كيف يغذي الخطاب العنصري الإسرائيلي الإبادة الجماعية في غزة؟

بقلم آدم مياشيرو

ترجمة وتحرير نجاح خاطر 

منذ انطلاق حرب الإبادة الجماعية التي شنتها إسرائيل على غزة، كثف قادتها ومؤيدوها خطابهم العنصري واللاإنساني بحق الفلسطينيين.

ففي إعلانه عن الحرب، وصف وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت الفلسطينيين بأنهم “حيوانات بشرية”، وكذلك وصفهم رون بروسور، السفير الإسرائيلي في ألمانيا، بـ “الحيوانات المتعطشة للدماء”، فيما قال السفير الإسرائيلي السابق لدى الأمم المتحدة، دان غيلرمان، أن الفلسطينيين “حيوانات فظيعة وغير إنسانية”.

يمثل هذا السلوك العنصري الاستعماري القائم على تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم استراتيجية خطابية متعمدة تهدف إلى تمكين إسرائيل وحلفائها الغربيين من تنفيذ المذبحة الجماعية بحق الفلسطينيين في غزة. 

ففي كتابه “معذبو الأرض”، يوضح المفكر فرانتز فانون المناهض للاستعمار هذه “المفردات الاستعمارية”، المتعلقة بكيفية تحويل المستعمِر للمستعمر إلى جوهر الشر من خلال وصف السكان الأصليين الذين تم استعمارهم كحيوانات. 

وبشكل واضح يقول فانون أن الذات المستعمرة “تختزل إلى حالة الحيوان”، وقد كتب أن المستعمِر “يجرد الذات المستعمرة من إنسانيتها، فعندما يتحدث المستعمِر عن المستعمَر فإنه يستخدم مصطلحات علم الحيوان ويشير باستمرار إليها”.

إن من شأن تشبيه المستعمِرين الإسرائيليين للفلسطينيين وهم السكان الأصليون للبلاد بالحيوانات أن يجعل منهم مجرد كتلة مزدحمة لا تحمل اسماً ووجودها يتطلب إلى الإبادة.

يُمثل نشر إسرائيل لهذا الخطاب في الوقت الحالي استمراراً لقرون من الخطابات الاستعمارية الأوروبية العنصرية التي تم حشدها لخدمة الإبادة الجماعية للأمريكيين الأصليين والأفارقة وسكان جزر المحيط الهادئ وغيرهم الكثير.

التجريد الاستعماري من الإنسانية

يتم الآن عرض الحياة الفلسطينية في ظل الظروف القمعية في غزة، والتي شبهها الكثيرون بمعسكرات الاعتقال، بشكل “مخلوق” غير طبيعي ووحشي بطريقة ما، لقد اعتبر الأوروبيون منذ فترة طويلة أن السكان الأصليين أبعد ما يكونوا عن الإنسانية، حتى منذ المشاريع الاستعمارية الأولى في الأمريكتين والجنوب العالمي.

يعكس إنكار إسرائيل للوجود الفلسطيني وغزوها لما زعمت أنها “أرض بلا شعب” المبررات الاستعمارية الاستيطانية الأوروبية للإبادة الجماعية.

تستدعي شخصية كاليبان الأصلية التي رسمها شكسبير في مسرحيته “العاصفة” هذا الجزء من الإنسان والجزء الحيواني الذي يتعرض للعبودية والحرمان عندما يأخذ الساحر بروسبيرو جزيرته الأصلية منه.

وكثيرًا ما كانت الخطابات الأوروبية تشير للسكان الأصليين باعتبارهم مجرد جزء من “التاريخ الطبيعي” للمناطق الجغرافية، وتضمنت في كثير من الأحيان سمات بربرية أو شبه حيوانية تؤكد خروجهم عن الأعراف البشرية.

وكثيرًا ما كان يتم وضع السكان الأصليين الأفارقة والأمريكيين والآسيويين في “حدائق الحيوان البشرية”، وعرضهم في معارض العواصم الاستعمارية في الولايات المتحدة وأوروبا، بهدف إظهار “الطبيعية” أو “البدائية” للبشر المأسورين والمسجونين الذين تم تقديمهم للناس كحيوانات.

منح “مبدأ الاكتشاف” الأوروبي، الذي رفضته الكنيسة الكاثوليكية الرومانية في آذار / مارس 2023، للمستوطنين الأوروبيين ملكية جميع الأراضي “المكتشفة”، بما في ذلك استعباد السكان المحليين إلى الأبد، وظل تجريد الشعوب الأصلية من سيادتها جزءًا من البرنامج الاستعماري على مستوى العالم طوال القرون الخمسة التالية.

وعلى الدوام ظلت إنسانية الشعوب الأصلية تتعرض للإنكار، وتحول وجودها نفسه إلى موضع شك، فخلال وصفهما للتجريد العنصري من الإنسانية الذي اتبع بحق السكان الأصليين في الولايات المتحدة، يوضح عالما السياسة آشلي جاردينا وسبنسر بيستون أن “الأرض التي يطمع فيها المستوطنون الأوروبيون كانت تُصوَّر في كثير من الأحيان على أنها شاغرة”، وعليه فإن إنكار إسرائيل للوجود الفلسطيني وغزوها لما زعمت أنه “أرض بلا شعب” يعكس المبررات الاستعمارية الاستيطانية الأوروبية للإبادة الجماعية وسرقة الأراضي.

وقد صاغ الكتّاب الاستعماريون الأوروبيون مؤلفات موسوعية كبرى عن التاريخ الطبيعي للأمريكيتين تظهر أبناء الشعوب الأصلية أكلةً للحوم البشر، بغية تبرير غزوهم واستعبادهم، وتصف قصيدة روديارد كيبلينج، “عبء الرجل الأبيض”، الأهداف الفلبينية للإمبراطورية الأمريكية في الحرب الإسبانية الأمريكية عام 1898 بأنها “نصف شيطان ونصف طفل”.

إن تصوير المستعمَرين والسكان الأصليين على أنهم وحشيون وحيوانيون هو جزء من الأيديولوجية الاستعمارية الأوروبية، ومن السهل التعرف على المشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي، الذي يتبع المخطط الأوروبي في النظام الجيوسياسي الحالي بموجب “القانون الدولي”، وهو مصادرة الأراضي، ومحو سيادة السكان المحليين، وتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم باعتبارهم “حيوانات” أمام العنف الاستعماري.

وقد قال الحاخام الإسرائيلي مئير ماروز على شاشة التلفزيون الإسرائيلي عن سكان غزة: ” لو كانوا بشرًا لأرسلنا إليهم مساعدات إنسانية، لكن الأمر يتعلق بالحيوانات”، وأشار مؤثرون إسرائيليون آخرون إلى الفلسطينيين على أنهم “قرود” على وسائل التواصل الاجتماعي بعد أن تم تصوير حيوانات حديقة الحيوان في غزة المدمرة.

ويجري تصوير الفلسطينيين على وسائل التواصل الاجتماعي بشكل روتيني على أنهم حشرات أو قوارض، كما هو الحال عندما شارك ما يسمى بـ “محامي حقوق الإنسان” أرسين أوستروفسكي رسماً كاريكاتورياً على موقع X، تويتر سابقاً، لفلسطيني تم تصويره على أنه صرصار على وشك أن يُسحق بحذاء يحمل اسم “جيش الدفاع الإسرائيلي”، ووضعت منصة التواصل الاجتماعي في وقت لاحق “مذكرة مجتمعية” أسفل المنشور حول الاستخدام التاريخي لصورة الصراصير في تصوير اليهود خلال ثلاثينيات وأربعينات القرن الماضي.

العرق والسياسة الحيوية

وعلى مدى العقدين الماضيين، أظهر الحصار الإسرائيلي على غزة أسلوبين وحشيين للعقاب الجماعي يجسدان كيفية ممارسة هذا الخطاب العنصري على الفلسطينيين باعتبار حياتهم مجرد حياة بيولوجية مجردة، “جز العشب” و”نظام التجويع الغذائي”.

إذ يشير المسؤولون العسكريون والحكوميون الإسرائيليون إلى الهجمات الجماعية الدورية على قطاع غزة المحاصر على أنها عملية “قص العشب” وهي استعارة من البستنة تستخدم للإشارة إلى الفلسطينيين على أنهم “أعشاب ضارة” وعناصر غير مرغوب بها وذلك للحد من السكان من خلال القصف العشوائي.

لقد تم تسييج قطاع غزة المأهول بالكامل وتطويقه ووضعه تحت حصار عسكري خانق وحصار منذ عام 2006، وهو إجراء عقابي فُرض على 2.3 مليون ساكن.

وفرضت إسرائيل، التي تسيطر على مجمل البضائع التي تدخل غزة وتخرج منها، ما يعرف بـ “نظام التجويع” على مجموع السكان الفلسطينيين.

وعلى سبيل المثال، قدم مسؤولو الصحة الإسرائيليون حسابات للحد الأدنى من السعرات الحرارية التي يحتاجها سكان غزة لتجنب سوء التغذية والمجاعة، في حين حظروا أطعمة مثل الكزبرة والشوكولاتة، كما أعاق الحصار إنتاج الغذاء في غزة، مع نقص البذور وحيوانات المزرعة مثل الدجاج، حيث تذكرنا مثل هذه التكتيكات العسكرية اللاإنسانية بحوادث الحصار في العصور الوسطى، حيث حرمت البلدان المحاصرة من الغذاء والماء لتسريع انهيارها.

وقد تفاقمت هذه الظروف إلى أقصى الحدود منذ شهر تشرين الأول / أكتوبر في ظل التدمير المنهجي الذي قامت به إسرائيل للبنية الأساسية الغذائية المدنية، بما في ذلك المخابز وأنظمة تنقية المياه وتحليتها مما أدى إلى انتقال النظام الغذائي الذي كان يقترب من المجاعة إلى مجاعة فعلية واسعة النطاق.

جرى تصميم هذه السياسات لتقليص حياة الفلسطينيين، ليس فقط على المستوى الخطابي، بل على مستوى ظروف وجودهم المادية، إن التصوير العنصري للفلسطينيين، الذي نراه من قبل المسؤولين العسكريين الإسرائيليين على أنهم “أعشاب ضارة”، وحساب السعرات الحرارية التي يتناولونها، يحول حياة الفلسطينيين في غزة إلى حياة بيولوجية مجردة خالية من الهوية السياسية والمواطنة والوضع القانوني، إنها محاولة لتحويل كل السياسات داخل القطاع إلى سياسة حيوية، لإخضاع الحياة الفلسطينية والسيطرة عليها من خلال الطاقة الحيوية، أو القدرة على الاستمرار في الحياة.

وتحتفظ إسرائيل، باعتبارها القوة المحتلة والمسيطرة ذات السيادة، بالسلطة على الحياة والموت في قطاع غزة، من خلال الجوع والعطش والعنف والظروف الشمولية التي يُسمح للفلسطينيين بالبقاء فيها على قيد الحياة في ظلها.

“لا يوجد مدنيون أبرياء”

ووفقاً لتصور الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين عن منطق معسكرات الاعتقال، فإن المعسكر هو تعليق للقانون، وحالة قانونية استثنائية ناشئة عن الأحكام العرفية و”خلق الفضاء الذي تدخل فيه الحياة المجردة والقاعدة القانونية” إلى عتبة عدم التمييز”، بمعنى آخر، اختزلت حياة سكان المعسكر إلى حياة بيولوجية مجردة، بمصطلحات تحولهم إلى أقل من البشر.

وعندما تتحول حياة الإنسان إلى حقيقة بيولوجية، لا سياسية، فإن حالة الاستثناء التي تنشأ عن الأحكام العرفية تصبح دائمة، ولأنه لا يمكن لأي قانون أن يصل إلى أجساد سكان المخيم المقهور، فلا يمكن اعتبار أي مما يرتكب فيه جريمة.

القتل ليس جريمة قتل (لأن القتل يفترض الاعتراف بالانتماء السياسي) لأن ساكن معسكر الاعتقال موجود في منطقة قانونية غامضة، وبهذه الطريقة، تم إخراج السكان المدنيين بالكامل خارج القانون، ولهذا السبب تستطيع المحامية الفرنسية الإسرائيلية نيلي كوبفر ناعوري التأكيد على أنه “لا يوجد مدنيون أبرياء في غزة”، بما في ذلك الأطفال حديثي الولادة لأنهم جميعاً “مذنبون” بارتكاب جرائم حرب، جريمة معاداة السامية.

وبالمثل، تم تصوير الجنود الإسرائيليين وهم يهتفون “لا للمدنيين الأبرياء” ويشيرون إلى الفلسطينيين باسم “العماليق”، وهي الأمة التوراتية التي ألمح إليها بنيامين نتنياهو في دعوته للإبادة الجماعية للعنف ضد غزة، ولا تنطبق عمليات القتل على سكان غزة فحسب، إذ يُقتل الفلسطينيون في الضفة الغربية، بما في ذلك الصحفيون مثل شيرين أبو عاقلة، بشكل روتيني على يد القوات الإسرائيلية التي تفلت بشكل كامل من العقاب.

ولهذا السبب أيضًا يمكن لمصادر الإعلام الغربي أن تذكر مقتل الفلسطينيين دون مرتكبي الجرائم، حيث “يُقتل” الإسرائيليون على يد ما يسميه بيرس مورغان “برابرة العصور الوسطى”، لكن الفلسطينيين “يموتون في ظروف غامضة” دون أن يُقتلوا.

قاد الخلق المستمر للصور العنصرية بصريًا وشفهيًا، من قبل المسؤولين الحكوميين الإسرائيليين والغربيين والشخصيات الإعلامية والمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، إلى جرائم قتل ومحاولات قتل للفلسطينيين في الولايات المتحدة، بما في ذلك مقتل وديع الفيوم البالغ من العمر ستة أعوام طعنًا في شيكاغو في 14 تشرين الأول / أكتوبر عام 2013 وتم إطلاق النار على هشام عورتاني وكنان عبد الحميد وتحسين أحمد في بيرلينجتون، فيرمونت، في 25 تشرين الثاني / نوفمبر الماضي، وتلا ذلك أيضًا حملات قمع واسعة النطاق على الخطاب المؤيد لفلسطين من قبل الجامعات والحكومات والمؤسسات الإعلامية.

يترافق العنف الذي يمارس على الأجساد الفلسطينية مع ذات الخطاب العنصري الذي صاحب أعمال العنف ضد السود والسكان الأصليين في جميع أنحاء الجنوب العالمي على أيدي المستعمرين والغزاة الأوروبيين، ولا يمكن فهم العنصرية ضد الفلسطينيين وبالتالي العرب والمسلمين في الولايات المتحدة وأوروبا دون معالجة القهر المادي للفلسطينيين في غزة من خلال القوة العسكرية والسياسية النابعة من مشروع الفصل العنصري الاستعماري الاستيطاني.

تستخدم الحكومات الإسرائيلية والغربية خطابات عنصرية في حربها الخطابية لتبرير قتل وتهجير الفلسطينيين في غزة.

وعلى مدار عقود من الزمن، ظلت السياسات الإسرائيلية تهدف إلى اختزال حياة الفلسطينيين إلى أبسط مكوناتها، وتجريدهم من أراضيهم ومواردهم وإنسانيتهم، وعملت على سوقهم مثل الماشية في نقاط التفتيش الأمنية، وإطلاق النار عليهم مثل “البط”، ووصف أطفالهم بأنهم “ثعابين صغيرة” وإطلاق الدعوات إلى “ذبحهم جماعياً”.

ومنذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، تم تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم أكثر فأكثر في معسكرات الاعتقال الوحشية في قطاع غزة المحاصر والضفة الغربية المقسمة إلى كانتونات، واستخدمت الحكومات الإسرائيلية والغربية خطابات عنصرية في حربها الخطابية لتبرير قتل الفلسطينيين في غزة وفي سبيل تهجيرهم منها.

قد يحظى هذا التجريد من الإنسانية الذي يمارسه العنصريون البيض بقبول بين السياسيين والنخب الإعلامية الغربية إلا أنه كشف للآخرين كيف أن الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي هو امتداد للمشروع الاستعماري الأوروبي ما يسهم في توحيد الجنوب العالمي تضامنًا مع فلسطين ويضع الإنسانية الفلسطينية في المقدمة.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة