لماذا تستميت أوروبا من أجل خسارة أردوغان؟

بقلم ديفيد هيرست

ترجمة وتحرير مريم الحمد

بالفعل، لقد تفوقت مجلة الايكومونست على نفسها في إظهار كراهية واضحة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ففي عددها الأخير، وصفت المجلة الانتخابات الرئاسية التركية بالأهم، مدعية أن النتيجة لن تؤثر على مستقبل تركيا فحسب، بل على “مستقبل الديمقراطية نفسها”، معتبرة أن “الطرد السلمي لأردوغان سيظهر للديمقراطيين في كل مكان أنه يمكن هزيمة الزعماء الأشداء” بحسب المجلة.

يمكن وصف ما كتبته المجلة بالغباء على أقل تقدير، ربما تكون قد نجت من اهتمام تركيا، لكن توصيفها غير دقيق، فرغم وجود حكم رئاسي مفرط في تركيا، إلا أنه ما زال من الممكن إجراء انتخابات حرة في تركيا على عكس الكثير من بلدان الشرق الأوسط  حيث الديكتاتورية هي القاعدة!

 كل الأغلفة كانت تستهدف أردوغان، والسؤال، لماذا لم يخصصوا أغلفة لإدانة الزعماء الديكتاتوريين الذين يتفق الجميع أنهم أسوأ بكثير من أردوغان؟!

لاشك أن الانتخابات في تركيا تحمل طابعاً شعبوياً بشدة، وفيها حالة استقطاب عالية، وتعد ساحة لعب للوصول إلى وسائل الإعلام الحكومية بالنسبة لأحزاب المعارضة، لكنها انتخابات مجانية وصعبة في نفس الوقت، فعلى الرغم من قرار المجلس الأعلى للانتخابات عام 2019 إلغاء فوز رئيس بلدية اسطنبول، أكرم إمام أوغلو، آنذاك، إلا أنه كسبها في دلالة على نظام انتخابي تركي قوي للغاية.

جميع الأحزاب تتواجد عند صناديق الاقتراع وفي اللجان في كل مرحلة من مراحل العد ونقل الصناديق والفرز النهائي، إضافة إلى ذلك، البلاد مقبلة الآن على الانتخابات الحرة السابعة التي يخوضها أردوغان، الذي وصفته الإيكونومست بالديكتاتور، منذ انتخابه رئيساً لبلدية اسطنبول عام 1994.

ديكتاتوريون آخرون

لقد كرست الإيكونومست ستة أغلفة أخرى للمجلة عن نفس الموضوع على مدى عقد من الزمن، كل الأغلفة كانت تستهدف أردوغان، والسؤال، لماذا لم يخصصوا أغلفة لإدانة الزعماء الديكتاتوريين الذين يتفق الجميع أنهم أسوأ بكثير من أردوغان؟!

الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، مثلاً، أضاف مؤخراً 81 اسماً من المدافعين عن حقوق الإنسان والصحفيين إلى “قائمة الإرهاب” التي يبلغ عددها الآن أكثر من 6 آلاف شخص، بمن فيهم 32 صحفياً مصرياً من قنوات الجزيرة والشرق ومكملين ووطن وشبكة رصد ومواقع إخبارية أخرى تنتقد الحكومة، بالإضافة إلى وجود أكثر من 60 ألف سجين سياسي يموتون في السجون المصرية.

وماذا عن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، الذي قتل صحفياً وقطع أوصاله، أم أن منافسيه تم تعليقهم رأساً على عقب حتى وقعوا على ممتلكاتهم؟! هل هذه وجهة نظر الإيكونومست عن مملكة تسعى للإصلاح والتحضر؟! ولكن الإيكونومست ليست إلا مثالاً على غياب الحكم العقلاني على الأمور حين يتعلق الأمر بتركيا.

على سبيل المثال، قامت مجلة دير شبيغل الألمانية، نموذج الليبرالية الديمقراطية الاجتماعية في ألمانيا، بتصوير أردوغان بالحاكم الجالس على عرش متصدع خلفه الهلال رمز الإسلام وهو يتفكك، تحت عنوان ” بعد 100 عام، تقف تركيا عند مفترق طرق: إذا فاز أردوغان هذه المرة، يخشى مراقبون من تحول البلاد إلى الديكتاتورية، ربما يصبح حاكماً للأبد ويلغي الانتخابات”!

لو فكرنا للحظة، هل يمكن تخيل الضجة التي كانت سوف تحدف لو وضعنا مكان صورة أردوغان صورة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي تحالف مع الإرهابيين الفاشيين، على عرش يهودي متصدع مع نجمة داوود مفككة خلفه؟!

مجلة لو بوينت الفرنسية، قامت بتشبيه أردوغان بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مشيرة إلى أن الرجلين “يحلمان باستعادة الإمبراطورية” وأن كلاهما “استغلا الدين” وقاما بغزو بلدان أخرى، ففي حالة تركيا تستشهد المجلة بغزو تركيا لشمال قبرص الذي حدث عام 1074 عندما كان السياسي الكمالي من حزب الشعب الجمهوري مصطفى بولنت أجاويد، في السلطة!!

وأضافت المجلة في حديثها عن توغلات تركيا في سوريا وليبيا، لكن ألم يكن هناك قوات أمريكية وروسية وإيرانية أيضاً في سوريا؟! ألم تؤيد كل الدول الغربية المحاولة الفاشلة للإطاحة ببشار الأسد؟! ألم تقتل تركيا مؤخراً آخر زعماء داعش الذي لا يزال التحالف الغربي يقاتله؟!! ألم يكن مرتزقة فاجنر الروس والإمارات ومصر وراء محاولة الاستيلاء على طرابلس في ليبيا قبل أن تتدخل تركيا بطائراتها المسيرة؟!!

أوروبا والهستيريا العقلية

لا تقتصر التعليقات والتحليلات الأوروبية على الخطأ والاختزال فحسب، بل إن بعضها قد وصل إلى مرحلة التعبير عن الاختلال العقلي الذي وصلت له الحالة الأوروبية عند الحديث عن تركيا، التي علقت الرد مؤقتاً لما بعد الانتخابات.

يطلقون على أردوغان لقب “إسلامي، على الرغم من أن أول ما قام به عندما تولى محمد مرسي السلطة في مصر، ممثلاً لفكر جماعة الإخوان المسلمين، دعوته إلى العلمانية خلال زيارته في القاهرة.

 رغم الحقيقة، يصر الأوروبيون على رؤيته كتهديد للديمقراطية ونموذج للديكتاتورية ويسعون لشيطنته بشتى الطرق، ليس بصفته “مستبداً” بحسب ادعائهم وإنما لأنه مسلم،  فوصفه بالإسلامي يكشف عن العقلية الأوروبية التي بدأت تدخل مرحلة الهستيريا وربما تحتاج إلى طبيب نفسي لمعالجة الكم الهائل من الهذيان.

يقول كليتشدار أوغلو أنه يريد إعادة النظام البرلماني لتصبح مؤسسات الدولة أقوى وأكثر استقلالية، لكنها مجرد قصة يقولها اليوم

السؤال، ماذا لو خسر أردوغان الانتخابات؟! إذا فشل بالفوز بأغلبية مطلقة في الجولة الأولى وسيطرت أحزاب المعارضة على البرلمان، فسوف تعتمد الجولة الثانية على تقسيم أصوات الأحزاب الأخرى، ولذلك تعتبر هذه الانتخابات الأصعب على أردوغان منذ 20 عام، فاستطلاعات الرأي التركية وضعت المرشحين الرئيسيين في مرتبة متقاربة ضمن هامش الخطأ.

إذا خسر أردوغان، فالأسباب سوف تتمحور حول التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة التي أثرت على القوة الشرائية، فقد قام 3 من المحافظين المركزيين باتباع سياسة محددة، لا يمكن الدفاع عنها، بشأن أسعار الفائدة، مما أدى إلى تفريغ احتياطيات تركيا من العملات الأجنبية والذهب، وبهذه الحالة يكون الاقتصاد سبب سقوطه وليس سطوته.

في السنوات الأخيرة من ولايته، كان وجود أردوغان يمثل حالة من الاستقرار، ففي عام 2018، صوتت تركيا للاستقرار على التغيير، واليوم يريد الأتراك عكس التغيير على حساب الاستقرار، هناك جيل كامل قد أُضيف إلى السلم الاجتماعي خلال الفترة وأصبح جزءاً من الطبقة الوسطى، فأصبح أبناء الموالين لحزب العدالة والتنمية من أطباء ومهندسين لكن لا يستطيعون دفع الإيجار في اسطنبول، لذلك يريدون تغييراً.

“عرض الرجل الواحد”

في عهد أردوغان، تحول نظام الحكم من البرلماني إلى الرئاسي، فأصبحت الحكومة رئاسية تدار بنظام “عرض الرجل الواحد” الذي يتابع كل التفاصيل، وتوقيعه مطلوب حتى عند تعيين أدنى المناصب في السلسلة التنفيذية، الكثير بالفعل بحاجة إلى التغيير.

يقول كليتشدار أوغلو أنه يريد إعادة النظام البرلماني لتصبح مؤسسات الدولة أقوى وأكثر استقلالية، لكنها مجرد قصة يقولها اليوم، ويشاركه الطاولة المعارضة تيارات قوية ولكنها غير جاذبة للجمهور الليبرالي الأوروبي، مثل العنصرية الشعبوية التي يعبر عنها العديد من أعضاء حزب الشعب الجمهوري تجاه اللاجئين السوريين والعرب بشكل عام.

لقد وعد كليتشدار أوغلو بوعود ليس أقلها السفر بدون تأشيرة إلى دول الشنغن الأوروبية في غضون 3 أشهر إذا فاز، وهو سقف اقترب أردوغان من تحقيقه عام 2016، لكن أردوغان تعلم من التجربة المريرة كيف يلعب بقوة مع الأوروبيين، ومن يدرس الموضوع جيداً، يدرك أن تركيا لم تعد عائقاً حقيقياً في وجه أوروبا منذ سنوات.

منذ عام 1992، أي قبل وصول أردوغان إلى السلطة بـ11 عاماً، كانت ألمانيا ترسل رسائل متضاربة بشأن انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ففي العلن، أكد وزير الخارجية الألماني، كلاوس كينكل، أن ألمانيا تدعم دخول تركيا آنذاك، لكن أوراقاً سرية نشرها معهد التاريخ المعاصر في ميونيخ، كشفت على لسان المستشار هيلموت كول قوله لرئيس الوزراء النرويجي جرو هارلم آنذاك “نحن ضد ذلك”، هذا في عهد كول الديمقراطي الليبرالي، فكيف يمكن ذلك في ظل تصاعد اليمين المتطرف الأوروبي اليوم؟!

سيل من العداء

لقد توغلت كراهية الإسلام والإسلاموفوبيا تجاه المسلمين في التيار  السياسي في أوروبا اليوم، فلا تتم إدانة أحد لذلك ولا يتم إعفاء أحد من منصب سياسي لهذا السبب، بل على العكس من ذلك.

يظهر كليتشدار أوغلو سعادته على مقابلة في التلفزيون الألماني عندما تم وصفه بالمستشار أولاف شولتز التركي، ولابد أنه مسرور أيضاً حين يشبهونه بجو بايدن في السلطة، ولكنه سوف يندم، إن فاز، على فرحه بتلك المقارنات بعد أن يرى الناخبون الأتراك الذين منحوه الثقة أنهم قد أُصيبوا بخيبة أمل.

 سوف يتعلم كليتشدار بالطريقة الصعبة أن السبب الحقيقي الذي جعل الغرب يضمر كل هذا العداء لأردوغان ليس سلطته ولا قمعه للصحافة، بل لأن أردوغان جعل تركيا دولة مستقلة بقواتها المسلحة القوية، والتي لا تتبع ما تمليه عليها أوروبا ببساطة.

أضف إلى ذلك، أن شعبية أردوغان كقائد في العالم الإسلامي السني يشكل تهديداً للإجماع الغربي الفاشل والمتعثر، تجاه المنطقة، فلقد قام أردوغان بمخالفة ذلك الإجماع، كما أنهم يرفضون قربه من بوتين، والذي جعل تركيا من الدول القليلة التي استطاعت في دخول تفاوض بين الروس والاوكرانيين على تبادل أسرى، والحفاظ على صفقة الحبوب مستمرة لفترة، وربما تدخل في مفاوضات وساطة جديدة بين واشنطن وروسيا تعثر الهجوم المضاد الأوكراني.

لا تتمنى أوروبا شيئاً أكثر من سقوط أردوغان اليوم، وهي بذلك تعطي للأتراك سبباً أكبر للتمسك باستقلاليتهم وسيادتهم الذي ناضلوا من أجله لفترة طويلة

بغض النظر عن خسارة أردوغان أو فوزه، فإن عداء أوروبا الواضح لا يمكن أن يمر دون ملاحظته في تركيا، عندما دعا أردوغان إلى تجمع في مطار أتاتورك القديم احتشد مئات الآلاف، في مشهد يدلل بوضوح على أن فقدان المعارضة السيطرة في المدينة.

لعبة الديمقراطية

إذا فاز أردوغان، فسوف سيكون السبب أنه استطاع إقناع الناخب المحافظ بالعودة إلى حظيرة حزب العدالة والتنمية الحاكم، وبذلك تكون استراتيجية كليتشدار أوغلو في تقسيم أصوات المحافظين من خلال ضم رفقاء أردوغان، رئيس الوزراء الأسبق أحمد داوود أوغلو ووزير الخارجية السابق علي باباجان، قد أثبتت فشلها. 

أما إذا ما ذهبت الانتخابات إلى جولة ثانية، فلا يزال لدى أردوغان أوراق يلعبها، ليس أقلها تعيين نائبين للرئيس أو أكثر لهم ثقل كبير في السياسة النقدية والخارجية، أما كليتشدار فسوف يكون مفلساً من أوراق جديدة.

هذه هي اللعبة الديمقراطية في تركيا، قاسية ومفقودة أحياناً، هناك الكثير مما يستلزم التغيير في النظام الرئاسي، فقد كنت من أشد المعارضين لها منذ البداية، كنت أرى أن تركيا بحاجة إلى إعلام قوي مستقل ومؤسسات مستقلة، وأن الرئيس يجب أن يخضع للتحقيق من قبل البرلمان، وأن تركيا بحاجة إلى بنك مركزي مستقبل، لكن رئاسة أردوغان، على عيوبها، ما زالت تسبق ما يحدث في الدول العربية من غطرسة وقمع ويعلن قادتها أن شعوبهم “ليست ناضجة بما فيه الكفاية من أجل الديمقراطية”، بسنوات ضوئية.

لا تتمنى أوروبا شيئاً أكثر من سقوط أردوغان اليوم، وهي بذلك تعطي للأتراك سبباً أكبر للتمسك باستقلاليتهم وسيادتهم الذي ناضلوا من أجله لفترة طويلة.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة