ألمانيا تدعم اليمين المتطرف في دولة الاحتلال: تحالفات فاشية خلف قناع الديمقراطية

بقلم إساد شيربيجوفيتش

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

تفخر ألمانيا بكونها ديمقراطية ليبرالية مُجرّدة من النازية، لكن دعمها غير المشروط لدولة الاحتلال ليس مجرد موقف سياسي، بل هو مبدأ وطني جوهري (Staatsrason) يرى أن دعم الدولة العبرية أساسي لشرعية الدولة الألمانية بعد الهولوكوست.

هذا الموقف متناقض بطبيعته، إذ لا يمكن الجمع بين الديمقراطية الليبرالية بحكم تعريفها، ودعم الإبادة الجماعية التي ترتكبها دولة فصل عنصري فاشية، ناهيك عن دولة متحالفة علنًا مع أنظمة يمينية متطرفة، لذلك فإن الأمر يتطلب مراجعة جادة.

وقد اتضحت الحقيقة جليةً عندما انسحب المفوض الألماني للشؤون اليهودية، فيليكس كلاين، من مؤتمر كان من المقرر عقده في القدس حول مكافحة معاداة السامية، بعد اكتشافه وجود شخصيات فاشية بين الضيوف، حيث أوضح مكتبه أن “السيد كلاين قبل الدعوة قبل أشهر دون أن يعلم بهوية من سيحضر”.

ويُعدّ انسحاب كلاين بمثابة اعتراف ضمني من الدولة الألمانية بأن دولة الاحتلال تُحافظ على تحالفاتها مع دعاة تفوق العرق الأبيض والفاشيين والنازيين ومنكري الهولوكوست.

يكشف هذا عن مستوى التناقض الجوهري في موقف ألمانيا، فالسياسات اليمينية المتطرفة لا تُقبل فحسب، بل تُدعم بشكل مباشر، طالما أنها تحافظ على واجهة ألمانيا الليبرالية والديمقراطية المنزوعة من النازية.

أسس قديمة

بعد الحرب العالمية الثانية، سارعت الولايات المتحدة إلى إعادة دمج النازيين السابقين في حكومة ألمانيا الغربية لمواجهة الاتحاد السوفيتي، على الرغم من أن الاتحاد السوفيتي لعب دورًا حاسمًا في هزيمة هتلر. 

وقد دفع الخوف من الشيوعية الغرب إلى إعادة تأهيل النازيين السابقين، الذين أعادوا صياغة هويتهم بسلاسة داخل دولة ألمانيا الغربية الجديدة.

وقد جسّد مستشار ألمانيا الغربية كورت جورج كيسينجر (1966-1969) هذه الاستمرارية بعد أن كشفت الصحفية بيات كلارسفيلد أنه كان يتمتع بعلاقات وثيقة بكبار الشخصيات النازية مثل يواخيم فون ريبنتروب وجوزيف غوبلز، حيث انخرط بنشاط في الدعاية النازية وتعاون بشكل وثيق مع قوات الأمن الخاصة (SS).

بحلول عام 1957، كان ما نسبته 77% من كبار المسؤولين في وزارة العدل في ألمانيا الغربية أعضاء سابقين في الحزب النازي، وهي نسبة مذهلة، لكن كيسنجر لم يكن استثناءً، فالعديد من مؤسسات ألمانيا الغربية بعد الحرب بُنيت على أسس نازية

فقد كان راينهارد غيلين، الرئيس السابق للاستخبارات المعادية للسوفييت في عهد هتلر، يقود جهاز الاستخبارات الألماني (BND)، وبدعم من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، أدار غيلين منظمة غيلين، وهي شبكة تجسس مناهضة للشيوعية تضم نازيين سابقين، والتي تحولت رسميًا إلى جهاز الاستخبارات الألماني (BND) عام 1956.

وبعد سقوط النظام النازي، لم ينخفض عدد أعضاء الحزب السابقين في وزارة العدل في ألمانيا الغربية، بل على العكس من ذلك، ازداد حضورهم طوال خمسينيات القرن الماضي، وبلغ ذروته في عام 1957، عندما كان 77% من كبار المسؤولين أعضاءً سابقين في الحزب النازي.

ونظرًا لهذه الاستمرارية المؤسسية العميقة، فليس من المستغرب أن تتحالف ألمانيا الغربية بفاعلية مع الأنظمة العنصرية البيضاء والفاشية والمرتبطة بالنازية.

وإلى جانب مجرد التواطؤ، لعبت ألمانيا دورًا مباشرًا في دعم الأنظمة الفاشية في جميع أنحاء العالم، وهو تورط لا يزال مستمرًا حتى يومنا هذا.

فقد دعمت ألمانيا الغربية جنوب إفريقيا في عهد الفصل العنصري، وناصرت الديكتاتوريات العسكرية في الأرجنتين وتشيلي، ودعمت حروب البرتغال الاستعمارية الوحشية في إفريقيا، وحافظت على علاقات وثيقة مع نظام فرانسيسكو فرانكو الفاشي في إسبانيا، حيث قدمت له دعمًا كبيرًا.

وعلاوة على ذلك، قاتل مرتزقة ألمانيا الغربية إلى جانب جيش روديسيا العنصري الأبيض، مما عزز دور البلاد في دعم الفاشية العالمية.

التحالفات الاستراتيجية

واصلت ألمانيا الموحدة هذا الإرث، حيث دعمت أنجيلا ميركل علنًا نظام ألكسندر فوتشيتش الاستبدادي الفاشي في صربيا على الرغم من علمها التام بسجله الطويل في إنكار الإبادة الجماعية وتمجيد فظائع التسعينيات وأيديولوجياتها الشبيهة بالفصل العنصري، والتي كان متورطًا فيها بشكل مباشر.

وخلال مذبحة سربرينيتشا في 20 يوليو/تموز 1995، وقف فوتشيتش الذي كان آنذاك عضوًا في البرلمان في الجمعية الوطنية الصربية وأصدر تهديدًا مروعًا لردع التدخل الدولي قال فيه: “إذا قصفتم، وإذا قتلتم صربيًا واحدًا، فسنقتل مئة مسلم، دعونا نرى إن كان أحد في المجتمع الدولي يجرؤ على مهاجمة المواقع الصربية”.

وهناك شخصية أخرى لم تكتفِ صربيا بتأهيلها بل مجّدتها بنشاط، وهي دراغوليوب درازا ميهايلوفيتش، مجرم حرب مُدان ومتعاون مع النازية ومسؤول عن المذبحة الجماعية التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من البوسنيين خلال الحرب العالمية الثانية.

إضافةً إلى ذلك، تعمل صربيا الآن على إعادة تأهيل ميلان نيديتش، الذي شغل منصب رئيس الوزراء من عام 1941 إلى عام 1944، والذي أشرف على نظام لعب دورًا مباشرًا في الهولوكوست.

ففي عهد نيديتش، أصبحت بلغراد أول مدينة في أوروبا تُعلن خالية من اليهود، وفي ذلك الوقت، تباهت السلطات الصربية بـ “إنجازها” أمام النازيين، سعيًا منها لرفع مكانتها بينهم، وبحلول نهاية الحرب، كان قد تم إبادة ما يقرب من 90% من السكان اليهود في صربيا.

ويكشف دعم ألمانيا الثابت لكل من دولة الاحتلال وصربيا عن تواطؤها الراسخ في التحالفات الاستبدادية والعنصرية العالمية، فقد أُعلن عن هذا التحالف عندما زُعم أن الشرطة الصربية استخدمت سلاحًا صوتيًا زُعم أن دولة الاحتلال زودتها به ضد متظاهرين سلميين مناهضين للفساد في بلغراد، في انتهاك صارخ للقانون الصربي.

ومما يؤكد هذه الشراكة، ارتفاع صادرات الأسلحة الصربية إلى دولة الاحتلال بشكل كبير في عام 2024.

استدعاء الفاشية

ومن أبرز الأمثلة الحديثة على هذه التحالفات دعوة ميلوراد دوديك لحضور مؤتمر في دولة الاحتلال برعاية حكومية لمكافحة معاداة السامية، حيث يشتهر دوديك، رئيس جمهورية صرب البوسنة، بإنكاره المتكرر لإبادة أوبمانا، الإبادة الجماعية للبوشناق بين عامي 1992 و1995.

وفي 14 مارس/آذار، أصدر المدعون العامون في البوسنة أوامر اعتقال بحق ثلاثة من كبار المسؤولين الصرب البوسنيين، بمن فيهم دوديك نفسه، ورغم ذلك، أُدرج اسم دوديك كمتحدث على الموقع الرسمي للمؤتمر في دولة الاحتلال.

ويهدف هذا المؤتمر، المُقرر عقده يومي 26 و27 مارس/آذار، والذي تُنظمه وزارة شؤون الشتات في حكومة الاحتلال، إلى جمع مئات الخبراء والناشطين والمسؤولين الحكوميين ومنظمات المجتمع المدني وممثلي الجالية اليهودية والباحثين والطلاب من داخل الدولة العبرية وخارجها لمناقشة معاداة السامية المعاصرة.

وانتقد إيلي تاوبر، المؤرخ وعضو الجالية اليهودية في البوسنة والهرسك، دعوة دوديك قائلاً: “ماذا يفعل هناك؟ كان ينبغي على من دعوه أن يعرفوا من هو وماذا يُمثل، وسواء أغفلوا هذا عن قصد أو سهوًا، فإن المسؤولية تقع عليهم بالكامل”.

وقد جادل تاوبر أيضًا بأن مشاركة دوديك تُسهم في الترويج لروايات معادية للإسلام حول البوسنة، وخلص إلى القول: “لا مكان لدوديك في مؤتمر حول معاداة السامية”.

إلا أن نقد تاوبر يُغفل حقيقة تاريخية أعمق وهي أن دعوة دولة الاحتلال لشخصيات فاشية مثل دوديك ليست خطأً، بل استمرارًا لاستراتيجية سياسية متجذرة في أسس الصهيونية ذاتها.

تسليح معاداة السامية

وكان ثيودور هرتزل، مؤسس الصهيونية السياسية، قد كتب في مذكراته الشهيرة: “سيصبح معادو السامية أصدقاءنا الموثوق بهم، والدول المعادية للسامية حليفتنا”، ولم تكن هذه لحظة سخرية أو يأس، بل كانت تعبيرًا واضحًا عن المنطق الاستراتيجي للصهيونية.

لقد أدرك هرتزل أنه يمكن استغلال ذات القوى التي تسعى لطرد اليهود من أوروبا لدعم المشروع الصهيوني للاستعمار اليهودي في فلسطين.

وبتحالفها مع معادي السامية الذين أرادوا إخراج اليهود من أوروبا، قدّمت الصهيونية نفسها كـ “حل” لما يُسمى “المسألة اليهودية”، ليس بالمطالبة بالمساواة داخل أوروبا، بل بتسهيل إبعاد اليهود وإعادة توطينهم في أماكن أخرى.

ويُجسّد آرثر بلفور، رجل الدولة البريطاني صاحب وعد بلفور سيئ السمعة عام 1917، هذه الديناميكية، فبلفور المعروف بمعاداته للسامية، كان قد رعى في وقت سابق قانون الأجانب عام 1905، وهو أول تشريع بريطاني يهدف إلى تقييد الهجرة اليهودية بالعلن، وخاصة يهود أوروبا الشرقية الفارين من المذابح في الإمبراطورية الروسية.

وبسبب نظرته إلى هؤلاء اليهود كعامل مزعزع للاستقرار، سعى بلفور إلى إقصائهم من بريطانيا، لكن هذه العقلية الإقصائية تحديداً هي التي جعلته حليفاً طبيعياً للحركة الصهيونية.

فبدعمه وطنًا يهوديًا في فلسطين، استطاع بلفور تخليص بريطانيا من اللاجئين غير المرغوب فيهم، مع التظاهر بأنه يدافع عن حق اليهود في تقرير المصير.

لقد احتفت الحركة الصهيونية ببلفور وبالإمبراطورية البريطانية بسبب معاداته للسامية، نعم فلم يكن وعد بلفور عملاً إنسانيًا قط، بل كان مشروعًا استعماريًا متجذرًا في المصالح الإمبريالية والمنطق المعادي للسامية

أصدقاء اليمين المتطرف

لم ينتهِ هذا النمط التاريخي مع هرتزل أو بلفور، فحتى يومنا هذا، دأبت الحركة الصهيونية ودولة الاحتلال على التحالف مع قوى اليمين المتطرف والمعادية للسامية لتحقيق أهدافهما الجيوسياسية.

ومن بين “أصدقاء” الاحتلال من اليمين المتطرف الرئيس الفلبيني السابق رودريغو دوتيرتي، المعروف بتصريحاته العنصرية والمعادية للمثليين والمعادية للسامية ومن بينها مقارناته المؤيدة بهتلر وسخريته من ضحايا المحرقة.

ورغم ذلك، زار دوتيرتي دولة الاحتلال، وشارك في نصب تذكاري في ياد فاشيم مع نتنياهو، ووقع صفقات نفط وأسلحة جديدة، وفي 14 مارس/آذار، مثل لأول مرة أمام المحكمة الجنائية الدولية لمواجهة اتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية بسبب حربه الدامية على المخدرات.

وفي جميع أنحاء العالم، تُقدّس الحركات اليمينية دولة الاحتلال كنموذج للهيمنة الأوروبية على السكان الأصليين، إنهم ينظرون إلى سياساتها الديموغرافية من الترحيل والسجن إلى جدران الفصل العنصري على أنها نموذجٌ لأجنداتهم القومية.

ففي أوروبا، تدمج أحزاب اليمين المتطرف، مثل حزب الحرية النمساوي وحزب البديل لألمانيا، الصهيونية في أيديولوجياتها العنصرية في الوقت الذي تُمجّد فيه المتعاونين مع النازيين.

ويستخدم حزب الحرية النمساوي الصهيونية كاستراتيجيةٍ لإخفاء “معاداة السامية في جوهرها”، إلا أن طابعه الحقيقي يظهر مرارًا وتكرارًا من مواكب المشاعل والأغاني النازية، إلى تقليل زعيمه هربرت كيكل من شأن جرائم قوات الأمن الخاصة (SS) ووصف نفسه بأنه “مستشار الشعب” مُقلّدًا هتلر، إلى قيام أعضائه بأداء التحية النازية.

أما حزب البديل لألمانيا فهو أيضاً ليس ببعيد عن ذلك، فقد سخر قادةٌ مثل بيورن هوكه وألكسندر غولاند من ذكرى الهولوكوست، وأشادوا بالجنود الألمان في الحربين العالميتين، ونبذوا الفظائع النازية ووصفوها بأنها “ذرّة غبار” في التاريخ الألماني.

كما ضُبط أعضاء في الحزب وهم يحضرون اجتماعات سرية مع متطرفين للتخطيط لعمليات ترحيل جماعي.

وهناك شخصيات مثل الهولندي المعادي للإسلام خيرت فيلدرز، والديمقراطيون اليمينيون المتطرفون في السويد، يدافعون عن مستوطنات الاحتلال غير القانونية في الضفة الغربية باعتبارها طليعة الحضارة اليهودية المسيحية الغربية، ويصوّرون الإسلام عدوًا مشتركًا، حتى أن فيلدرز دعا علنًا إلى طرد الفلسطينيين.

ليست حالات شاذة

لم يكن تنبؤ هرتزل المخيف بأن معادي السامية سيصبحون “أوثق أصدقاء” للصهيونية تنبأ شاذاً، بل لا يزال هذا التوقع استراتيجية أساسية للصهيونية اليوم. 

فمن بلفور إلى أوربان، ومن دوتيرتي إلى دوديك، لا تزال تحالفات الاحتلال مع اليمين المتطرف تدعم هيمنتها الاستعمارية على الفلسطينيين، وكل ذلك مع ادعاء تمثيلها للسلامة اليهودية العالمية.

في جوهرها، تُخفق انتقاداتٌ مثل انتقاد تاوبر، التي تُشير إلى أن مثل هذه التحالفات انحرافات أو أخطاء، في فهم دولة الاحتلال، وتتجاهل المنطق المتعمد وراء دعوتها لدوديك.

ويتماشى دوديك تمامًا مع الفاشيين المعادين للإسلام، والمتعصبين للعرق الأبيض، ومُحرِّري الهولوكوست الذين تبنتهم دولة الاحتلال علنًا، فحضوره في المؤتمر يُعزز حقيقةً أعمق تشير إلى أن ألمانيا ليست مُجرَّدة من النازية.

إن النونزيين، أحفاد النازية الذين يدّعون دعم الديمقراطية الليبرالية مع الحفاظ على الإرث الأيديولوجي لأسلافهم إنما يُحافظون على وهم دولة مُتحوّلة.

فبدعمها غير المشروط لدولة الاحتلال، لا تتسامح ألمانيا مع تحالفاتها اليمينية المتطرفة فحسب، بل تُساعد على إضفاء الشرعية عليها على الساحة العالمية، وبذلك فإن ألمانيا تحتضن القوى الفاشية ذاتها التي كانت تزعم معارضتها سابقًا، سواء أقرت بذلك أم لا

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة