بقلم بيتر أوبورن
ترجمة وتحرير مريم الحمد
حياة الصحفي في بريطانيا تعتبر بسيطة سهلة نسبياً إذا ما قورنت بحياة صحفي فلسطيني في مدينة نابلس مثلاً شمال الضفة الغربية، ففي بريطانيا يغطي الصحفي الجنازات ولكن الصحفي الفلسطيني يغطي جنازات من نوع آخر!
ظروف الاحتلال الوحشية تفرض على المصور الفلسطيني في الضفة أنه مصور حرب بالدرجة الأولى، فكل مهمة تصوير قد تكون مهمته الأخيرة!
يعمل المصور ناصر اشتيه على تغطية الاشتباكات في نابلس، والتي تعد أمراً ثابتاً متكرراً في المدينة العريقة التي يبلغ عدد سكانها 120 ألف نسمة، فمنذ أن بدأ اشتيه عمله قبل 30 سنة، أُصيب 11 مرة في الميدان، كان آخرها قبل عام ونصف تقريباً، حيث كان يلتقط صوراً في قرية قرب نابلس عندما أطلق عليه جندي النار من مسافة 6 أمتار.
لم يكن ناصر يرتدي خوذة، فأصابت الرصاصة المطاطية جمجمته وتركت في رأسه ندبة برتقالية باهتة حتى اليوم، في لحظات نظر اشتيه إلى الوراء ملتفتاً إلى أطفال فأصابته الرصاصة، ولكن اشتيه لم يشتكي لأنه يعلم أنه لا فائدة من ذلك، ولن يحصل شيء، فكما يقول “اللوم يقع دوماً على الصحفي”.
في يونيو 2023، أدانت كل من منظمة مراسلون بلا حدود والاتحاد الدولي للصحفيين ما وصفته المنظمتان بالهجمات “المنهجية” على الصحفيين الفلسطينيين و “ثقافة الإفلات من العقاب” داخل قوات الأمن الإسرائيلية.
ويقول اشتية “إذا أرادوا مهاجمة الصحفيين، فإنهم أحيانًا يطلقون النار على الجدران أو على الحفر، لذلك نصاب بالارتداد”، وإلى جانب الجروح، فقد سُجن اشتية مرات كثيرة، كما تم تحطيم كاميرته والتعرض لهجوم المستوطنين عدة مرات، في مرة، عندما أمر أرئيل شارون بإزالة المستوطنات قرب نابلس عام 2004، ألقى المستوطنون اشتيه في بئر وتركوه قبل أن يخرجه جنود الاحتلال!
صور أيقونية للاحتلال
التقيت اشتية بعد تغطيته لأحداث قرية ترمسعيا قرب رام الله مؤخراً، فأخبرني بأنه على الرغم من حمله لتصريح صحفي هو وعدد آخر من الصحفيين والمصورين، إلا أن المستوطنين لم يتورعوا عن مهاجمتهم، مما اضطره للانسحاب لكن ليس قبل أن يلتقط عداً من الصور.
“أكره الدم والحرب على الرغم من أنني أقضي كل وقتي في الدماء والحرب، لكنني اخترت هذه المهنة لنقل الحقيقة المؤلمة للاحتلال إلى جميع الشعوب والدول الأخرى وحتى لشعب إسرائيل أنفسهم” – ناصر اشتيه- مصور صحفي
يعد اشتية أحد أكثر مصوري الحرب احتراماً في العالم، فقد تم نشر العديد من صوره في الصفحات الأولى في صحف عالمية، مثل صورته الشهيرة لفتاة صغيرة تزحف تحت فوهة دبابة في طريقها إلى المدرسة في نابلس عام 2003.
تشمل حياة اشتية المهنية حوالي 25 عاماً من العمل مع وكالة أسوشيتد برس، قام فيها بتأريخ 3 عقود من عمر الاحتلال، والآن يعمل اشتية ذو 51 عاماً بالقطعة، وبعد سنوات عمله الطويلة في الميدان يقول أنه عندما ينام تعذبه الكوابيس، يقول “أحلم طوال الوقت بأن جندياً سوف يطلق علي الرصاص”!
الحياة والموت
في لقائنا في المطعم، أحضر اشتية معه ابنه ذو 17 عاماً، فسألته عن رأيه بعمل والده، فأجاب “إنه مقلق للغاية لكنه ما يجب عليه فعله”، تفاجات أيضاً بأن اشتية قد فقد ابنته دنيا عندما كانت تبلغ من العمر 3 أشهر خلال هجوم القوات الإسرائيلية على نابلس في عملية تسمى “الجدار الواقي” في ذروة الانتفاضة الثانية، حيث كانت في سيارة الإسعاف حين أصيبت بغاز مسيل للدموع، يقول اشتية “لقد قُتلت بالغاز”، فرغم قرب المستشفى إلا أن جنود الاحتلال أعلنوا المنطقة مغلقة ولم يسمحوا للمركبة بالدخول!
وعن مقتل شيرين أبوعاقلة في مايو 2022، أخبرني اشتية أنه كان من أواخر الأشخاص الذين تحدثوا معها قبل وفاتها، فقد اتصل بها وهو في الطريق إلى مخيم جنين للتغطية تماماً مثل شيرين، ولمدة 4 سنوات، غطوا الانتفاضة الثانية سوياً، وأقاموا في نفس الفندق وقتها، يقول اشتية “لقد عملت شيرين في كل مناطق فلسطين، لقد أحبها الجميع”.
ما إن خرجت من الحفل حتى كانت مكبرات الصوت في المساجد المحلية تعلن “شهيد في بلاطة”، كما الحال دوماً، كان اشتية هناك لتغطية حدث جديد من الأحداث التي لا تنتهي في الضفة!
يقول اشتية أن هناك 3 أحداث أثرت في حياته بشكل كبير، أولها وفاة ابنته، ثم الهجوم الإسرائيلي على مؤتمر في نابلس قبل أكثر من 20 سنة، حيث كان في طريقه لتغطية الحدث عندما التقى بصديق لشرب قهوة قبل الوصول للفندق فنجا من الموت، يقول “لقد أنقذني فنجان القهوة من الموت”!
أما الحدث الثالث، فهو اغتيال أبو علي مصطفى، القائد الفلسطيني الذي اغتيل عام 2001، فقد كان أول قيادي يقابله اشتية في حياته الصحفية.
سألته عن نصيحته التي يقدمها للمصورين الراغبين في المشي على خطاه، فقال ” أقول لهم ألا ينتقلوا إلى المناطق الساخنة إلا عندما يعلمون ما يحدث بها، وأن يرتدوا الخوذة والسترة، وأن يضعوا ملصق الضغط على سيارتهم”.
ويضيف اشتية “أكره الدم والحرب على الرغم من أنني أقضي كل وقتي في الدماء والحرب، لكنني اخترت هذه المهنة لنقل الحقيقة المؤلمة للاحتلال إلى جميع الشعوب والدول الأخرى وحتى لشعب إسرائيل أنفسهم”.
بعد لقائنا بيوم، حضرنا معاً حفل تخرج الصحفيين في مركز تنوير في نابلس، وخلال الحفل، تم استدعاء اشتية لتغطية اقتحام في مخيم بلاطة قرب نابلس، وما إن خرجت من الحفل حتى كانت مكبرات الصوت في المساجد المحلية تعلن “شهيد في بلاطة”، كما الحال دوماً، كان اشتية هناك لتغطية حدث جديد من الأحداث التي لا تنتهي في الضفة!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)