بقلم تاونشكا مرح
ترجمة وتحرير مريم الحمد
في الحكاية الشعبية السلافية، تأتي بابا ياجا الشمطاء التي لا تقهر فتعطي فاسيليسا 3 مهام بشرط إكمالها بنجاح أو مواجهة الموت، أحد المهمات كان استخدام غربال لنقل المياه لملء حوض الاستحمام.
هذا تماماً ما يشعر به البريطاني من أصل فلسطيني حين يحاول تكرار رواية قصة فلسطين وسط كل هذه الإبادة الجماعية، بل حتى ما يشعر به أي شخص مرتبط بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بما في ذلك من الناشطين، ونحن نشهد أسوأ حالة قتل جماعي بدعم من بريطانيا منذ حرب العراق.
كانت محاولتي الأولى للإمساك بمكبر الصوت في اعتصام احتجاجي شارك فيه 200 شخص في محطة القطار في برايتون في نوفمبر الماضي، فاكتشفت أنه من السهل التحدث بشكل مدهش لأن الناس كانوا متعطشين جدًا للاستماع
الفرق هذه المرة فقط، أنهم لا يحاولون حتى الادعاء بأن المدنيين ليسوا الهدف، فأنت تستعرض كل عضلاتك كقاص وتستخدم المنطق الفلسفي، والحقيقة التاريخية والإنسانية والشعر والاستعارة والتشبيه والبلاغة، وتتبع كل عبارة بإيماءة، مع العلم أن الشخص الذي تتحدث معه حاصل على درجة الماجستير، أو على دراية بالأدب والثقافة.
ولا أكاد أنتهي من السرد حتى تأتيني التنهيدة الكبيرة مع عبارة “الأمر معقد حقًا”، ثم ينتقل الشخص الذي كنت أتحدث معه إلى موضوع أخف، فأسأل نفسي، هل أنا التي أفتقر إلى المهارات الاجتماعية؟ هل نسيت كيفية التواصل الاجتماعي؟ ولكني غاضبة وأنا أرى نفسي مضطرة في كل مرة إلى رواية القصة من خلال غربال إلى عقل لا يريد أن يحتفظ بمعرفته عن غزة.
ماذا عن لعنة الدماء التي سالت على أيدينا؟ ماذا عن العبء الذي نحمله؟ لقد كان أسلوب حياتنا المريح مبنيًا دائمًا على معاناة أولئك الذين يعتبرون أقل قيمة، لأنه من الأسهل الاختباء خلف ستار من الدخان والقول بأن الأمر معقد!
قوة المسرح
في ذلك السياق، أصبح الجميع خطباء نصفق لهم في وسائل التواصل الاجتماعي، ننظم أنفسنا ونتظاهر ونحتل محطات القطارات، وزوايا الشوارع ومراكز التسوق وبوابات المصانع وننشئ منصات فلسفية للتحدث مع بعضنا البعض ونهتف للحقيقة البسيطة التي يتم صياغتها مرارًا وتكرارًا من خلال أدلة مختلفة، بسيطة وقوية مصممة لاختراق “التعقيد”.
اليأس هو ما تحذر منه كل نظرية أخلاقية ودين وقانون ومجتمع، فهو أسوأ ما يمكن أن يحصل للانسانية، نحن نعيش اليوم لحظة “لن تتكرر أبدًا” في التاريخ والناس يبتعدون عنها ويسمحون بحدوث ذلك!
في هذه المواقف، نحيي البلاغة والخطابة ونعود إلى الطرق القديمة عندما كنا نقف مرتفعين قليلاً عن الجمهور على مقاعد أو صناديق في البرد مع رثاء، فنحن نخلق المسرح لبعضنا البعض لكي نغرق في التضامن والبحث عن الحقيقة ضد آلة الخطاب العالمية المجهزة جيدًا.
أنا مخرجة مسرحية ومع ذلك، فأنا لم أرَ قط قوة وأهمية المسرح في كما رأيتها متجسدة في الفعاليات التضامنية اليوم، ففي مشهد يتحرك الناس ببطء مثل فرقة موسيقية قائمة قبل أن يرقدوا في الشارع تغطيهم ملاءات بيضاء بينما يتم قراءة الشعر ويبدأ المطر بالهطول.
في اجتماعاتنا بتنا نناقش خطوات وآليات العمل المباشر، نلتقي بأشخاص في المكتبات العامة ونوزع الأزياء على الغرباء قبل أداء دور محامين في أحد مراكز التسوق، كما نقرأ كلمات المحامي الأيرلندي بلين ني غرالاي من محكمة العدل الدولية بينما يسقط علم فلسطيني ضخم على وجه متجر زارا.
كانت محاولتي الأولى للإمساك بمكبر الصوت في اعتصام احتجاجي شارك فيه 200 شخص في محطة القطار في برايتون في نوفمبر الماضي، فاكتشفت أنه من السهل التحدث بشكل مدهش لأن الناس كانوا متعطشين جدًا للاستماع.
رأيت قبالتي شابة ترتدي الكوفية وتبكي، فجاء إليّ أحدهم وقال إن المرأة فلسطينية وأنا أريد التحدث معها، لقد كانت جهاد في طريقها إلى منزلها في كرولي عندما مرت عبر حاجز التذاكر لترى هذا التضامن في محطة القطار، كانت تشعر بالحزن على فقدان ابن عمها وأفراد آخرين من أسرتها، قالت :”لماذا يتعين علينا أن نقف في محطات القطار لإقناع الناس بضرورة السماح للفلسطينيين بالعيش؟”، قالت ذلك وهي تحدق في وجهي بدموعها، وهنا شعرت بالذنب لأن النقطة الرئيسية في خطابي كانت تبرير حق الفلسطينيين في عدم الذبح من خلال مقارنتهم بنفسي، وبالأشخاص الموجودين في المحطة، كان علي أن أبرر شيئًا أكثر تعقيدًا بكثير.
ثم تحدثت جهاد بنفسها وأخبرتنا بكل ما كان يحدث، كم عدد أبناء عمومتها الذين فقدتهم ولم تسمع منهم، ثم شكرت الجمهور على جهودهم، فحتى في قمة حزنها، فقد وجدت في قوة الخطابة طريقها إلى المنزل من العمل.
المعتذر اللطيف
في برايتون، تم إنشاء “تحالف وقف إطلاق النار”، وفي أحد المرات جاءتنا أخبار بأن النائب العمالي عن منطقة هوف وأمين صندوق أصدقاء إسرائيل في حزب العمال الذي رفض مقابلة السكان المحليين لمناقشة القضية الفلسطينية، بيتر كايل، كان يوقع رسائل في إحدى الفعاليات التي نظمتها منظمة العفو الدولية.
تناوبنا على الانتظار للتحدث معه فكانت مقابلته من نصيبي، كان رجلًا لطيفًا يتواصل بصريًا معي بشكل مباشر، وكان ساحرًا وسعيدًا جدًا بالحديث، ولكن هذا كان أمرًا محبطًا بالنسبة لي، فقد كنت أتوقع من الرجل الذي لا يريد أن يدعو إلى وقف إطلاق النار أن يكون أشرس من ذلك!
كلما ذكرت له عدد الأطفال الذين قتلوا في غزة كان يجيبني: “أعلم” أو “أعرف”!
من المعلوم أن إسرائيل تعيش حالة دائمة من الإرهاب الوجودي، فقد تم إنشاؤها من خلال الخوف وهناك حاجة دائمة إلى الخوف بوصفه الطريق للعمل على الازدهار، فقصة إسرائيل ولادتها مبنية على الأسطورة، وبقاؤها مبني على السرد وسفك الدماء، ونحن في جميع أنحاء العالم نحارب السردية في الوقت الذي تُراث فيه الدماء.
ما دام الذبح يتعلق بالآلاف من الأطفال ذوي البشرة السمراء في مكان آخر من العالم، فهذا هذا هو الاستعمار
أنا ترعرعت في الفترة التي سافر فيها التقدميون إلى إسرائيل لبناء الكيبوتسات ولم يكن أحد منهم يعرف ما هو الزعتر، واليوم تظهر فتاة ذات رموش صناعية في سيارتها على تيك توك تجادل في وجود حق لها في فلسطين.
أما نحن، فحتى أطفالنا يتحدثون بتعبيرات تفوق أعمارهم، فقد أصبح الجميع فلاسفة والحجج قوية ومنطقية، سيقضي البعض منا، نحن الأكبر سنًا، ليالي السبت في الاستماع إلى إيلان بابي وغادة كرمي، لكن أصدقاء ابنتي يحصلون على معلوماتهم من تيك توك.
اليأس هو ما تحذر منه كل نظرية أخلاقية ودين وقانون ومجتمع، فهو أسوأ ما يمكن أن يحصل للانسانية، نحن نعيش اليوم لحظة “لن تتكرر أبدًا” في التاريخ والناس يبتعدون عنها ويسمحون بحدوث ذلك!
عندما أنظر إلى أكياس جثث تحمل آلاف الأطفال، وكما أحاول العثور على الإنسانية في الأرقام واللقطات الطويلة من الركام، أرى
أنه من المهين مقابلة تضحياتهم باعتبارها تعقيداً بل هي عدم التكافؤ.
حياد زائف
القبح الحقيقي هو العنصرية، ولكن بغلاف الليبرالية وذلك من خلال المؤسسات الفنية والأحزاب السياسية والأفلام والذين يتمنون في أعماقهم أن يستمر الوضع الراهن، والحقيقة الكامنة هي أنه ما دام الذبح يتعلق بالآلاف من الأطفال ذوي البشرة السمراء في مكان آخر من العالم، فهذا هو الاستعمار.
تدعي المؤسسات الفنية التي تتباهى بمناهضة العنصرية والوعي المناخي أنها تبقى محايدة، ولكن هل يوجد حياد أو في الإبادة الجماعية؟ لقد أصبح الحياد هو القناع المقبول للعنصرية الليبرالية.
عن قصيدة “نحن نعلم الحياة يا سيدي” لرفيف زيادة والتي تمت قراءتها في عدد من الاحتجاجات في الآونة الأخيرة ، كتبت رداً على أحد الصحفيين الذي قال إن الأمور “كانت لتكون أفضل لو لم يعلم الفلسطينيون أطفالهم الكراهية”.
الحقيقة أننا نعلم الحياة وندعو إلى وقف إطلاق النار، فهناك مسيرة ضخمة كل يوم سبت ندق فيها الطبول ونهتف، ونتوسل إلى الله أن تتوقف القنابل عن السقوط، نحن نعلم الآخرين أن السماح لك بالعيش على الأرض التي نشأت عليها ليس أمرًا معقدًا، بل هو حق الحياة بعينها!
أما ما هو معقد، فهو اعترافك لنفسك بأنك ترى حياة الفلسطينيين أقل مساواة منك، وأن المؤسسات التي نفعتك والتي تلتزم بها كالدين هي جزء من النظام الذي يبرر نزيف الحياة هذا، وأن الفلسطينيين متواطئون بطريقة أو بأخرى في مصيرهم ونحن نخوض هذا الفصل المظلم الذي لن يُنسى أبدًا.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)