بقلم ندى عثمان
لطالما كانت المنطقة التي تشكل في معظمها مساحة أفغانستان اليوم، مفترق طرق ولدت من رحمه حضارات، حيث كانت المنطقة تربط بين الثقافات المختلفة في آسيا الوسطى وشرق آسيا من جهة والشرق الأوسط وجنوب آسيا من جهة أخرى، وبعد وصول الإسلام إلى المنطقة الاستراتيجية، ازدادت أهميتها في نظر الحكام من عرب وفرس وأتراك ومغول، وذلك لقربها من طرق التجارة والوديان الخصبة.
تمتعت المنطقة أيضاً بموقع استراتيجي من أجل الإغارة على مناطق جنوب آسيا، حيث يذكر التاريخ أن الإمبراطور المغولي بابور بدأ غزو الهند من كابول عاصمة أفغانستان، كما احتفظ أسلافه التيموريون بعاصمتهم في مدينة هرات الغربية، ومنها امتدوا إلى جزء كبير من آسيا الوسطى وإيران والعراق والأناضول.
يشير مصطلح “أفغاني” بالأصل إلى عرقية البشتون، لكن الدولة الحديثة في أفغانستان تشمل المناطق التي كانت تتحدث باللهجات الفارسية والتركية ومنها الأوزبكية قديماً أيضاً، كما أصبحت المنطقة أيضاً موطناً لمجتمعات عربية صغيرة، حين وصل عرب كجنود وإداريين وتجار ودعاة خلال القرون التي أعقبت ولادة الإسلام، ثم اندمجوا في العرقيات الموجودة في المنطقة، وبهذا فإن الوجود العربي يؤكد على مكانة أفغانستان في العالم الإسلامي في فترة العصور الوسطى.
فمن هي أبرز الشخصيات المؤثرة في تاريخ وفكر منطقة الشرق الأوسط وترجع أصولها إلى أفغانستان؟
-
الرومي:
هو جلال الدين محمد بلخي، أحد أعظم شعراء اللغة الفارسية، ولد في سبتمبر عام 1207 في مقاطعة بلخ الأفغانية، كان والده عالم دين وفقيهاً إسلامياً ينتمي للمتصوفة، ولذلك اشتهر جلال الدين بشعره الذي يتحدث عن الذات الإلهية وطبيعة العلاقة مع الله.
غادر الرومي بلخ مع عائلته مهو لا يزال صغيراً، وذلك هرباً من مخازن المغول التي غزت آسيا الوسطى، ثم انتهى به المطاف متنقلاً بين العراق وسوريا وتركيا، وعندما استقر وبدأ يتقدم في العمر، التفت إلى دراسة المذهب الحنفي في الفقه السني، واستقر في منطقة رم بولاية قونيا التركية، وأصبح معلماً وله تلامذة وأتباع.
استخدم إرث الرومي بشكل كبير باللغة العربية و الروايات المنسوبة إلى النبي محمد عليه الصلاة والسلام، بالإضافة إلى مواضيع أخرى مثل التاريخ والفلسفة وعلم الفلك، ولذلك أصبح يُعرف بالشرق الأوسط وفي تركيا تحديداً باسم “مولانا”، وكان الرومي يهدف من خلال شعره إلى تقديم إرشاد روحي.
كان لأعمال جلال الدين الرومي تأثير كبير في تطور الأدب التركي والفارسي والجنوب آسيوي، حتى أن أبياته لا تزال تُقرأ بالفارسية والتركية والعربية، وتمت ترجمتها لعدة لغات، حتى وصلت إلى مكتبات الغرب، فمغنية مثل مادونا مثلاً تقرأ كلام الرومي، كما تنتشر اقتباسات لكلامه عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى يومنا هذا.
ويتهم بعض المسلمين وعلماء الأدب الفارسي الفنانين والمترجمين الغربيين بإزالة الإشارات الإسلامية من أعمال الرومي وتحويل الولاء والانتماء لله في شعره إلى شعر رومانسي!
توفي الرومي في قونية في ديسمبر 1273 عن عمر يناهز 66 عاماً، ولا يزال ضريحه محط جذب أنظار السياح والمتصوفين على حد سواء.
-
الإمام أبو حنيفة:
ولد أبو حنيفة النعمان بن ثابت في العراق عام 689 ميلادي، وكان والده فارسياً من مدينة كابول، وكما هو معروف فقد أصبح أبو حنيفة من أشهر الفقهاء تأثيراً في التاريخ عبر المذهب الحنفي السني، الذي يعد الأكثر انتشاراً بين المذاهب الأربعة حتى الآن.
في بداية شبابه، كان يتجه لأن يسير على خطى والده في التجارة، لكن ولعه بالمناقشات عن الله ووحدانيته تطور إلى دراسة شاملة للعقيدة الإسلامية، حتى وصل إلى وضع قواعد مذهبه من خلال إعطاء الأولوية للقراءة المباشرة للقرآن، تليها الأحاديث المنسوبة للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، ثم سلوك الصحابة، يليها القياس وإجماع المتعلمين والعرف.
يذكر أن أبا حنيفة عاش في زمن لم يكن قد بقي فيه ممن عاصر النبي محمد عليه الصلاة والسلام
أو أنهم ولدوا في سن صغيرة جداً ولا يستطيعون تذكره، في زمن كانت فيه الامبراطورية الإسلامية الوليدة بحاجة إلى بنية قانونية متماسكة، مما أتاح الفرصة لأبي حنيفة وتلامذته تطبيق المبادئ الإسلامية على المشاكل القانونية التي ظهرت في المجتمع آنذاك، فإرثه لم يقتصر على سرد أحكام محددة لمواقف محددة، وإنما على وضع منهجية للوصول إلى تلك الأحكام.
توفي الإمام أبو حنيفة في السجن عن عمر يناهز السبعين عاماً، وذلك بعد سجنه على يد الخليفة العباسي المنصور الذي غضب من الإمام بسبب رفضه قبول منصب رئيس القضاة، خوفاً من أن يؤدي توليه للمنصب إلى المساس باستقلالية رأيه وحكمه، إلا أن ما فعله المنصور لم يؤثر على ترسيخ إرث المدرسة الحنفية منذ ذلك الوقت، فقد حضر الكثيرون إلى جنازته رغم غضب المنصور.
-
عباس شاه الأول
ولد عباس شاه الأول في يناير عام 1571 في ولاية هرات الأفغانية، كان خامس ملوك إيران في الحقبة الصفوية، وحصل على لقب “عباس الأكبر” كواحد من أهم ملوك الصفويين، فقد تولى منصبه خلال فترة اضطراب في الامبراطورية الصفوية، شملت مظاهر سخط داخل الجيش وتدهوراً اقتصادياً، بالإضافة إلى صراع تنافسي مع الإمبراطورية العثمانية المجاورة.
رغم التوتر في البلاد، إلا أن عباس شاه، المخطط الاستراتيجي الفريد، كان قادراً على جعل السلطة مركزية من خلال تأسيس طبقة من الجنود المخلصين على غرار الإنكشارية العثمانية، وإحداث حالة من الانتعاش الاقتصادي بعد نقل العاصمة إلى أصفهان في منتصف القرن السادس عشر.
ركز عباس شاه، خلال فترة حكمه، على الاستفادة وتطوير الهندسة المعمارية والتجارة والفنون والأدب، مما مهد الطريق لانتشار فن النمنمات، القائم على رسم صورة مزخرفة في مخطوطة،
كما سمح ببناء الكنائس للأقليات المسيحية كعلامة على التسامح الديني خلال حكمه.
توفي الشاه عام 1629، تاركاً وراءه إرثاً صعب الطريق على من خلفه، ففي عام 1722، قامت قبيلة بشتونية تمردت على الصفويين بمحاصرة أصفهان، الأمر الذي أدى إلى انهيار السلالة الصفوية بعد فترة وجيزة.
-
جمال الدين الأفغاني:
هو سيد جمال الدين أسد آبادي، ولكن يشار إليه باسم الأفغاني، ناشط وسياسي وصحفي ولد عام 1838، وسافر خلال حياته إلى مختلف الدول الإسلامية من أجل البحث عن مفهوم الوحدة الإسلامية الشامل، ولكن محل ميلاده ما زال موضع جدل بين من قال أن ه أفغاني ومن زعم أنه كان إيرانياً تظاهر بأنه أفغاني لتجنب اتهامه بالشيعي بين أوساطه السنية.
بالنسبة للناشط جمال الدين، لم تكن هذه الاختلافات الطائفية مهمة أصلاً، فقد ركز على التحريض السياسي ضد الامبريالية الغربية خلال حياته المهنية التي بدأها من الهند حين كانت تحت الاستعمار البريطاني، فأسس رؤية ترجمت بالسفر إلى بلدان العالم الإسلامي للعمل مع نشطاء في العراق وإيران وتركيا ومصر ضد الانشطة الغربية الاستعمارية.
وبسبب نشأته في الهند، فقد شكلت التجربة الهندية في التمرد على الاستعمار البريطاني، نقطة تحول في تطور رؤية جمال الدين السياسية وتشكل نظرته المعادية للغرب، ولذلك عندما تولى منصباً في حكومة أفغانستان عام 1866، سافر إلى بلدان كثيرة من بينها مصر وفرنسا وتركيا والمملكة المتحدة وروسيا، فقد كان جوهر ايديولوجيته هو وحدة المسلمين كأمة، وكان يرى أنه لا يوجد طريق للتغلب على الاستعمار الغربي في العالم الإسلامي هو النضال المشترك.
من جانب آخر، كان الأفغاني من أبرز من دعا في عصره إلى استخدام الأساليب الحديثة في العلوم والتكنولوجيا، الأمر الذي كان يرى الأفغاني أن المسلمين كان يمكنهم تطويره من استغلال الوجود الأجنبي الاستغلالي في أراضيهم.
أقام الأفغاني في القاهرة في الفترة بين (1870-1879)، وهي سنواته الذهبية التي قام فيها بتدريس الفلسفة الإسلامية وتعريف طلابه على أفكاره حول الإصلاح السياسي، كما انخرط في السياسات القومية المصرية والمعادية للغرب، وشجع أتباعه على تشكيل الصحف السياسية، حتى أصبح أحد أتباعه بعد ذلك، محمد عبده، زعيم الحركة الإسلامية الحداثية، كما أسس تلميذه سعد باشا زغلول حزب الوفد القومي المصري.
توفي الأفغاني بعد صراعه مع مرض السرطان في تركيا عام 1897 حيث دفن، ولكن الحكومة الأفغانية طالبت برفاته لعام 1944، وبنت عليه ضريحاً تخليداً لذكرى الأفغاني الذي يعد أحد أهم مؤسسي الحركة الإسلامية الشاملة.
-
إبراهيم بن أدهم:
ولد إبراهيم بن أدهم، والذي يلقب أحياناً بإبراهيم بلخي، في مدينة بلخ الأفغانية عام 718 لعائلة عربية أرستقراطية، لكنه اشتهر بعد ذلك بتخليه عن الراحة المادية والعيش كرجل زاهد.
ساهم بن أدهم في تطوير طرق الصوفية حتى أشاد به الرومي، ففي قصة أشبه بقصة غوتاما بوذا، اختار بن أدهم حياة الزهد بعد أن تخلى عن مزايا أرستقراطيته، تقول إحدى الروايات أنه صادف يوماً راعي جمال يبحث عن حيوانه على سطح قصره، وعندما عبر أدهم عن شكوكه في أن يتمكن الجمل من الصعود إلى السطح، رد عليه الرجل بأنه كان من المشكوك فيه أيضاً البحث عن الله وسط الثروة المادية!
يقال أن تلك الحادثة شكلت انعطافاً في حياة بن أدهم، فأخذ حياة الحكيم وسافر في بلدان المنطقة حتى توفي في سوريا عام 776 م، لكنه ظل حياً في الأساطير والروايات الصوفية، حيث تنسب إليه المعجزات ولقاء الملائكة!
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)