كيف تشتري الولايات المتحدة الوقت لمزيد من الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة؟!

بقلم أميل ألكالاي

ترجمة وتحرير مريم الحمد

هناك أوقات يجب علينا فيها تجاهل التفاهات النمطية التي يدلي بها  سياسيون وممثلون رسميون، وفي أوقات أخرى يجب إيلاء اهتمام صارم.

في حالة الولايات المتحدة، ونظراً لمستوى خطابها الرسمي في هذه المرحلة، فقد أصبح من الصعب تحديد الفرق، فلم يعد الرئيس بايدن بذاته متأكداً من أن أوكرانيا أو العراق أو المكسيك أو مصر قد تكون موضع تساؤل في يوم ما، كما أن إجاباته على أسئلة الصحافة باتت مختزلة ومدجنة في الغالب.

بعد مشاهدة ذلك، بات من السهل التوقف عن الاهتمام وشطب كل ذلك ببساطة واعتبار كلام بايدن خدعة وهراء تهدف إلى إضافة طبقة أخرى إلى الجدار الحديدي الذي يحمي الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل، ومع ذلك، فهناك لحظات نادرة يكشف هو أو أي مسؤول آخر عن الكيفية التي ترسم بها السياسات للمضي قدماً.

ما الذي علينا فهمه من تمكين الولايات المتحدة لآلة القتل والتدمير الإسرائيلية والقسوة غير المفهومة التي تصاحبها؟ هل هو ببساطة قتل وترويع أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين خاصة الأطفال والنساء؟

في خطابها الأخير في الأمم المتحدة، أشارت سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس غرينفيلد، إلى “أهمية الدبلوماسية المباشرة على الأرض للوصول إلى الحل النهائي”، وذلك يعني وقفاً فورياً لإطلاق النار بطبيعة الحال، لكنه لا يمكن أن يكون كذلك في الحالة الأمريكية لأن حساسية “الدبلوماسية المباشرة” قد تتعرض للانزعاج على حد تعبير السفيرة.

بعبارة أخرى، فلندع الفظائع تستمر، في الوقت الذي تشتري فيه الولايات المتحدة وحلفاؤها المزيد من الوقت لإسرائيل حتى تتمكن من تحقيق أهدافها المزعومة!

ومع استمرار التوسع بشكل كبير على أرض الواقع في غزة بحيث يصبح طبيعياً، نستطيع فهم مقصد توماس غرينفيلد من عبارة “الحل النهائي”.

قسوة غير مفهومة

من الواضح أن مختبر اختبار الأسلحة والسيطرة على السكان والمراقبة في غزة والمفتوح للاستهلاك العالمي منذ عام 2007 على الأقل، يصاحبه حصار إسرائيلي كامل، قد انتقل بوضوح إلى مرحلة جديدة.

هل لا يزال هناك شخص يشك في إمكانية التدمير الفعلي للمسجد الأقصى، وهو أمر يُلمح له الإسرائيليون باستمرار بل ويتم تدريسه في بعض المدارس الإسرائيلية؟!

وبقدر ما يجب أن تحمله عبارة “مرحلة جديدة” من معاني إيجابية، إلا أن فيه في هذا السياق إهانة مباشرة لإحساسنا بما قد تعنيه من أن نكون بشرًا نعيش في العصر الرقمي الحر ومع ذلك نتعرض لانقياد كامل نحو مصادر وسائل الإعلام الغربية السائدة.

ما الذي علينا فهمه من تمكين الولايات المتحدة لآلة القتل والتدمير الإسرائيلية والقسوة غير المفهومة التي تصاحبها؟ هل هو ببساطة قتل وترويع أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين خاصة الأطفال والنساء؟

هل هو تدمير كافة المؤسسات والهياكل القائمة؟ هل الهدف جعل الطرق وشبكات المياه ومحطات الطاقة والقدرات الزراعية والمنازل والمدارس والجامعات والمستشفيات والمكتبات والمساجد والكنائس والمكتبات والمخابز والصيدليات وحتى ما يسمى “المناطق الآمنة” تصل في التدمير إلى درجة جعل غزة غير صالحة للسكن تماما؟!

ومن ناحية أخرى، هل كل ذلك من أجل الاستيلاء على حقول الغاز البحرية والتي يحق للفلسطينيين الاستفادة منها ولكن لم يُسمح لهم بالوصول إليها مطلقًا؟ هل يمكن أن تكون هناك أيضًا رسائل أخرى موجهة إلى العالم؟!

بعد تصريح غرينفيلد عن “الحل النهائي” المصاحب للفيتو الأمريكي الثاني في مجلس الأمن ضد وقف إطلاق النار في غزة، قامت قوات الاحتلال الإسرائيلية ببناء طريق يفصل شمال غزة عن الجنوب، كما قصفت منشآت الأونروا ومنظمة أطباء بلا حدود.

علاوة على ذلك، لا تزال قوات الاحتلال الإسرائيلية تمنع وتوقف إمدادات الغذاء والدواء، حتى أصبح هناك 10 آلاف طفل آخرين معرضين لخطر الموت جوعاً بسبب سوء التغذية، كما أن نحو نصف مليون شخص في شمال غزة يعانون من الجوع، في وقت يقوم فيه القناصة الإسرائيليون بمهاجمة من يحاول منهم الوصول إلى المساعدات القليلة.

لقد أصبح أولئك الذين كانوا غاضبين ذات يوم من فرض الرقابة عليهم أو حظرهم في الظل بسبب آراء تتعارض مع اليمين، الآن على استعداد تام لحظر الخطاب المؤيد للفلسطينيين.

وفي وسط قسوة الإبادة الجماعية التي أصبحت أكثر وضوحًا من أي وقت مضى، فقد نفذت القوات الإسرائيلية ضربات مهدفة في بيت لاهيا وجباليا لتدمير آليات ومركبات الإنقاذ والصرف الصحي، مما أدى إلى زيادة فرصة انتشار الأمراض في تلك المناطق، فيما أجبر السكان على البحث بين الأنقاض عن ناجين أو جثث وأجزاء من أجسام أحبائهم باستخدام أيديهم وأدوات بدائية فقط!

سياسة أمريكية مثيرة للسخرية

من ناحية أخرى، فإن مصر تواصل خطواتها في بناء “منطقة” التي يشار إليها بشكل غامض في صحراء سيناء على الحدود مع رفح، وعلى الجانب الآخر، فما زال الآلاف من الإسرائيليين مشردين مما عرض الاقتصاد الإسرائيلي لضربة خطيرة، فباستثناء الدمار الشامل والموت، لا تسير الأمور على ما يرام على الأرض فيما يتعلق “بأهداف” نتنياهو المزعومة من الهجوم، وهي إعادة الرهائن الإسرائيليين إلى وطنهم وتدمير حماس.

كيف يمكن لأي شخص، في هذه المرحلة، أن يشك في أن الطرد الجماعي ليس ممكناً فحسب، بل ومعقول أيضاً؟ خاصة مع تذكر ما يفعله لصوص الاحتلال والمستوطنون من هجمات قاتلة في مختلف أنحاء الضفة الغربية والقدس، فهل لا يزال هناك شخص يشك في إمكانية التدمير الفعلي للمسجد الأقصى، وهو أمر يُلمح له الإسرائيليون باستمرار بل ويتم تدريسه في بعض المدارس الإسرائيلية؟!

أما على الجبهة الجيوسياسية الأوسع، فإن التوسع المستمر لحلف شمال الأطلسي كوسيلة للحفاظ على الهيمنة الأمريكية في مواجهة البريكس والتعددية القطبية التي يدعمها التحالف الروسي الصيني، قد وضع الولايات المتحدة في حالة من الذعر.

لقد أثبتت السياسة الأميركية المثيرة للسخرية والمتمثلة في دفع تكاليف الحرب بالوكالة في أوكرانيا كوسيلة لإحداث تغيير في النظام في روسيا، فشلاً ذريعاً، حيث أصبح المزيد والمزيد من دافعي الضرائب الأميركيين يرون ذلك، فهم يُطلب منهم دفع الفاتورة الضخمة!

هذه السياسة في الحرب تؤدي إلى إفقار أوروبا أيضًا، ففي أذهان صناع السياسات من المحافظين الجدد والتحالف الأحادي الحزبي المروج للحرب في واشنطن، فإن هذا الفشل المرتبط بالحفاظ على السيطرة على طرق شحن معينة لضمان الهيمنة الأمريكية، كاد أن يؤدي إلى فتح جبهة جديدة في الشرق الأوسط، ويبدو أنه أمر لا مفر منه ولا يدفع إلا الفلسطينيون ثمنه.

مع كل دقيقة تمر، يقدم الإسرائيليون ومن يدعمهم وعلى رأسهم الأمريكيون دروساً جديدة في الجبن والقسوة، مقابل البسالة والصمود الذي أظهره شعب غزة، وهذا يلزمنا بالاستمرار في فضح تلك الإبادة وإيجاد طرق أكثر فائدة للمقاومة للوصول إلى حل سياسي عادل لواحدة من أكثر الجراح المتقيحة في العالم، فقد آن للجرح أن يشفى!

