لماذا أنا في سباق مع الزمن لكي أروي قصة أسرتي مع النكبة؟

بقلم صفاء الخطيب

ترجمة وتحرير نجاح خاطر 

في صيف عام 1948، وبينما كانت سنابل القمح تغطي أرضيات البيدر في الجليل، أمضى المزارعون الليالي الدافئة في الاحتفال بالأعراس والاستماع إلى الأغاني الشعبية التقليدية.

كانوا يتنقلون من فناء إلى آخر، ومن طابق إلى آخر، يرافقون العرسان إلى العرائس، في ذلك الصيف تزوجت جدتي لأبي، ثروة إبراهيم الصالح، من شاب من القرية يدعى محمد مصطفى العيسى.

كان قد مر أسبوعان فقط على زواجهما حين وصلت وحدة من لواء جولاني الصهيوني في 16 تموز/ يوليو 1948 واعتقلوا 22 شابًا من القرية واقتادوهم إلى كروم الزيتون القريبة، حيث تم إعدامهم بدم بارد. 

وكان من بين هؤلاء الشبان زوج جدتي الجديد وشقيقها الوحيد الذي كان متزوجًا حديثًا أيضًا.

في ذلك اليوم فقدت جدتي زوجها وأخيها وباتت بلا سند، ونعت قرية عيلوط في الناصرة 40 شهيدًا سقطوا في مجزرتين، ما أنذر باحتلال صفورية المجاورة، حيث انطلقت القوات الإسرائيلية للسيطرة على الجليل.

في الحصيلة الإجمالية، خسرنا فلسطين كلها بتدمير أكثر من 500 قرية وبلدة، واحتلال ما تبقى منها وارتكاب عشرات المجازر بهدف القضاء على السكان الأصليين أو طردهم قسراً. 

في النهاية، تم تهجير 750 ألف فلسطيني خلال النكبة، فيما نُهبت منازلهم وأراضيهم واستولى عليها الإسرائيليون لإفساح المجال أمام قيام دولة إسرائيل.

لقد مرت خمسة وسبعون عامًا منذ ذلك الحين، وما زلنا ندفع الثمن حتى يومنا هذا، فالنكبة لم تترك أي فلسطيني بلا ضرر، فبالكاد تجد أحداً لم يُسلب منه شيء ما، ولا زلنا نتحدى أي محاولة لنسيان ما حدث لنا كشعب، لأجدادنا، لآبائنا وأمهاتنا، ولنا كأجيال النكبة الثالثة والرابعة.

رافق الحزن جدتي طيلة حياتها، حتى بعد أن تزوجت من جدي حسين أحمد الخطيب من قرية العزير، وأنجبت منه ثلاثة أبناء وخمس بنات، وحتى مع وجود العشرات من الأحفاد وأبناء الأحفاد، لم يتركها الحزن أبدًا.

تحلق مثل طائر الفينيق

عندما كنت في السابعة من عمري، توفي جدي الفلاح المجتهد، في عام 2008، وعندما كان عمري 14 عامًا، توفيت جدتي ثروة قبل أن أتعرف عليها جيدًا أو أسألها عن أسرتها وقريتها وكيف تعيش حياتها، لم تتح لي حتى فرصة التقاط صورة معها.

عند وفاتها، شعرت وكأن بوابة واسعة ومهمة لمعرفة هذه البطلة قد أُغلقت.

 لقد نهضت من حزنها على النكبة مثل طائر الفينيق، وقررت إغلاق فصل الخسارة ببدء حياة جديدة مع مزارع فلسطيني آخر، وإحياء الذكريات القديمة وخلق ذكريات جديدة.

بحثًا عن هذه الذكريات، وجدت نفسي أطرق أبواب أولئك الذين عاشوا جنبًا إلى جنب مع أجدادي ويعرفون ثروة جيدًا، أولئك الذين تقاسموا معها قهوة الصباح، أو زاروا منزلها، حيث أعدت لهم وجبات الطعام.

في الأيام الأولى لوباء Covid-19، بين كل فترة إغلاق وأخرى، كنت أقضي بعض الوقت في زيارة جيراننا وأقاربنا من جانب والدي، حرصًا على سماع المزيد من ذكرياتهم.

 بدت الزيارات الأولية عفوية، وسيطر عليها الحديث حول الجذور والعادات والتقاليد، لكنني أدركت بسرعة أهمية توثيق هذه اللحظات.

طلبت من صديق أن يقرضني معدات التصوير في الاستوديو الخاصة به، والتي لم يكن يستخدمها على أي حال بسبب الوباء وتوقف العديد من الشركات، ثم عدت لزيارة هؤلاء الأشخاص، وهذه المرة التقطت الصور وسجلت المحادثات بلقطات الفيديو.

كنت أرغب في التقاط صورهم وهم بأبهى حلة باستخدام أحدث معدات التصوير، من العدسات إلى الإضاءة، على أمل توثيق هذه اللحظات بأفضل طريقة ممكنة.

في غرف معيشتهم، بينما كنا نرتشف القهوة معًا، سجلت كاميرا الفيديو محادثاتنا حول طبيعة العلاقات التي ربطتهم بأجدادي، وذكرياتهم عن النكبة، وتجاربهم كلاجئين، وقصصهم عن الحب.

سرعان ما أدركت أن حافزي تجاوز الرغبة في التعويض عن الذكريات المفقودة من أجدادي، بل تطور إلى شعوري بهوس الخوف من خسارة أخرى.

لا تزال عمة والدي معنا حتى اليوم، لكن من يضمن أننا سنجدها غدًا، تحيك الصوف في غرفتها، كما هي اليوم؟ من يستطيع أن يؤكد لنا أنها ستبقى هناك لمشاركة ذكرياتها الشخصية عن النزوح واللجوء؟ 

في سعيي لالتقاط المزيد من القصص ومقاطع الفيديو، بدا الأمر كما لو كنت أحاول التنافس مع الوقت، الذي سرق مني أجدادي، لقد تجاوز حافزي الاهتمام الشخصي إلى شيء أكبر وجمعي.

الحفاظ على المعرفة

كان الأرشيف الذي بدأت ببنائه تاريخًا شفهيًا ومرئيًا، اتخذ شكل ذاكرة حية تحافظ على معرفة الجيل الأول بالنكبة وتمنع ضياعها، وفي الوقت نفسه حالت دون خسارتنا نحن الجيل الجديد من الفلسطينيين ودون انفصالنا عن هويتنا الوطنية.

حاولت الدولة الإسرائيلية أن تجعلنا ننسى جذورنا العربية والفلسطينية كسكان أصليين لهذه الأرض، وحثونا على حفظ قصائد هاييم نحمان بياليك وراحيل، وعلى نسيان غسان كنفاني ومحمود درويش.

الصور هي دليل لا يمكن لأحد أن ينكره، وما لم نتمكن من توثيقه بالأمس، لا يزال بإمكاننا التقاطه اليوم.

وعلى عكس الاقتباس الشهير المنسوب لرئيس الوزراء الإسرائيلي المؤسس “الكبار يموتون، والصغار ينسون”، سوف نتذكر دائمًا، نعم، لقد فقدنا العديد من كبارنا وشهودنا على النكبة، الذين ماتوا في مخيمات اللاجئين في لبنان وسوريا والأردن، أو في مجتمعات الشتات في الولايات المتحدة وتشيلي وأستراليا، بينما كنا نحلم بالعودة إلى فلسطين.

لكن نظام التفوق اليهودي الذي عززه قادة الدولة الإسرائيلية منذ احتلال فلسطين، والحياة في ظل نظام الفصل العنصري البغيض الذي يواصل قمعنا والتمييز ضدنا لم يترك مجالاً للنسيان.

قد تكون زياراتي لتصوير الأقارب والجيران والمعارف أثناء الوباء خطوة بدائية ومتواضعة قد لا تغير مسار ما يحدث لنا بشكل جذري، ولكن هناك أمر واحد مؤكد: هذه المحاولة، إلى جانب العديد من مشاريع التوثيق الأخرى التي قام بها الأفراد والصحفيون والمؤرخون والأحفاد والفنانون الذين يركزون على الجيل الأول من النكبة، تقف ضد الإنكار والمحو والسلب الذي نواجهه كشعب فلسطيني.

فمن خلال التصوير الفوتوغرافي، نضع أنفسنا في علاقة خاصة مع العالم تتمثل بالمعرفة وبالتالي القوة التي تزودنا أيضًا بالأدلة، فقد نسمع عن شيء ما ونشك فيه، لكن عندما نرى صورة له، يكون هناك اعتراف بحدوثه.

اللامبالاة العالمية

غابت مأساتنا كفلسطينيين عن الوعي العالمي والأكاديمي لسنوات ما بعد عام 1948، وبينما كان العالم الغربي منشغلاً بتحقيقه إقامة دولة لليهود في فلسطين، تم تصوير الصهاينة على أنهم أبطال يجمعون اليهود المشتتين في أرض واحدة، على حساب الشعب الفلسطيني الذي لم يسترد عافيته بعد.

كان الفلسطينيون لا يزالون منشغلين بنقل خيامهم من مكان إلى آخر، والبدء في إضافة الطوب على أمل حماية أنفسهم من حرارة الصيف وبرد الشتاء.

تدريجيا، تحولت الغرف الصغيرة إلى مخيمات كبيرة مكتظة بالسكان، واليوم، تم تسجيل حوالي ستة ملايين لاجئ فلسطيني لدى وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، في حين تجاوز العدد الإجمالي للفلسطينيين على مستوى العالم 14 مليونًا.

لكن لا يبدو أن هناك من يهتم بقرارات الأمم المتحدة بشأن حقوق الإنسان أو حق العودة للفلسطينيين، لا في الماضي ولا اليوم، فالعالم لا يهتم بالبيوت التي أغلقناها وغادرناها عازمين على العودة إليها، أو ببساتين البرتقال المثمرة وحقول القمح، أو بأعراسنا ومآسينا، أو حتى وجودنا كشعب على هذه الأرض.

وبالتالي، فمن واجبنا بصفتنا من الجيل الثالث والرابع من أحفاد هذه الكارثة المستمرة أن نقدم الدليل، حتى لا ننسى تاريخنا الشخصي والجماعي، حتى لا ننسى ذكريات جداتنا الثكلى اللاتي ربين والدينا، وربونا من بعدهم، حتى لا ننسى موقع نبع الماء أو المسجد في حطين، أو الكنيسة في كفر بريم.

الشهادات الحية

أثناء عملي في هذا الأرشيف، والذي أعتبره شخصيًا جدًا وعامًا جدًا في نفس الوقت، فإن التوثيق، على الرغم من أنه لا يزال في مراحله الأولى، يعمل كدليل حي لا يمكن إنكاره.

يزودنا هذا التوثيق بالمعرفة، حتى لو كانت جزءًا صغيرًا من تاريخ شعبنا، تلك المعرفة التي تمنحنا القوة المتجسدة في حقنا في هذه الأرض، ولا يُفقد أي حق طالما هناك من يسعى خلفه.

في إحدى الصور التي التقطتها، جلست مع مختار قرية العزير أبو علي الخطيب وزوجته عايدة، وشربت قهوته، وعلى الرغم من أن المهمة كانت صعبة، لأن ذاكرته وحالته الصحية لم تسمح له بالتحدث كثيرًا، إلا أن ذلك اللقاء عنى لي الكثير، لكن وللأسف، توفي أبو علي بعد عام من هذا الاجتماع، تاركًا وراءه تاريخًا طويلًا كزعيم للقرية.

وفي مرة أخرى التقطت صورة للحاج رضوان سعيد من قرية كفر كنّا، وهو من مواليد عام 1929، وكان له أحد أرقى الوجوه وأكثرها تميزًا في القرية، كان يغني لزوجته الجميلة نجلاء صبيح من مواليد 1939، وكان يغازلها ويعبر لها عن حبه بطريقة لم أرها من قبل، لكنه هو الآخر توفي بعد عامين من لقائنا، تاركًا وراءه زوجة محبة وعائلة كبيرة.

في الصورة التي جمعتني مع عم والدي عبد المنعم الخطيب من العزير وزوجته فتحية سالم صقر من كفر كنّا، كنت قد استمعت لذكريات تهجيرهما، وعلمت بأمر أقاربنا من قرية الشجرة في قضاء طبريا، ومنهم عائلة رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي الذي اغتيل في لندن عام 1987 قبل أن يتمكن من العودة إلى وطنه.

خلال هذه الرحلة القصيرة، لم أتعرف على جدتي بشكل أفضل فحسب، بل اكتسبت أيضًا فهمًا قويًا للتاريخ المأساوي لفلسطين.

زادت هذه التجربة تصميمي على زيارة المزيد من العائلات والعمل بجد على توثيق المزيد من القصص، وتقديم جزء صغير على الأقل من الشهادات الحية للنكبة التي لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا. 

هؤلاء الناس هم بركتنا، بدونهم لن يكون لدينا معرفة جيدة بتاريخنا أو موقف قوي من حقوقنا التي نرفض أن تُنسى، لا تزال النكبة مستمرة، لكن أسلافنا يغادروننا بسرعة.

للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة