آلام لا تنتهي: الأسيرات السوريات بين صدمة الحرب وعبء الاكتئاب بعد التحرر

بقلم هانا ديفيس 

ترجمة وتحرير نجاح خاطر 

كانت ملابس نساء داخلية ملقاة فوق كومة من الثياب المكدسة أمام ثلاجة ضخمة خُزنت فيها جثث الأسرى الذين قتلوا في سجن صيدنايا بسوريا، تعود للأسيرات اللاتي جردن على الأرجح من ملابسهن الداخلية قبل أن يُقتلن في ذات السجن سيئ السمعة، المعروف باسم “المسلخ البشري”.

“في هذا المكان كانت القسوة وحشية بكل معنى الكلمة. كان الأمر مثيرًا للاشمئزاز، ذبح وشنق واغتصاب”، هذا ما قاله خالد محمد الخان، وهو مقاتل من المعارضة السورية بينما كان يُطلع ميدل إيست آي على زنازين السجن.

وصل خالد وهو من محافظة درعا جنوب البلاد إلى سجن صيدنايا في 8 ديسمبر/كانون الأول، عندما تم إطلاق سراح مئات الأسرى في أعقاب الإطاحة بإدارة بشار الأسد، وبيّن إن من بين المفرج عنهم العشرات من النساء والفتيات.

ويتذكر المقاتل السوري فتاة غير متزوجة تبلغ من العمر 16 عامًا ولديها خمسة أطفال صغار، تحدث معها لفترة وجيزة قبل مغادرتها، قائلاً: “لم يصدقوا أنهم يغادرون السجن، كانوا خائفين وسألونا: من أنتم؟ من أنتم؟”.

وأشار خان إلى أنه عندما وصل لأول مرة رأى حوالي 50 امرأة على كاميرات المراقبة في الزنازين تحت الأرض داخل السجن.

وقبل سقوط الأسد، كانت آلاف النساء محتجزات في شبكة سيئة السمعة من السجون، وكان من المعروف أن الأسيرات يتعرضن لأشكال قاسية من التعذيب والضرب والحرمان من الطعام والماء والدواء والصرف الصحي الأساسي.

كما واجهت الأسيرات مجموعة قاسية من المصاعب تشمل العنف الجنسي المتفشي ووصمة “العار الاجتماعي” الذي يلاحقهن بعد إطلاق سراحهن.

“النساء كسلاح حرب”

ومنذ بداية ثورة عام 2011، حضرت أصوات النساء بقوة في الدعوات إلى التغيير السياسي في جميع أنحاء سوريا.

وقالت منظمة يوروميد رايتس، وهي منظمة لحماية حقوق الإنسان، في تقرير عام 2015، إن حكومة الأسد اعتقلت العديد من هؤلاء الناشطات بشكل تعسفي، وعرضتهن للتعذيب والإساءة الجنسية، واحتجزتهن أحيانًا لفترة أطول لممارسة الضغط على أسرهن أو ردع أقاربهن عن الانضمام إلى الاحتجاجات المناهضة للحكومة.

وقالت المنظمة الحقوقية: “مثل غيرها من الصراعات، فإن الاضطرابات التي طال أمدها في سوريا شهدت تدريجياً استخدام النساء كسلاح في الحرب والإرهاب”.

وفي فبراير/شباط 2024، أفادت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن ما لا يقل عن 10197 امرأة ما زلن محتجزات أو مختفيات قسراً على يد أطراف النزاع والقوى المسيطرة في سوريا.

كانت الغالبية العظمى من هؤلاء النسوة أو ما لا يقل عن 83% منهن قد تعرضن للاعتقال من قبل قوات الأسد. 

كما تم اعتقال أو اختطاف أخريات من قبل منظمات المعارضة المسلحة مثل الجيش الوطني السوري وقوات سوريا الديمقراطية وهيئة تحرير الشام.

وكانت الشبكة السورية لحقوق الإنسان قد سجلت وفاة 115 امرأة بسبب التعذيب، 95 منهن على أيدي قوات حكومة الأسد. 

ووصفت معتقلات سابقات تمت مقابلتهن في التقرير أشكالاً متعددة من التعذيب، مثل الصعق الكهربائي والضرب المبرح والتحرش والتعليق من السقف لفترات طويلة من الزمن.

وداخل مكتبها الصغير في حي جرمانا بدمشق، تحدثت ميلانا زين الدين عن جهودها في تقديم الخدمات النفسية لمئات النساء اللاتي تم اعتقالهن في سجون الأسد ثم أُطلِق سراحهن.

كانت زين الدين تمارس هذا النشاط سراً حتى سقوط الأسد قبل نحو أسبوعين.

وأخرجت المعالجة النفسية البالغة من العمر 37 عاماً أجندة صغيرة، سجلت فيها أسماء وجداول مواعيد مرضاها، ولم تكن أسماء من تم اعتقالهن مدرجة فيه.

لكن زين الدين أشارت إلى جبهتها قائلة أنها حفظت جداول مواعيد هؤلاء المراجعات أو سجلتها في دفتر سري مخبأ في المنزل.

وقالت زين الدين لموقع ميدل إيست آي: “كان الاحتفاظ بالمعلومات في مكتبي يشكل خطراً علي وعلى المراجعات، فقد كان يُنظَر إليك وكأنك تتفاعل مع معارض وإرهابي، وبالتالي، كنت موضع شك أيضاً”.

وأوضحت أنه “لم يكن لدى العاملين في مجال الصحة دائمًا الشجاعة لاستقبال هذه الحالات أو تقديم المساعدة لها، لأن الكثير من هؤلاء العاملين تم اعتقالهم ببساطة لمجرد أنهم كانوا يقدمون خدمة طبية”.

والآن، على الرغم من رحيل حكومة الأسد، لا يزال الخوف من التحدث قائمًا، فقد انحنت زين الدين فوق مكتبها وقالت بصوت خافت: “لا يزال مرضاي يتحدثون بهذه الطريقة”.

وأضافت: “حاليًا، لا يوجد شيء يجب أن يدفعهم للتحدث همساً، ولا يوجد ما يمنعهم من التحدث، على الأقل في هذه الغرفة، لكن الشعور بالمراقبة والخوف والقلق وعدم الثقة بين بعضنا البعض لا يزال موجودًا للأسف، إنه مدفون عميقًا فينا كأفراد”.

ومضت زين الدين تقول أن جميع مريضاتها اللاتي تم اعتقالهن تعرضن لشكل واحد على الأقل من أشكال العنف الجنسي.

ومن بين النسوة اللواتي أفرج عنهن من صيدنايا في 8 كانون الأول/ديسمبر شابة تعرضت للاغتصاب، ثم حملت وأجهضت خلال السنوات السبع التي قضتها في السجن.

وقالت زين الدين عنها، “عندما اغتصبوها، فقدت نفسها، لقد قالت لي: لا أعرف هل أنا امرأة جيدة أم امرأة قذرة؟ هذه الكلمات مازالت عالقة في ذهني”.

وأوضحت المعالجة السورية أن هذه الشابة تعاني الآن من اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب المزمن.

وقالت زين الدين عنها: “كانت المرأة تبلغ من العمر 22 عامًا فقط، وكانت طالبة جامعية من إحدى ضواحي دمشق، عندما اعتقلتها قوات الحكومة عند نقطة تفتيش واتهمتها بالعمل ضد الدولة والتآمر مع الإرهابيين”.

وأضافت: “ثم تم نقلها بين سجون متعددة، بما في ذلك سجن المخابرات السوري سيئ السمعة، والمعروف باسم فرع فلسطين”.

وتعالج زين الدين حاليًا ثلاث نساء تم إطلاق سراحهن مؤخرًا من صيدنايا، وقالت إن حالاتهن جميعًا متشابهة للأسف.

وكانت الشبكة السورية لحقوق الإنسان قد وثقت ما لا يقل عن 10060 حادثة عنف جنسي ضد النساء في مراكز الاحتجاز بين مارس/آذار 2011 ونهاية ديسمبر/كانون الأول 2023، بما في ذلك 7576 حادثة ارتكبتها قوات حكومة الأسد.

“أخشى أن يصبحن ضحايا مرة أخرى”

وبعد إطلاق سراحهن، غالبًا ما تواجه النساء والفتيات وصمة عار هائلة من مجتمعاتهن، وترتبط إلى حد كبير باحتمال وقوعهن ضحية للعنف الجنسي.

“أكبر مخاوفي هو رد فعل المجتمع والأسرة تجاه هذه الفتاة التي كانت في السجن، أخشى أن يصبحن ضحايا مرة أخرى” – ميلانا زين الدين، معالجة نفسية

وأضافت: “ينظر إلى الرجال المعتقلين على أنهم أبطال، لكن النساء لسن كذلك، بل ينظر لهن على أنهن قذرات، وهناك توتر كبير داخل مجتمعنا بشأن حياء المرأة وجسدها وكرامتها”.

وفي بعض الحالات التي تعرفها زين الدين، قتلت بعض العائلات بناتها بسبب الاعتداء الجنسي عليهن في السجن، بزعم أن الضحية جلبت “العار” إلى اسم العائلة.

وفي حالات أخرى، قام الأزواج بتطليق زوجاتهم بعد إطلاق سراحهن، أو تخلوا عنهن.

وذكرت زين الدين أن النساء يتجنبن تماماً في بعض الأحيان العودة إلى عائلاتهن خوفًا من هذه العواقب.

كما أدانت وسائل الإعلام الرسمية علنًا الناشطات والمعتقلات باعتبارهن “إرهابيات” و”مخربات” وحتى “عبيد جنس” لـ “الجماعات الإرهابية”، مما ساهم في خلق صورة سلبية عن الأسيرات.

وقالت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقريرها: “للأسف، تؤدي هذه التصورات إلى سلوكيات خطيرة ومواقف سلبية تؤثر على سمعة المعتقلات السابقات وعلاقاتهن بالبيئة، ولهذا السبب يمكن اعتبارها شكلاً من أشكال العنف”.

من ناحيتها وصفت المحامية شيرين سعيد اعتقال النساء بأنه “أمر مرعب حقًا”، هكذا قالت وهي محامية تعمل مع جمعية رعاية السجناء ومقرها مدينة اللاذقية الساحلية السورية.

“اعتقال النساء أمر مرعب حقًا، من غادر السجن منهن لديهن ندوب نفسية هائلة، ويحتجن إلى إعادة تأهيل من أجل العيش مرة أخرى” – شيرين سعيد، محامية

وقالت المحامية شيرين سعيد التي تعمل مع جمعية رعاية الأسرى ومقرها مدينة اللاذقية الساحلية السورية: “اليوم، نحن بحاجة إلى العدالة والدعم لهؤلاء النساء”.

وخلال لقاء مع موقع ميدل إيست آي في مقهى مزدحم في دمشق، قالت: “هذا هو أحد التحديات التي نواجهها اليوم في سوريا”.

وتحت المراقبة الدقيقة من قبل النظام، قالت المحامية البالغة من العمر 40 عاماً إن عملها مع جمعية رعاية الأسرى كان يقتصر على مساعدة العائلات في تحديد أماكن أحبائهم الذين اختفوا قسراً.

وأضافت إن أي شيء يتجاوز ذلك من شأنه أن يعرضها والجمعية التي تعمل معها للخطر.

وبالرغم من ذلك، كان تحديد مكان المختفين أمراً صعبًا للغاية، بسبب التكاليف الباهظة جداً والتي قد تصل، بحسب سعيد، إلى مئات الآلاف من الدولارات.

كما واجه المحامون صعوبات من قبيل عدم السماح لهم بدخول مرافق السجن والحصول على معلومات عن المعتقلين.

وقالت سعيد: “هناك أشخاص باعوا منازلهم وكل ممتلكاتهم فقط للحصول على أي معلومات، وليس حتى من أجل إطلاق سراح أحبائهم، فقط لمعرفة ما إذا كانوا موجودين أم لا”.

العدالة للمختفين

بعد المحادثة، غادرت ميدل إيست آي المقهى مع سعيد لحضور مراسم جنازة الناشط السوري مازن الحمادة الذي تم العثور على جثته في 9 ديسمبر/كانون الأول بين آخرين قُتلوا في سجن صيدنايا.

وخلال موكب التشييع، تجمع المئات للاحتفال بسقوط الأسد، وللمطالبة أيضًا بالعدالة لأولئك الذين ما زالوا مفقودين.

كانت الملصقات التي تحمل صور المختفين قسراً تطفو فوق الحشد. 

وقالت سعيد إنها تعرف اثنتين من أصحاب الصور، وهما المدافعتان عن حقوق الإنسان رزان زيتونة وسميرة خليل، اللتان اختطفتا في دوما عام 2013 من قبل جماعة جيش الإسلام المسلحة.

وبينما تجمعت الحشود، رفع المتظاهرون الملصقات في الهواء في نفس الوقت، وامتلأت عينا سعيد بالدموع، وحين هتفت الحشود “الشعب السوري واحد! سوريا حرة”، انضمت سعيد إليهم في الهتاف.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة