هل نحن أشرار حقاً؟ الدعم الغربي للإبادة الجماعية في غزة يؤكد أن الإجابة نعم!

بقلم جوناثان كوك

ترجمة وتحرير مريم الحمد

في مشهد كوميدي بريطاني شهير تدور أحداثه خلال الحرب العالمية الثانية، يلجأ ضابط نازي بالقرب من الخطوط الأمامية إلى ضابط زميل له، فيتساءل بسخرية “هل نحن الأشرار؟”.

لقد استحضرت ذلك المشهد ووجدت أننا نعيش ذات التساؤل اليوم بعد 3 أشهر من دعم الإبادة الجماعية في غزة من قبل الزعماء الغربيين، 

الذين لم يكتفوا بالدعم فحسب، بل قدموا الغطاء الدبلوماسي والأسلحة وغير ذلك من المساعدات العسكرية.

يمكن القول أن إسرائيل تشن حرباً استعمارية على الطراز القديم ضد السكان الأصليين، فيما يهتف لهم القادة الغربيون، ألا يجعلنا ذلك أشراراً؟!

وفي ظل تواطؤ الساسة الغربيين بشكل كامل في التطهير العرقي لنحو 2 مليون فلسطيني، فهم يصرون على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بعد أن دمرت البنية التحتية الحيوية في غزة، بما في ذلك المباني الحكومية والقطاع الصحي، وعلى إثر ذلك بدأت ملامح المجاعة والمرض في الانتشار بين سكان القطاع منذرة بالقضاء على كثير منهم.

الواقع يؤكد أنه ليس لدى الفلسطينيين في غزة مكان يهربون إليه، ولا مكان يختبئون فيه من القنابل الأمريكية التي تستخدمها إسرائيل، وفي الوقت الذي تحاول فيه العواصم الغربية تبرير الجرائم الإسرائيلية بإلقاء اللوم على حماس، يسمح القادة الإسرائيليون لجنودهم وميليشيات المستوطنين بالاستيلاء على الضفة الغربية، حيث لا توجد حماس، ومهاجمة وقتل الفلسطينيين.

من ناحية أخرى، فقد لجأ القادة الإسرائيليون بسهولة إلى تشبيه القصف بالقنابل الحارقة التي ألقاها الحلفاء على المدن الألمانية مثل مدينة دريسدن، ولكنهم في ذكر التشبيه لم يشعروا بالحرج إزاء حقيقة مفادها أن هذه الجرائم تم الاعتراف بها بها منذ فترة طويلة باعتبارها من أسوأ الجرائم التي ارتكبت في الحرب العالمية الثانية.

يمكن القول أن إسرائيل تشن حرباً استعمارية على الطراز القديم ضد السكان الأصليين، فيما يهتف لهم القادة الغربيون، ألا يجعلنا ذلك أشراراً؟!

ثورة العبيد

يعد الهجوم الإسرائيلي على غزة مثيراً للاشمئزاز بشكل يجعل من الصعب تبريره، فهو يكشف عن شيء قبيح وهمجي في سلوك الغرب، تم حجبه لأكثر من 70 عامًا تحت غطاء “التقدم” من خلال الحديث عن أولوية حقوق الإنسان وتطوير المؤسسات الدولية وقواعد الحرب.

الحقيقة أن هذه الادعاءات لطالما كانت كاذبة، فقد تم بيع الحرب في كل من فيتنام وكوسوفو وأفغانستان والعراق وليبيا وأوكرانيا على أساس تلك الأكاذيب، فيما كان الهدف الحقيقي للولايات المتحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسي هو نهب موارد الآخرين والحفاظ على واشنطن كزعيم عالمي وإثراء النخبة الغربية.

كيف يتم الإشارة لما حصل في غزة على أنها حرب، فغزة ليست دولة وليس لديها جيش، حيث يرى الباحث اليهودي الأميركي نورمان فينكلستين، أنه من الأفضل أن فهم هجوم حماس في 7 أكتوبر على أنه ثورة عبيد وليس حرب

الأهم من ذلك كله هو أن الخداع كان مدعومًا بسردية جرت معها العديد من الغربيين، فالحروب كانت تهدف في العلن إما إلى مواجهة تهديد الشيوعية السوفييتية، أو “الإرهاب” الإسلامي، أو الإمبريالية الروسية المتجددة، كما ادعت هذه الحروب تحرير المرأة المضطهدة وحماية حقوق الإنسان وتعزيز الديمقراطية.

هذه المرة، في حالة غزة، لا يمكن تطبيق أي من هذه الادعاءات، فليس هناك ما هو إنساني في قصف المدنيين المحاصرين في غزة وتحويل سجنهم الصغير إلى أنقاض، كما أن إسرائيل لا يمكنها أن تدعي بأنها تحرر نساء وفتيات غزة من حماس بينما تقتلهن وتجوعهن، ولا يمكنها التظاهر بالاهتمام بتعزيز الديمقراطية وهي ترى جميع من في غزة “حيوانات بشرية”.

علاوة على ذلك، كان من المستحيل جعل حماس، تلك المجموعة التي تتألف من بضعة آلاف من المقاتلين، تبدو وكأنها تشكل تهديداً حقيقياً لأسلوب الحياة في الغرب، فهي لا تستطيع أن تطلق أي نوع من الرؤوس الحربية إلى أوروبا.

من جانب آخر، كيف يتم الإشارة لما حصل في غزة على أنها حرب، فغزة ليست دولة وليس لديها جيش، حيث يرى الباحث اليهودي الأميركي نورمان فينكلستين، أنه من الأفضل أن فهم هجوم حماس في 7 أكتوبر على أنه ثورة عبيد وليس حرب.

لو توقفنا عند ثورات العبيد عبر التاريخ، من تمرد سبارتاكوس ضد الرومان إلى تمرد نات تورنر في فرجينيا عام 1831، لوجدنا وحشية دموية، فلماذا نقف إلى صف القتلة؟!

خداع الجمهور بخطاب كاذب

في سعيهم لإقناع الرأي العام الغربي بمساعدة إسرائيل في حملة الإبادة الجماعية التي تشنها ضد غزة، فإن زعماءنا يشنون حرباً موازية على عقول الناس في الغرب، بات فيها التشكيك في حق إسرائيل في إبادة الفلسطينيين في غزة وترديد شعارات التحرر للفلسطينيين، يعد معاداة للسامية.

وعلى نفس المنطق، تعد المطالبة بوقف إطلاق النار لمنع موت الفلسطينيين تحت القنابل بمثابة كراهية لليهود!

من يدافع عن الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل يرى أن حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة وجيشها ليسا وحدهما، بل كل اليهود هم الذين سيدمرون غزة ويدعون إلى التطهير العرقي لسكانها، وأنا أعتقد أن هذه هي كراهية اليهود بمعناها الحقيقي.

الحقيقة أن الطريق نحو خداع الجمهور والتلاعب به قد تم تمهيده مسبقاً، فقد بدأ قبل التدمير الأخير لغزة بوقت طويل، قد ترجع بعض ملامحه إلا عام 2015، عندما تم انتخاب جيريمي كوربين زعيماً لحزب العمال، فتحدث لأول مرة عن مناهضة الإمبريالية وقلب السياسة البريطانية.

لقد أصبح ترتيب الأولويات في الغرب واضحاً وصريحاً، فحماية الحساسيات الإيديولوجية لقسم من الطلاب اليهود الذين يؤيدون بشدة حق إسرائيل في قتل الفلسطينيين كانت أكثر أهمية من حماية الفلسطينيين من الإبادة الجماعية أو الدفاع عن الحريات الديمقراطية الأساسية في الغرب لمعارضة الإبادة الجماعية

وباعتبار كوربين داعماً قويًا للحقوق الفلسطينية، فقد كانت المنظومة الحكومية تراه تهديدًا لإسرائيل، فكان من المحتم إسقاطه في نهاية المطاف، ليظهر خليفة كوربين، كير ستارمر، الذي حرص على تقديم حزب العمال باعتباره المشجع الأول لحلف شمال الأطلسي.

خلال فترة ولاية كوربين، لم يستغرق الأمر مطولاً حتى وضعت الدولة استراتيجية لوضع زعيم حزب العمال في موقف دفاعي وتقويض مؤهلاته في مناهضة العنصرية، وتم وصمه بأنه معاد للسامية!

لم تؤد حملة التشهير تلك إلى إلحاق الضرر بكوربين فحسب، بل مزقت حزب العمال، وحولته إلى رعاع من الفصائل المتناحرة، واستنفدت كل طاقة الحزب وجعلته غير قابل للانتخاب.

حملة تشهير

اليوم، تم استحضار نفس قواعد اللعبة ضد الكثير من الشخصيات المؤثرة في الرأي العام البريطاني والأمريكي، ففي هذا الشهر أصدر مجلس النواب بأغلبية ساحقة قراراً يساوي بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية.

علاوة على ذلك، يتم وصف المتظاهرين الذين خرجوا للمطالبة بوقف إطلاق النار لإنهاء المجازر في غزة، بأنهم “مثيرو شغب” في وقت يتم فيه التنديد بهتافهم “من النهر إلى البحر” الذي يدعو إلى المساواة في الحقوق بين اليهود الإسرائيليين والفلسطينيين باعتباره “صرخة استنفار” من أجل القضاء على دولة إسرائيل والشعب اليهودي”.

وللمفارقة، فهذا يعد اعترافاً غير مقصود من قبل الطبقة الحاكمة الغربية بأن إسرائيل لا يمكنها أبدًا أن تسمح للفلسطينيين بالتمتع بالمساواة أو الحصول على الحريات أكثر مما فعلت جنوب أفريقيا العنصرية مع السكان السود الأصليين.

على إثر حملات التشهير، بدأت النخب الغربية تلجأ من تلقاء نفسها تقييد حرية التعبير والفكر في مؤسساتها التي تخضع لمعاييرها، ومن ذلك ما تعرضت له رئيسات 3 جامعات أمريكية كبرى عقب استجواب من قبل الكونجرس حول التهديد الذي تمثله معاداة السامية للطلاب اليهود من خلال الاحتجاجات المناصرة لغزة في الحرم الجامعي.

لقد أصبح ترتيب الأولويات في الغرب واضحاً وصريحاً، فحماية الحساسيات الإيديولوجية لقسم من الطلاب اليهود الذين يؤيدون بشدة حق إسرائيل في قتل الفلسطينيين كانت أكثر أهمية من حماية الفلسطينيين من الإبادة الجماعية أو الدفاع عن الحريات الديمقراطية الأساسية في الغرب لمعارضة الإبادة الجماعية.

لقد أدى تحفظ رؤساء الجامعات الثلاثة على الاستجابة لمطالب السياسيين في تلك الجلسة في الكونغرس إلى حملة لوقف تمويل كلياتهم بالإضافة إلى دعوات لفصل رؤسائهم، ومن بينهم إليزابيث ماجيل من جامعة بنسلفانيا، والتي أُجبرت بالفعل على ترك منصبها!

تحديات على كل الجبهات

تعد هذه التطورات دليلاً إضافياً على الفشل، فهي علامة، أولاً، على أن الطبقة الحاكمة في الغرب بدأت تدرك أنها الجمهور يراها اليوم طبقة حاكمة منفصلة عن مصالح الناس العاديين.

إن الحقيقة البسيطة المتمثلة في أنه يمكن للمرء استخدام لغة “المؤسسات” و”الطبقة الحاكمة” و”الحرب الطبقية” هي مؤشر على إدارة التلاعب بالسرد لصالح  سياسات الدولة، فالواقع يقول أن التمسك بالمشروع السياسي الغربي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية قد بدأت تظهر آثار فشله.

السبب الثاني هو أن النخب الغربية ليس لديها إجابات واضحة عن أكبر التحديات التي تواجهها، فهي تتخبط في محاولة للتعامل مع المفارقات في النظام الرأسمالي الذي كانت الديمقراطية الليبرالية تشكل غطاء له.

غزة ليست مجرد خط مواجهة في حرب الإبادة الجماعية، ولكنها أيضاً خط أمامي في حرب النخبة الغربية على حرية التعبير في الغرب والمطالبة بمعاملة الآخرين بالكرامة والإنسانية التي نتوقعها لأنفسنا، فهي معركة خطوطها مرسومة بوضوح، فمن أراد الوقوف إلى جانب الأشرار يصبح عدواً

الموضوع الأكثر كارثية هي أزمة المناخ، فقد أثبت نموذج الرأسمالية القائم على الاستهلاك الشامل والمنافسة أنه بمثابة انتحار، فالموارد المحدودة تعني أن النمو يتطلب إسرافاً متزايد التكلفة، والحقيقة أن أولئك الذين نشأوا منذ ولادتهم على طموح نحو مستوى معيشي أفضل من مستوى معيشة آبائهم، لا يصبحون أكثر ثراءً، بل أكثر مرارة.

خطاب الأكاذيب

لقد اتضح أن الادعاء بأن العالم الغربي هو الأفضل والأكثر تقدماً يرتكز على أسس هشة، في الرأي العام الغربي مؤخراً، وفي البلدان التي دمرتها آلة الحرب الغربية منذ وقت طويل، حيث لم يقدم لهم  النظام الديمقراطي الليبرالي سوى التهديدات، فإما الولاء وإما العقاب.

هذا هو سياق الإبادة الجماعية الحالية في غزة، فإسرائيل تظهر في الواجهة الأمامية فقط للطمع الاستعماري الغربي، فهي بؤرة استيطانية مكشوفة وغير مستقرة، وهنا يكون خطاب الأكاذيب حول الديمقراطية والليبرالية في أقصى حالاته السامة وغير المقنعة.

وتعد إسرائيل دولة فصل عنصري تتنكر في صورة “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، كما أن قواتها الوحشية تتنكر في صورة “الجيش الأكثر أخلاقاً في العالم”، واليوم تتنكر الإبادة الجماعية في غزة في صورة “القضاء على حماس”.

لقد كان على إسرائيل دوماً  حجب تلك الأكاذيب من خلال الترهيب، وإذا ما تجرأ شخص على فضح الخداع يتم وصفه بأنه معاد للسامية، فإلى أين يؤدي هذا في النهاية؟!

قبل ما يقرب من عقد من الزمان، كتب الباحث وناشط السلام الإسرائيلي، جيف هالبر، كتاباً بعنوان “الحرب ضد الشعب” محذراً من أننا “في حرب لا نهاية لها ضد الإرهاب، محكوم علينا جميعا أن نصبح فلسطينيين”.

وأضاف بأنه لن يُنظر إلى “أعداء” الغرب فحسب، بل وسكانه أيضًا، باعتبارهم تهديدًا لمصالح الطبقة الحاكمة الرأسمالية وامتيازاتها الدائمة وثرواتها، فكانت هذه الحجة مبالغة بالنسبة لي حين قرأتها لأول مرة، لكنها باتت تبدو حقيقية.

غزة ليست مجرد خط مواجهة في حرب الإبادة الجماعية، ولكنها أيضاً خط أمامي في حرب النخبة الغربية على حرية التعبير في الغرب والمطالبة بمعاملة الآخرين بالكرامة والإنسانية التي نتوقعها لأنفسنا، فهي معركة خطوطها مرسومة بوضوح، فمن أراد الوقوف إلى جانب الأشرار يصبح عدواً.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة