بقلم حميد دباشي
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
قدمت أربعة كتب تم نشرها خلال الأشهر الأخيرة حول صراع الاحتلال مع الفلسطينيين فرصة أخلاقية للعالم للبدء في محاسبة صهيونية الإبادة الجماعية على ما اقترفته من أعمال القتل والإبادة الجماعية في غزة، بل إن هذه الكتب الأربعة قد تكون أكثر أهمية من قرارات المحاكم الدولية.
وقد سبقت منشورات لا تُحصى في ذات الموضوع لمفكرين فلسطينيين بلغات متعددة ومنصات مختلفة صدور هذه الكتب، إلا أنها تشترك في سمتين أساسيتين، فلم يكتب أيٌّ منها فلسطيني أو عربي أو مسلم، ثم إن جميعها قد نُشرت في ظل الإبادة الجماعية في غزة.
ومن المؤكد أن الفلسطينيين أنفسهم ما زالوا المتحدثين الرئيسيين باسم قضيتهم، مقدمين الدليل الأوضح على الفظائع التاريخية التي عانوا منها لأجيال.
لقد قدم الشعب الفلسطيني للعالم مفكرين لامعين مثل محمود درويش، وغسان كنفاني، وفدوى طوقان، وعدنية شبلي، وميشيل خليفي، ورفعت العرير، ومي المصري، ومنى حاطوم، وإيليا سليمان، وإميلي جاسر، وكمال الجعفري، ومصعب أبو توحة، ونزار حسن، وغيرهم ممن لا يحتاجون إلى من يتحدث نيابة عنهم.
وكان الباحث البارز إدوارد سعيد وحده مؤسسةً غيّرت لغةَ تفكير العالم تجاه وحشية الاستعمار العالمي بطريقة جذرية، لا سيما في وطنه فلسطين، وجيلًا بعد جيل، حوّل الفنانون والمخرجون والعلماء والشعراء والروائيون والمفكرون الثوريون الفلسطينيون القضية الفلسطينية إلى انتفاضة عالمية.
ولا يعني توجيه النظر إلى أربعة مؤلفين غير فلسطينيين أن الفلسطينيين كانوا بحاجة إليهم، بل إن العالم هو من يحتاج كتاباتهم، لأن عولمة القضية الفلسطينية أصبحت الآن ضرورةً أخلاقيةً لا تقيدها حدود.
مُساءلة الصهيونية
تتكون هذه الكوكبة من المفكرين غير الفلسطينيين كلاً من الحاخام شاؤول ماجد، والكاتبان الأمريكيان بيتر بينارت وتا-نهيسي كوتس، والكاتب الهندي بانكاج ميشرا، وهذا يشير إلى مسارٍ مختلفٍ يُبقي الأمل قائماً في قلب الظلام المُرعب، حيث يجلس الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بجانب رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، مُدّعيًا أن غزة ملكٌ لهما.
ولا ينبغي أن تُشتت هذه الصورة البذيئة الانتباه عن الصورة الأكبر، حيث تلوح في الأفق رؤية مختلفة للعالم.
في الواقع، فإن اثنين من هذه الكتب الأربعة هي من تأليف مفكرين نقديين يهود بارزين، أحدهما حاخام، أما الثالث فهو لمؤلف أمريكي من أصل أفريقي شهير، والرابع لمفكر هندي معروف عالميًا، ولا يمكن لأي جهاز دعاية إعلامي، أو جماعة صهيونية، أو عصابة فاسدة من السياسيين الأمريكيين، رفض أو إنكار أو شيطنة أعمالهم عبر وصفها بأنها “معاداة للسامية”.
وبالعموم، فإن معاداة السامية مرض غربي حقيقي، وكذلك الإسلاموفوبيا، فاليهود والمسلمون متحدون في نضالهم ضد كلا المرضين.
يتناول الكتاب الأول، “ضرورة المنفى” لماجد (2023)، مسألة “المنفى” في سياق يهودي، ويستخدم هذا لاستجواب مشروع الصهيونية بأكمله، حيث يُقدّم فكرة المنفى من منظور تاريخي ومعاصر، فالقضايا التي تواجهها الجاليات اليهودية حول العالم ليست سياسية فحسب، بل تمسّ جوهر إيمانهم الراسخ.
فكيف يُمكن لأيّ إنسانٍ شريف، وخاصةً إذا كان يهودياً أخلاقيّاً، أن يقف مكتوف الأيدي وهو يشهد ذبح أجيال من الفلسطينيين باسم اليهود، وكيف له أن يلتزم الصمت؟ كتاب ماجد دليلٌ تاريخيّ على أنّ هؤلاء المفكّرين اليهود المبدئيّين لم يصمتوا قطّ.
أما الكتاب الثاني، “اليهودية بعد تدمير غزة” لبينارت (2025)، فهو تقييمٌ لمفكّرٍ يهوديّ أمريكيّ لامع للمخاطر التي تواجه إيمانه بعد أن أُسيء استخدام هذا الإيمان لارتكاب جرائم قتلٍ جماعيّ، وجرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية وتطهيرٍ عرقيّ والآن إبادةٍ جماعيّة.
تكمن أهمية هذا الكتاب في كونه من تأليف صهيوني سابق ملتزم، وُلد ونشأ مدافعًا عن دولة الفصل العنصري الإسرائيلية، ولم يُدرك إلا لاحقًا أن الدولة والأيديولوجية التي كان يؤيدها كانت آلة قتلٍ دموية.
وقد نتساءل: كيف فات هذا الرجل المثقف والمتعلم سابقًا سيل الأصوات الفلسطينية الصارخة المنادية بالعدالة، وعلى رأسها أبحاث سعيد التي تحظى بإعجاب عالمي هنا في جامعة كولومبيا بنيويورك، ولكن مع ذلك، أن تأتي متأخرًا خيرٌ من ألا تأتي أبدًا.
وبينارت مثقف يهودي يحظى بإعجاب واسع، وهو يستحق ذلك، فكلماته البليغة تصل إلى أعماق اليهود وغير اليهود في هذا البلد، إنه صوتٌ تشتد الحاجة إليه ضمن جوقة عالمية تطالب بالتضامن مع الفلسطينيين.
انتفاضة تاريخية
أما بالنسبة لكوتس، فقد سبق لي أن كتبتُ عن أهمية كتابه “الرسالة” (2024)، وإن كان ذلك من منظورٍ يقتصر على تحرره من الدعاية الصهيونية الخادعة، ففي سياق هذه الكتب الأربعة، يُبرز كوتس كامل قوة نضالات التحرير الأمريكية الأفريقية متعددة الأجيال ليشهد على رعب صهيونية الإبادة الجماعية في فلسطين.
لكنّ الشرارة الحقيقية تأتي من خارج الولايات المتحدة، مُنعزلةً بالمطلق عن المجال الأمريكي، وبالتالي أكثر عالميةً وتحررًا في التفكير النقدي للمؤلف ميشرا الذي يضفي بُعدًا مختلفًا جذريًا على تحدي العالم للتواطؤ مع الإبادة الجماعية الإسرائيلية.
ففي كتابه “العالم بعد غزة” (2025)، يُشارك ميشرا القراء كيف بدأ هو أيضًا وعيه السياسي مُقتنعًا بأهل بيته القوميين الهندوس بصواب القضية الإسرائيلية، حتى أنه علّق صورةً لزعيم الحرب الصهيوني موشيه ديان على جدار غرفة نومه، وهكذا يبدأ كتابه بدخول حجرة الاعترافات، ويشارك تفاصيل نشأته الصهيونية العميقة.
وفي كل مرة أقرأ فيها مثل هذه الاعترافات، أتساءل: على أي كوكب عاش هؤلاء الأصدقاء الأعزاء والمثقفون قبل أن يروا النور أخيرًا؟ لكن في هذه اللحظة من التاريخ، لم يعد الأمر مهمًا، لأن ما يهم هو قدرة ميشرا المذهلة على الامتناع عن الجدل، بل الإقناع.
إنه يتحدث عن نزاهة مشتركة قائمة على تاريخ مشترك، حيث يمكن للفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء أن يجدوا وطنًا أخلاقيًا، لا سياسيًا فحسب.
إن حجم وحشية الاحتلال الهائلة في غزة والضفة الغربية المحتلة، ومستوى الابتذال السافر لأمراء حرب الاحتلال والرؤساء الأمريكيين، والتي تُوِّجت ببلطجة إدارة ترامب الإجرامية قد أيقظت العالم أخيرًا، متجاوزًا الانقسامات الدينية والسياسية.
ما تكشفه هذه الكتب في وقتها المناسب هو تحول في مسار الأمور، ومن هنا، لا يمكن للعالم أن يغرق في بحرٍ آخر من الجهل أو اللامبالاة.
لن تتوقف هذه الانتفاضة التاريخية ضد إعادة تدوير القوة الاستعمارية الغربية الشرسة في فلسطين، حيث أن إنهاء الاستعمار قوةٌ من قوى التاريخ ستُكشف وتُفكك أجهزة القوى الاستعمارية ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا
ينظر العالم إلى المشهد السخيف لترامب وحاشيته من المليارديرات الفاسدين بازدراءٍ وتحدٍّ، هذه ليست معركةً بين اليهود وغير اليهود، ولا حتى بين الصهاينة والفلسطينيين، إنها معركةٌ بين الحق، والباطل والواقع والخيال.
إن جميع البشر الشرفاء، اليهود والفلسطينيين على وجه الخصوص، في جانب، يواجهون جيشًا من الخداع والعنف من الجانب الآخر.
لقد باتت جبهات القتال واضحةّ وضوح الشمس، وكما قال مارتن لوثر كينغ الابن ذات مرة: “قوس الكون الأخلاقي طويل، لكنه ينحني نحو العدالة”، نقطةٌ على السطر.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)