أضف إلى كل هذا حقيقة مفادها أنه بعد سنوات من عدد من القضايا، من تهم التواطؤ الروسي المزعوم وتزوير الانتخابات ولقاحات كوفيد وتفويضات التطعيم والصيف الذي قُتل فيه جورج فلويد في 6 يناير 2021 والحرب في أوكرانيا وملفات تويتر وغيرها،  تم خلق الوضع المثالي لأولئك الذين يتولون السلطة.

لقد أصبح أولئك الذين كانوا غاضبين ذات يوم من فرض الرقابة عليهم أو حظرهم في الظل بسبب آراء تتعارض مع اليمين، الآن على استعداد تام لحظر الخطاب المؤيد للفلسطينيين.

لقد أصبح لدينا شعب منقسم بالتساوي، ويتنازع كل منا على الآخر بشأن كل قضية تقريباً، مع عدم وجود توقف عند المبادئ في أي شيء، وهو ما يمكن ملاحظته بشكل أكثر وضوحًا عن الحديث عن حرية التعبير، وفي وسائل الإعلام يتم تصفية أو عرض الفظائع التي تحدث يوميًا في غزة من خلال زاوية النظر إلى حرية التعبير والانقسام ذاتها.

تشبع بالمعلومات

لقد ابتعدنا كثيراً عن نمط التصريحات الشجاعة من قبيل تصريحات جوليان أسانج، الذي يستأنف الآن ضد حكم محكمة بتسليمه إلى الولايات المتحدة، حيث لم تنطق نفس الطبقة السياسية والإعلامية التي تذرف دموع التماسيح على المنشق الروسي المتوفى مؤخراً أليكسي نافالني بكلمة واحدة لصالحه، ورغم أن توجه أسانج وتشيلسي مانينج، وإدوارد سنودن وآخرين تضمن الكشف عن المعلومات التي احتفظ بها المواطنون سراً، فإننا الآن في مرحلة تشبع بالمعلومات لم يعد فيها للسرية أي أهمية.

مع ظهور كل شيء تقريبًا للعلن والمتاح، أصبحت المهمة تتعلق بالتحقق من المعلومة وملامستها للواقع، مما يساهم في بناء السرديات، فرغم وجود أشكال مختلفة من الرقابة والتضليل، إلا أن الوصول للمعلومة اليوم لم يعد متاحاً وسهلاً فقط، بل ويمكن رؤيته في الوقت الفعلي لحصول الحدث في كثير من الأحيان، فكيف يمكننا إذن، باعتبارنا مستهلكين ومنتجين للمعلومات فضلاً عن كوننا ناخبين، أن نستجيب للوضع الحالي؟

من هذا المنظور، فإن رؤية إطالة أمد هذا العذاب الذي يتعرض له الفلسطينيون وبث لحظاته كلها، هو نوع من الاختبار الإضافي لإنسانيتنا، كما أنه يسلط الضوء بشكل واضح على مدى محدودية سلطاتنا السياسية، حتى في ما يسمى الديمقراطيات وإن كانت ظاهرية.

من هذا المنطلق، لا يجب التقليل من أهمية قيام جنوب أفريقيا بتقديم دعوى ضد إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية إلى محكمة العدل الدولية، أو إلى النتائج الأولية التي توصلت إليها محكمة العدل الدولية، ولكنها تظل مجرد أداة يجب أن نتعلم كيفية استخدامها لتوسيع الأسس التي تستند إليها.

وفي الوقت الذي نشاهد فيه المؤسسات في مجتمعاتنا الغربية تتعفن وتتفكك من الداخل، بسبب عدم القدرة على تسمية ما يحدث في غزة بأنه إبادة جماعية، فإن المواقف التي كانت تعتبر ذات يوم مبدئية أصبحت جوفاء!

طالما أن الأمهات في غزة بالكاد قادرات على الولادة أو إطعام أطفالهن، والآباء غير قادرين على حماية أطفالهم، والكثيرين لا يستطيعون حتى انتشال جثث أحبائهم لدفنها، فلا يسعنا إلا أن نستنتج أن هذه القسوة السامة تهدف إلى تجريدنا من إنسانيتنا، فنحن نواجه نظامًا يستهدف الإنسانية بشكل مباشر.

مع كل دقيقة تمر، يقدم الإسرائيليون ومن يدعمهم وعلى رأسهم الأمريكيون دروساً جديدة في الجبن والقسوة، مقابل البسالة والصمود الذي أظهره شعب غزة، وهذا يلزمنا بالاستمرار في فضح تلك الإبادة وإيجاد طرق أكثر فائدة للمقاومة للوصول إلى حل سياسي عادل لواحدة من أكثر الجراح المتقيحة في العالم، فقد آن للجرح أن يشفى!

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة