بقلم وليد أبو هلال
ترجمة وتحرير مريم الحمد
عقدت قمة البريكس السنوية في مدينة كازان في روسيا هذا العام، حيث أصدرت الكتلة الجيوسياسية، بقيادة روسيا والصين، قبل القمة تقريراً تاريخياً تضمن مقترحاً لإنشاء بنية تحتية جديدة للتجارة وتحويل الأموال باستخدام دول البريكس لعملاتها الوطنية، بدلاً من الدولار الأمريكي.
قد يكون هذا تطوراً مهماً، حيث يعتقد بعض الخبراء أن “تسليح” الدولار ضد الدول التي تعارض الولايات المتحدة سياساتها من خلال العقوبات وتجميد الأصول وغيرها من التدابير، قلل من الثقة الدولية بالدولار ودفع العالم إلى التحرك من أجل تقليص العجز ومحاولة الاستغناء عن الدولار.
منذ عام 1944، كان لهيمنة الدولار الأمريكي على كل العملات العالمية الأخرى دور في زيادة تأثير وسيطرة الولايات المتحدة على سياسات معظم البلدان النامية، بما فيها الشرق الأوسط، حيث حافظت الولايات المتحدة على تفوقها العالمي من حيث القوة العسكرية والتطور التكنولوجي والسيطرة على الموارد الطبيعية.
من هذا المنطلق، يعتقد الاقتصاديون أن الدولار، الذي يعتبر العملة الاحتياطية العالمية الوحيدة، هو أحد أهم عناصر الهيمنة الأمريكية، خاصة على البلدان ذات الاقتصادات الناشئة، وقد ظهر هذا الأثر في أوجه خلال العام الذي مضى، فلم يكن المجتمع الدولي قادراً أو حتى راغباً في تحدي السياسات الأمريكية ووقف الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة.
لقد فرضت الولايات المتحدة سياساتها على العالم العربي، وذلك من خلال المساعدات الخارجية والعسكرية لدول مثل مصر والأردن والعراق وغيرها من الدول الفقيرة في المنطقة، فيما أعطت الدول الأكثر ثراء مثل السعودية والإمارات الأولوية لمصالحها مع الولايات المتحدة، وبالتالي لم تتخذ أي إجراء ذي معنى لإنهاء العدوان المستمر في فلسطين ولبنان.
بالعودة إلى دول البريكس، فقد قامت بزيادة حصصها من الذهب، حيث يسعى القادة إلى تقليل اعتماد بلدانهم على الدولار الأمريكي، حتى أن أعضاء الاتحاد الأوروبي، بمن فيهم وزير الخارجية الألماني، أعربوا مؤخراً عن رغبتهم في إنشاء نظام مدفوعات قائم على الاتحاد الأوروبي مستقل عن الولايات المتحدة.
لا يزال الدولار مهيمناً على تداول العملات بنسبة 90%، كما لا يزال قادراً أيضاً على الانخفاض إلى أدنى مستوى له منذ 20 عاماً في احتياطيات النقد الأجنبي لعام 2022.
منذ إطلاقها عام 2009، دافعت مجموعة دول البريكس عن نظام دولي متعدد الأقطاب ونظام مالي وتجاري عالمي عادل، كما تجري دول البريكس الآن محادثات لإنشاء عملة احتياطية جديدة من شأنها أن تسمح لبلدانها بقدر أكبر من الاستقلال الاقتصادي.
أعضاء كتلة البريكس يمتلكون 47% من احتياطيات العالم من النفط و50% من احتياطياته من الغاز الطبيعي
في ظل الحروب التي تديرها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، يأمل الكثيرون أن يؤدي الانخفاض الكبير في هيمنة الدولار الأمريكي كاحتياطي عالمي وعملة تجارية دولية إلى منع تأثيره المدمر على العالم، ولكن من يستطيع أن يزيح الدولار الأمريكي عن عرشه؟!
الدولرة
يمكن لمجموعة البريكس أن تلعب دوراً مهماً في تحدي هيمنة الدولار الأمريكي، وذلك من خلال زيادة ممتلكات بلدانهم من الذهب والعملات الرئيسية مثل اليوان الصيني بدلاً من الدولار الأمريكي وتشكيل اتفاقيات تجارية بعملات غير الدولار.
من الجدير بالذكر أن الدول المؤسسة لمجموعة البريكس لا تكن أصلاً الود تجاه الولايات المتحدة وسياساتها وخاصة روسيا والصين، فبعد أن جمدت الحكومة الأمريكية احتياطيات روسيا السائلة من النقد الأجنبي والبالغة 300 مليار دولار بسبب غزوها لأوكرانيا عام 2022، اقترح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الاستثمار في الأصول الصعبة مثل الذهب أو النفط.
وفقاً لتقارير، فمنذ بداية عام 2024، شكلت حيازات البنك المركزي من الذهب المملوك لدول البريكس بالإضافة إلى مصر “أكثر من 20% من إجمالي الذهب المحتفظ به في البنوك المركزية في العالم، حيث تحتل روسيا والهند والصين المراكز الأولى في ذهب البنوك المركزية”.
ورغم هيمنة الدولار الأمريكي لأكثر من 80 عاماً، إلا أن حصته في الاحتياطيات النقدية العالمية قد انخفضت منذ أوائل العقد الأول من القرن 21 من نحو 73% إلى 58% لصالح الذهب والعملات غير التقليدية.
لقد قامت دول بتخفيض حيازاتها من سندات الخزانة الأمريكية، حتى وصل تخفيض بعضها إلى الصفر مثل روسيا وتركيا، فيما قامت 7 دول كانت من المالكين الرئيسيين والتقليديين لسندات الخزانة الأمريكية بتخفيض حيازاتها بما مجموعه 2 تريليون دولار خلال العقد الماضي، ويشمل ذلك اليابان وروسيا والصين والسعودية والإمارات.
بناء على ذلك، يمكن ملاحظة أنه في الوقت الذي تضاعف فيه الدين العام الأمريكي على مدى العقد الماضي من 17.8 تريليون دولار إلى أكثر من 35 تريليون دولار اليوم، فإن قيمة سندات الخزانة التي يحتفظ بها غير الأمريكيين ظلت دون تغيير عند 8 تريليون دولار، مما يكشف عن انخفاض من 45 تريليون دولار، أي 23% في السندات الأمريكية التي يحتفظ بها الأجانب، من إجمالي عدد حاملي السندات.
سياسة العصا والجزرة
لقد استخدمت الولايات المتحدة سياسة العصا والجزرة لفرض سياستها على العالم العربي، حيث تم استخدام الرشوة في شكل مساعدات أمريكية مع الأنظمة والحكومات المذعنة، مثلما حصل في مصر على سبيل المثال، حيث يتمتع الجيش المصري بمساعدات سنوية قدرها 1.3 مليار دولار منذ معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979، وبذلك ظل ملتزماً بالسياسات الأمريكية في المنطقة.
وعلى الجانب الآخر، استخدمت الولايات المتحدة العصا ضد الأنظمة التي سعت إلى تنفيذ سياسة مستقلة، فعاقبت بشكل غير مباشر تلك الدول عن طريق إزالتها من نظام الدفع سويفت ومنعها من تحويل أي أموال بين البنوك، مما شكل “ضربة وطنية شديدة” لدول مثل إيران.
استخدمت الولايات المتحدة أيضاً العقوبات المباشرة كسلاح ضد الأنظمة التي لا تتفق مع سياساتها، حيث فرضت تلك العقوبات على استثمارات بلدان مثل إيران وسوريا والعراق، سواء في أسواق الولايات المتحدة أو أسواق حلفائها.
الحقيقة أن مثل هذه الإجراءات التي فرضتها واشنطن لم تكن لتنجح لولا مكانة الدولار الأمريكي!
تناولت قمة البريكس الأخيرة والتي حضرها 32 دولة على رأسها الأعضاء التسعة في المجموعة، طلبات أكثر من 30 دولة للانضمام إلى الكتلة أو التعاون معها، كما ناقشت تعزيز استخدام العملات المحلية في التجارة البينية وحتى مع الدول غير الأعضاء، كما اقترحت الكتلة أيضاً إنشاء مبادرة الدفع عبر الحدود (Bcbpi)، والتي تهدف إلى تقليل الاعتماد على نظام الدفع الوحيد عبر الحدود المهيمن الآن وتشجيع البلدان على استخدام عملاتها الوطنية في التجارة الدولية البينية.
كل هذا يتطلب تغييراً في عقلية الحكومات العربية، الأمر الذي قد يتطلب ربيعاً عربياً جديداً!
أعلنت قمة البريكس أيضاً عن خططها لإنشاء بديل لنظام سويفت الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة، حيث يسمح لأعضاء البريكس الذين “ليس لديهم طريقة فعالة للسيطرة أو التأثير على هيئة صنع القرار التي تحكم عمليات سويفت” بتحويل المدفوعات بين البنوك المركزية في بلدانهم دون عوائق.
ويرى المراقبون المتفائلون أن كتلة البريكس يمكن أن تساهم بشكل فعال في إزاحة الدولار من عرشه، فما الذي يمكن لدول البريكس أن تفعله؟
تتمتع الدول التي يتألف منها تحالف البريكس بمزايا كبيرة يمكن أن تمكنها من تحقيق أهدافها المتمثلة في عالم متعدد الأقطاب، فضلاً عن نظام مالي وتجاري عادل لصالح الجنوب العالمي، فخلال قمة أغسطس عام 2023 في جوهانسبرغ في جنوب إفريقيا، دعت البريكس 6 دول للانضمام إلى الكتلة، تم تأكيد انضمام 4 منها رسمياً، مصر وإيران وإثيوبيا والإمارات، فيما رفضت الأرجنتين الدعوة، ولا تزال السعودية تفكر في الانضمام.
مع هذا التوسع، تشكل كتلة البريكس تقريباً ما نسبته 46% من سكان العالم و28% من الاقتصاد العالمي، ويبلغ ناتجها المحلي الإجمالي على أساس تعادل القوة الشرائية 35%، متجاوزاً بذلك الناتج المحلي الإجمالي في العالم.
بالنسبة لمصادر الطاقة، فإن أعضاء الكتلة يمتلكون 47% من احتياطيات العالم من النفط و50% من احتياطياته من الغاز الطبيعي، كما يعمل أعضاء البريكس على تعميق التجارة البينية باستخدام العملات المحلية بدلاً من الدولار الأمريكي، بما في ذلك شراء وبيع مصادر الطاقة دون اللجوء إلى الدولار.
وفي مفارقة عجيبة، فإن الدولار الأمريكي هو العملة الوحيدة المستخدمة في تجارة النفط حتى الآن، في حين أن أكبر المشترين وكذلك أكبر البائعين، هم أعضاء في البريكس!
إنهاء الهيمنة الأمريكية
يتفق أعضاء البريكس بلا شك على أنهم يجب ألا يعتمدوا على عملة واحدة مثل الدولار الأمريكي، ومع استمرار الولايات المتحدة في مواجهة المزيد من العزلة الدولية بسبب دعمها لإسرائيل، فإن العديد من المراقبين المتفائلين في العالم العربي ينظرون إلى تآكل هيمنة الدولار باعتباره بداية النهاية لهيمنة الولايات المتحدة على العالم.
إذا أصبحت الحكومات والأفراد في مختلف أنحاء العالم أقل ميلاً إلى قبول الدولار الأمريكي الضعيف، فسوف تضطر الولايات المتحدة إلى وقف طباعة مليارات الدولارات التي تمول حروب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل ضد فلسطين ولبنان.
رغم كون دول البريكس وسيلة قوية لتحقيق هذا الهدف، إلا أنها لا تستطيع تغيير سياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط لوحدها، فعلى الدول العربية أيضاً اتخاذ بعض الخطوات الاستراتيجية التي تتضمن الإنهاء التدريجي لاعتمادها الاقتصادي والنقدي على الولايات المتحدة، خاصة تلك التي تربط عملاتها بالدولار الأمريكي بدلاً من سلة العملات كما في حالة الكويت.
يتعين على الدول العربية أيضاً توسيع ممتلكاتها من الذهب، كما تفعل معظم الدول الكبرى مثل الصين والهند وتركيا، والانضمام إلى الكتل الاقتصادية الكبرى مثل البريكس، كما فعلت إيران والإمارات ومصر.
كل هذا يتطلب تغييراً في عقلية الحكومات العربية، الأمر الذي قد يتطلب ربيعاً عربياً جديداً!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)