونجرس على تخصيص المزيد من مليارات الدولارات لتمويل استمرارها في العنف، ويضعون رؤساء الجامعات في موقف دفاعي بناءً على ادعاء افتراضي مفاده “ماذا لو دعا أحدهم إلى الإبادة الجماعية لليهود”!

كان المشهد برمته خدعة وتكتيكًا لتشتيت الانتباه عن الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في غزة، فقد نبع الادعاء بالأساس من إساءة قراءة عبارتي “الانتفاضة” و”من النهر إلى البحر”، بدعوى وجود تهديد لليهود، ولكن الحقيقة أن الفلسطينيين هم من يتعرضون للإبادة!

إن تصاعد تهمة معاداة السامية في الجامعات الأمريكية هو نتيجة أساسية لجهود السياسيين اليمينيين والمتبرعين لهم، لإسكات الانتقادات الموجهة إلى إسرائيل وحرف أجيال عن التفكير النقدي والعلم!

تحرير “الحرم الجامعي المهدد”

الحقيقة هي أن هناك حركة تغيير حقيقية داخل الجامعات الأمريكية، وذلك أمر قد بدأ يخرج عن نطاق قدرة العنصريين والسياسيين على مواجهته أو إخماده، فرغم طرد رئيسة جامعة بنسلفانيا، إلا أنهم يتوهمون في اعتقادهم أن ذلك سوف يغير الخطابات الانتقادية في الجامعات الأمريكية.

من جانب آخر، هناك سياسيون رجعيون، مثل حاكم ولاية فلوريدا رون دي سانتيس، يحظر نظرية العرق النقدية التي تؤكد وجود فلسطين.

القضية إذن لا تكمن في شعور الطلاب اليهود بعدم الأمان، بل في فقدان المانحين الصهاينة الشعور بالسيطرة التي ظنوا أنهم يمتلكونها على حرم الجامعات، فقد ظنوا خطأً أن مكاتب رؤساء الجامعات جزء من دفاتر شيكاتهم

ينظر السياسيون اليمينيون، الذين شنوا حربًا على الجامعات باسم “محاربة معاداة السامية”، إلى المذبحة المستمرة ضد الفلسطينيين باعتبارها وسيلة تعكس ما يسميه النقاد في الولايات المتحدة بـ “البديل العظيم”، فهي نظرية مؤامرة عنصرية تدعي أن المسلمين وغيرهم من الأشخاص الملونين يريدون أن يأخذوا مكان المستوطنين البيض.

ليس من الصدفة إذن، أن النائبة الجمهورية، إليز ستيفانيك، وهي من أشد المتحمسين لترامب، تدعو إلى “الاستبدال العظيم”، حيث باتت بطلة الصهاينة المتطرفين والليبراليين على حد سواء.

في السابق، كانت ستيفانيك قد انتقدت الرئيس بايدن “لتوفيره حليب أطفال للمهاجرين غير الشرعيين”، كما صرحت بأنها تعتقد أن “عصابة عبدة الشيطان من المتحرشين بالأطفال الليبراليين قد استولت على الحزب الديمقراطي”

كل هذا لا يزعج القوى الصهيونية، فهي لا تمانع في أن يكون بطل “محاربة معاداة السامية” ذاته الذي يروج لنظرية المؤامرة التي تحمل اليهود المسؤولية عن قيادة الجهود الرامية إلى استبدال البيض، ولكن ما يزعجها حقاً هو أن الحرم الجامعي هو مكان كشف مثل هذه النظريات والادعاءات القبيحة.

في طليعة النضال من أجل قول الحقيقة، تجمع يهود من أعضاء هيئة التدريس والطلاب والإدارة على حد سواء، بالإضافة إلى ناشطين في منظمات مثل الصوت اليهودي من أجل السلام، فالواقع يثبت أن هناك عدداً كبيراً من الطلاب وأعضاء هيئة التدريس اليهود الذين يقودون التضامن مع القضية الفلسطينية في الجامعات.

القضية إذن لا تكمن في شعور الطلاب اليهود بعدم الأمان، بل في فقدان المانحين الصهاينة الشعور بالسيطرة التي ظنوا أنهم يمتلكونها على حرم الجامعات، فقد ظنوا خطأً أن مكاتب رؤساء الجامعات جزء من دفاتر شيكاتهم.

الجامعة ليست الإدارة العليا للشركات، بل هي طلاب الدراسات العليا والموظفين وعمال الحراسة النقابيين الذين يناضلون من أجل لقمة العيش، وهي قاعات دراسية مهملة، بالكاد تعمل، ومع ذلك، بين الحين والآخر، يجلس الطلاب وأعضاء هيئة التدريس ويبحثون عن الحقيقة، حقيقة  أن المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية قضية خاسرة أمر مفروغ منه.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة