ميناء حيفا.. استحواذ هندي وأجندة إسرائيلية لا تبشر بالخير!

بقلم آزاد عيسى

وقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مبتسماً إلى جانب رجل الأعمال الهندي، غوتام أداني، خلال حفل التوقيع على شراء الأخير ميناء حيفا بقيمة 1.2 مليار دولار في أواخر يناير عام 2023، واصفاً في كلمته الحدث بمثابة “تحرير”، وأنه يأمل أن تؤدي الصفقة إلى مزيد من “التواصل” بين الجانبين، وأضاف “أعتقد أن هذه الصفقة تقدم هائل، فمنذ أكثر من 100 عام، وخلال الحرب العالمية الأولى، كان الجنود الهنود الشجعان هم من ساعدوا في تحرير حيفا، واليوم المستثمرون الهنود الأقوياء هم من يساعدون في تحريرها مرة أخرى”.

وتتضمن الصفقة، التي تعد من أكبر الاستثمارات الهندية في أي قطاع إسرائيلي، استحواذ مجموعة الأعمال الهندية “أداني” على حصة 70% من ميناء حيفا الذي تمت خصخصته مؤخراً، مقابل تملك النسبة المتبقية البالغة 30% من قبل شركة “غادوت” الإسرائيلية، وبعد التوقيع، تصدرت الصفقة عناوين الصحف في إسرائيل والهند، لأنها استطاعت استقطاب ثالث أغنى شخص في العالم.

” يعد ميناء حيفا موقعًا رئيسيًا في تكوين الأمة الصهيونية والإسرائيلية” – شاري بلونسكي – جامعة كوين ماري

ولكن بعد أيام من وضع اللمسات الأخيرة  على الصفقة، واجهت مجموعة “أداني” اتهامات بسوء التصرف المالي والمعاملات الاحتيالية والتلاعب في أسعار الأسهم، الأمر الذي أدى إلى انخفاض أسهم الشركة بشكل كبير رغم استثمار 400 مليون دولار في صندوق استثمار أبو ظبي، وأدت التهم إلى إسقاط أداني من قائمة أغنى 10 أشخاص حول العالم، مما سبب “إحراجاً سياسياً” للرأسمالية الهندية بحسب وصف مجلة الإيكونومست.

في 9 فبراير، اتصل نتنياهو برئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي فيما بدا أنه محاولة لإصلاح الموقف وتهدئة المخاوف الهندية حول تورط أداني في صفقة ميناء حيفا أو علاقاته التجارية مع إسرائيل عموماً، الأمر الذي لاقى قبولاً لدى الحكومة الهندية، حتى وصف السفير الهندي في إسرائيل، نوار جيلون، أداني بأنه “لاعب قوي جداً في عالم الموانئ وهذا عمله الأساسي، نعتقد أنه سيجعل الميناء أقوى وأكثر ازدهاراً”، مما يعني حرص الجانبين بالنهاية على إنجاح الصفقة.

قصة ميناء حيفا

لقد ظل ميناء حيفا، الذي يقع على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، مركزاً رئيسياً للبحارة من شمال إفريقيا وآسيا لمئات السنين، ثم أصبح في ظل الدولة العثمانية ميناءً رئيسياً وعاملاً مساعداً على النمو السكاني في المدينة التي تقع في الطرف الشمالي من فلسطين.

في عام 1918، لم يكن عدد اليهود يتجاوز 3 آلاف في المدينة البالغ عدد سكانها آنذاك قرابة 22 ألف نسمة، وعندما جاء الانتداب البريطاني عمل على تطوير الميناء منذ عام 1929 فازدهرت حيفا اقتصادياً وإدارياً، ولكن ظل 40% من سكانها الفلسطينيين فقراء، حيث كان هدف الازدهار مرتبطاً بمشروع الصهيونية القادم “إنشاء وطن قومي لليهود”، ومن هنا “كانت حيفا موقعاً رئيسياً في تكوين الأمة الصهيونية والإسرائيلية” بحسب المحاضر في جامعة كوين ماري، شاري بلونسكي.

بحلول عام 1947، أصبح نصف سكان حيفا من اليهود وبلغ عددهم 140 ألف نسمة، وصارت جزءاً من دولة إسرائيل بموجب قرار التقسيم التابع للأمم المتحدة، وبدأت فيها أعمال العنف مع طرد الفلسطينيين منها عام 1948، حيث قامت الميليشيات الصهيونية بتهجير عشرات الآلاف من الفلسطينيين من المدينة ومحيطها وإزالة العلم البريطاني من الميناء مع نهاية يونيو من ذلك العام.

استمر تدفق المستوطنين اليهود من أوروبا وغيرها حتى الخمسينيات من القرن العشرين، فتوسع الميناء تحت سيطرة الدولة الإسرائيلية الحديثة وأصبح فيما بعد أكبر وأهم موانئ إسرائيل، وجزءاً لا يتجزأ من الناتج المحلي الإجمالي، حيث تمر عبره معاملات %50 من البضائع الإسرائيلية.

كيف بدأت الصفقة مع أداني؟

لقد بدأت المداولات بشأن خصخصة الميناء منذ السنوات الأولى في القرن 21، ضمن سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية التي بدأها نتنياهو انطلاقاً من قناعته بأن بيع الأصول العامة يعمل على تقليل الفساد وخفض التكاليف، ففي عام 2015 مثلاً، فازت مجموعة موانئ شنغهاي الصينية بمناقصة تشغيل محطة “بايبورت حيفا” لمدة 25 عاماً.

أثارت الصفقة مع الصينيين استياء واشنطن، حتى دعا وزير خارجيتها مايك بومبيو خلال زيارته إلى إسرائيل عام 2020، إلى وقف مشاريع البنية التحتية مع الصينيين، معبراً عن تخوفه من أن تؤدي تلك المشاريع إلى “تقوية الحزب الشيوعي الصيني والوصول إلى البنية التحتية  وأنظمة الاتصالات الإسرائيلية”.

تسبب الضغط الأمريكي في انسحاب بكين أو عدم استكمال الصفقة رغم بدئها بالعمل بعد عام من التوقيع، كما انسحبت موانئ دبي العالمية من المشروع بعد أن كانت شريكاً عربياً محتملاً، كل ذلك مهد الطريق لسيناريو مثالي لمشاركة الهنود، فقدم أداني عرضه السخي مقارنة بغيره مع شركة “غادوت” الإسرائيلية.

خلال السنوات الخمس الأخيرة، بدأت شركة أداني” في إنتاج أسلحة إسرائيلية، منها طائرات “هيرميس” بدون طيار، والتي تم اختبارها ضد الفلسطينيين لأول مرة خلال قصف غزة عام 2014

وتعتبر مجموعة الأعمال “أداني” من أضخم الشركات الهندية وأكثرها نفوذا لدى الدولة الهندية، حيث تشارك في تصنيع الطاقة الشمسية لتوزيع الغاز ومحطات معالجة المياه للمطارات والخدمات المالية للعقارات، الأمر الذي زاد من ثقة الإسرائيليين في صفقة اعتبرت جديدة بين الهند وإسرائيل على مستوى القطاع الخاص.

لم تبدِ واشنطن أي اعتراض هنا، بل كانت سعيدة بالصفقة الهندية الإسرائيلية، لأنها تعتبر الهند حليفاً استراتيجياً، خاصة منذ تولي ناريندرا مودي رئاسة الوزراء عام 2014، أما إسرائيل، فاعتبرت الاستحواذ الهندي نعمة تسهم في تطوير الميناء كمحور رئيسي في الشرق الأوسط، وتمكنها من فرصة فريدة في إنشاء طريق تجاري يربط البحر المتوسط والخليج متجاوزاً قناة السويس.

العلاقات الإسرائيلية- الهندية

في الخمسينات من القرن العشرين، كان يُنظر للهند على أنها صديقة للشعب الفلسطيني خاصة مع قيادتها لحركة عدم الانحياز آنذاك، حتى أن نيودلهي لم تعترف بدولة إسرائيل إلا عام 1950 أي بعد عامين من إعلانها، كما صوتت الهند عام 1975 في الأمم المتحدة على تصنيف الصهيونية كحركة عنصرية.

كل تلك المواقف بدأت تتغير مع تطبيع العلاقات بين الجانبين عام 1992، وبعد مرور 30 عاماً على التطبيع، أصبحت نيودلهي أكبر مشترٍ للأسلحة الإسرائيلية، حتى وصلت إلى قرابة 2 مليار دولار سنوياً، وتحت قيادة مودي، تسارع تطبيع العلاقات أكثر فأكثر، الذي تقارب مع إسرائيل بحثاً عن مصالح ومكاسب أوسع، فخلال السنوات الخمس الأخيرة، بدأت شركة أداني” في إنتاج أسلحة إسرائيلية، منها طائرات “هيرميس” بدون طيار، والتي تم اختبارها ضد الفلسطينيين لأول مرة خلال قصف غزة عام 2014.

استمر تطور العلاقات بين الجانبين مع قيام الهند عبر ترقية العلاقات إلى شراكة استراتيجية عام 2017، تحت رعاية ما يسمى باتفاقيات أبراهام في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الأمر الذي زاد من أهمية الهند في الشرق الأوسط، ليس مع إسرائيل فحسب وإنما مع دول عربية أخرى شاركت في الاتفاقيات.

ويعد الاستحواذ الهندي على ميناء حيفا أحد أهم مكاسب الهند التي عبرت عن ثقة كبيرة بهم من جانب الإسرائيليين، ومنحت الهند فرصة لتوسيع تواجدها من آسيا إلى الشرق الأوسط وأوروبا، كما عزز سعي نيودلهي لتصبح لاعباً اقتصادياً عالمياً، الأمر الذي سوف يسهل اتفاقيات التجارة الحرة التي طال تأجيلها بين الهند والاتحاد الأوروبي، كما أنها ستساهم في زيادة دمج الاقتصاد الإسرائيلي في الشرق الأوسط بعد سنوات من العزلة عن جيرانها.

“خرافات مبالغ فيها”

تجدر الإشارة إلى أنه في الوقت الذي سلم فيه نتنياهو مفتاح الميناء للشركة الهندية في 31 يناير 2023، كان الشهر يقفل باعتباره أكثر الشهور دموية بالنسبة للفلسطينيين منذ عام 2015 دون مبالغة، حيث قتلت القوات الإسرائيلية ما لا يقل عن 35 فلسطينياً في شهر واحد فقط، وفي أعقاب سنة 2022، التي اعتبرت الأكثر دموية منذ 2005!

وفي حفل التوقيع، لم يتحدث أداني عن شيء إلا كيل المديح لإسرائيل، حيث قال “لطالما حفزتني إسرائيل، لقد جعلتني أعيد التفكير في قناعاتي بعد رؤية ما يمكن أن يحققه سكان يقل عددهم عن 10 مليون نسمة، أو ما يمكن أن تفعله دولة وإن كانت ذات موارد طبيعية ضئيلة، ولكنها تفوقت في العلم والتكنولوجيا، تبهرني إسرائيل، كيف يمكن لنا التعلم منها”!!

تكمن خطورة صفقة ميناء حيفا باعتبارها جزءاً من مخطط لفك ارتباط إسرائيل بصفتها الاستعمارية وتسهيل التطبيع والتداول التجاري معها دولياً

تصريحات وصفها منتقدون لإسرائيل والهند بأنها “خرافات مبالغ فيها”، لبلدين يحاولان التسويق لنفسيهما على أن فيهما من الديمقراطية والإبداع رغم كل الإقصاء العرقي والقومي الذي تنتهجه كل منهما، ففي عهد مودي، شهدت الهند ارتفاعاً حاداً في الهجمات ضد المسلمين وغيرهم، كما أنها تتعامل مع كشمير كما تتعامل إسرائيل مع الضفة الغربية المحتلة، من عمليات نقل السكان والاستيلاء على الأراضي، وتطبيق سياسة استعمارية استيطانية!

تدويل الاحتلال!

في أكتوبر 2021، تم تدشين ما يُسمى “تجمع غرب آسيا”، والذي ضم إسرائيل والهند والولايات المتحدة والإمارات، بشكل رسمي، وقبل القمة بأيام، صرحت نيودلهي بأن التجمع سيعمل على تشجيع الاستثمارات المشتركة في مجالات مثل المياه والطاقة والنقل والفضاء والصحة والأمن الغذائي، تحت عنوان خصخصة المشاريع في الشرق الأوسط.

في ظل ذلك، يمكن القول أن صفقة ميناء حيفا لم توضح مركزية إسرائيل في عدد من المناورات الجيوسياسية في المنطقة فحسب، بل مثلت توطيداً للعلاقات مع بديل تحت رعاية الولايات المتحدة ورضاها بعيداً عن الصينيين، وبهذا تعتبر صفقة الميناء من أول وأهم إنجازات تجمع غرب آسيا، نحو مزيد من تدويل الاحتلال الإسرائيلي وتثبيت صورته الدولية بشكل طبيعي.

بعد مرور أقل من شهر على الاتصال الذي ذكرته بين مودي ونتنياهو، أعلنت شركة GQG Partners Inc الأمريكية، أنها سوف تستثمر ما قيمته 1.88 مليار دولار في 4 شركات تابعة لمجموعة “أداني” كدعم ضد التهم التي وُجهت للمجموعة، وشمل ذلك حصة 4.1% من أسهم “موانئ أداني” مقابل 640 مليون دولار، وبذلك ارتفعت أسهم شركات المجموعة الأربعة على الفور، وتعززت الروبية الهندية مقابل الدولار الأمريكي خلال شهر واحد فقط، في عملية إنقاذ أمريكية سريعة!

وتكمن خطورة صفقة ميناء حيفا باعتبارها جزءاً من مخطط لفك ارتباط إسرائيل بصفتها الاستعمارية وتسهيل التطبيع والتداول التجاري معها دولياً، ولكي تجري عملية كهذه بالطريقة الرأسمالية، فلابد من من المزيد من الضمانات الأمنية عبر احتواء الوحشية ضد الفلسطينيين.

لا يمكن فصل دوائر التجارة العالمية عن أي شيء وكل شيء، مثل القوانين المحلية أو السياسة، فكلها يمكن أن تعيق الحركة السريعة للسلع والخدمات، فلا شيء يتحرك بطريقة سحرية، الموانئ ليست مساحات فارغة، إنها مليئة بالهويات الوطنية والربح والهويات الامبريالية، فكل مكان تضع فيه دولة مصالحها يصبح لها فيه بشكل ما هوية، تماماً كما ظهر العلم الهندي إلى جانب الإسرائيلي عند مدخل الميناء بعد إتمام الصفقة.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة