أمهات بلا وداع: شهادات من غزة حيث يُقتل الأبناء جماعيًا

بقلم أحمد أبو ارتيمة

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

لا يمكن إحصاء المآسي الإنسانية التي خلّفتها الإبادة المتواصلة التي ترتكبها دولة الاحتلال في غزة، إذ يعيش نحو مليوني فلسطيني هناك الألم والفقد، وكل أسرة تحمل قصتها الخاصة من الخراب، في ظل مجازر مروّعة وتدمير شامل للمنازل.

بالنسبة لأي أم، فإن فقدان طفل هو كسرٌ لا يلتئم مدى الحياة، أما في غزة، فقد بلغ هذا الفقد مستوى غير مسبوق، يكاد يتجاوز حدود التخيّل، فالموت لم يأخذ الأرواح فردًا فردًا، بل دفعاتٍ دفعات.

في 24 مايو/أيار، فقدت الدكتورة آلاء النجار، طبيبة الأطفال، تسعة من أبنائها في غارة جوية واحدة نفذتها دولة الاحتلال، كان منزلها قد قُصف بينما كانت في عملها داخل مستشفى ناصر في خان يونس، تحاول إنقاذ الجرحى.

إن الكلمات لا تكفي لوصف ما عانته تلك الأمهات، ومع ذلك، فقد اختارت بعض الأمهات، اللواتي استشهد أبناؤهن على يد دولة الاحتلال، أن يروين حكاياتهن، وفي هذا المقال، أجمع شهادات أربع أمهات، استقيتها من أحاديث مباشرة ومن كلمات قمن بنشرها علنًا على فيسبوك.

وبكل الاحوال، فإن تجاربهن لا تمثل سوى لمحة صغيرة من الكارثة الساحقة التي واجهتها عائلات غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023.

دفنوا أحياء

فقدت الشاعرة آلاء القطراوي أطفالها الأربعة دفعة واحدة، في ظروف بالغة الرعب، ففي 13 ديسمبر/كانون الأول 2023، كانت آلاء في منزل عائلتها وسط غزة، وكان أطفالها يقيمون مع والدهم في خان يونس، وعندما اجتاح جيش الاحتلال المدينة واعتقل الأب، تُرك الأطفال محاصرين مع جدّتهم.

تمكنت أوركيدَا ابنة آلاء من الاتصال بأمها، متوسلةً طلب النجدة، وقالت إنهم لا يستطيعون مغادرة المنزل لأن قناصة جيش الاحتلال يطوقونه، وبعد ذلك بوقت قصير، صادر جنود الاحتلال الهواتف المحمولة في البيت، فانقطع الاتصال بين آلاء وأطفالها لأربعة أشهر كاملة، ولاحقًا، وصل الخبر المفجع: لقد دمرت قوات الاحتلال المنزل الذي كان الأطفال يحتمون فيه.

كتبت آلاء مخاطبة ابنتها أوركيدا: “لا أستطيع أن أتخيل أن جسدكِ الناعم وشعركِ الجميل تحت ركام بيتٍ من ثلاثة طوابق، لا أريد أن أتخيل ذلك، لكني ما زلت أذكر صوتكِ قبل انقطاع الاتصال، وأنتِ تقولين إنكِ ستنتظرينني لأُخرجكِ من هناك، وإنكِ تعتنين بأختكِ الصغيرة، كرمل”.

وفي أبريل/نيسان 2024، وبعد انسحاب جيش الاحتلال من خان يونس، تأكدت الحقيقة، لقد استشهد الأطفال الأربعة: يامن (8 سنوات)، والتوأمان كنان وأوركيدا (6 سنوات)، وكرمل (3 سنوات)، وبقيت جثامين أربعتهم تحت الركام أربعة أشهر، دون أن يتمكن أحد من الوصول إليها.

تستعيد آلاء ذكريات ولادة أطفالها، وتتحدث عن الخيط الجراحي الدقيق الذي خلّفته عمليات الولادة القيصرية، والذي ظلت لسنوات بالكاد تشعر بوجوده، لكن بعد فقدان أبنائها، صار مصدر ألم دائم.

لقد كتبت آلاء عن تلك الذكرى تقول: “كنتُ كثيرًا ما أنساه، بل إنني بالكاد كنت ألاحظ ذلك الخيط التجميلي الرفيع، أما الآن، فأشعر به وأراه كثيرًا، أستطيع حقًا أن أنظر إليه، وقد بدأ يؤثر فيّ”.

وتضيف الأم الثكلى باطفالها الشهداء الأربعة: “يؤلمني قلبي وكبدي وروحي ويؤلمني مع كل نفس، بين الشهيق والزفير، لم يخبرني أحد أن هذا الخيط الرفيع في جسدي سيذكرني كل دقيقة بأنني أنجبت ولدًا وبنتًا وتوأمًا، أطفالًا جميلين، ثم تُركت وحدي”.

ثم تخاطب أبناءها مباشرة: “قبل أن تصبح لكم دفاتر وحقائب مدرسية، وتسريحات شعر خاصة وعطور تحبونها، وأقلام تلوين ومسودات، ودفتر ملاحظات ومفكرة أسرار، وقبل أن تكون لكم أذواقكم في الطعام من أطباق تحبونها ثم ترفضونها، وأخرى ترفضونها ثم تحبونها، أخذت دولة الاحتلال كل ذلك منكم، ومنحتكم أربعة قبور”.

وتابعت في ذات النص: “وقبل أن تكون لكم شهادات وصور تُعلّق على الجدران، وركن مفضل، وكوب خاص لمشروبكم المفضل، وقبل أن تكون لكم روايات وكتب شعر وعلامات كتب، ونظارات طبية وشمسية، قبل أن تكونوا أفكاركم الخاصة ونزعاتكم الروحية، وتجارب الوعي واللاوعي، ورسائل وأحبة وأصدقاء وموسيقى تحتفظون بألحانها حين يرقّ القلب، وسورة من القرآن لها صداها الخاص في لحظات التأمل، أخذت دولة الاحتلال كل ذلك منكم، ومنحتكم أربعة قبور”.

وبعد الإعلان عن وقف لإطلاق النار في أكتوبر/تشرين الأول 2025، تقول آلاء: “لا أصدق أن الحرب توقفت، لكني أصدق أن الاحتلال وحش، وأن الإنسانية فريسته المفضلة”.

تحت الركام

في 15 يناير/كانون الثاني 2024، كانت آية شمّة في منزلها مع أطفالها الثلاثة يامن (7 سنوات)، وناصر (5 سنوات)، والرضيع ريان، الذي لم يتجاوز عمره 51 يومًا، حين قصفت طائرة لقوات الاحتلال المنزل بينما كان الأطفال نائمين.

انهار البيت فوق رؤوسهم، فاستشهد يامن اختناقًا تحت الركام، وقُذف الرضيع ريان من الطابق الثالث إلى منزل مجاور، وأنقذ الجيران آية وابنها ناصر من تحت الأنقاض.

لا تتوقف آية عن البكاء على طفليها اللذين فقدتهما، وقد كتبت تقول: “لو كانت الدموع تعيد الأحبة، لكانت دموعي أعادتكما”.

وتتحدث آية إلى ابنها يامن، مستذكرة لحظة خروجها من تحت الركام وهي تشعر بنبض قلبها، فتقنع نفسها أن قلب طفلها لا بد أنه ما زال ينبض. وتكتب: “هل كنتُ ساذجة إلى هذا الحد، فنسيتُ أن لكل واحد منا قلبًا منفصلًا؟”.

وتصف الأم يامن بأنه “الفيلسوف الصغير”، الذي سألها ذات مرة، وهو في الخامسة من عمره، لماذا تأكل الحيوانات بعضها بعضًا، ولماذا لا تعيش كلها على العشب بسلام؟ حاولت حمايته من قسوة العالم، لكن تلك القسوة كشفت عن نفسها بقتله.

ومضت تقول: “لم يكن لدي وداع طويل، كان الموت أقرب إليه من حضني”، ثم عبّرت عن أمنياتها المستحيلة في منشور آخر قائلة: “ليت الذين يذهبون إلى الجنة يعودون، ليت أحدهم يطل من خلف غيمة، أو يرسل رسالة على هيئة نسمة، ليخبرنا كيف صار وجهه نورًا، وكيف يكون ذلك السلام الذي لا يلحقه خوف”.

ومضت تقول: “ليتك تعود يا يامن، ولو لحظة، ولو في حلم، لتجلس في حجري كما كنت تفعل، وتسألني إن كنت اشتقت إليك، فأجيبك بدموعي، كما أفعل منذ رحيلك.”

طفولة مسروقة

أما آية حسونة فهي أم فلسطينية أخرى حطمت دولة الاحتلال قلبها بقتل طفليها وزوجها، ففي 9 أغسطس/آب 2024، كان زوجها عبد الله يلعب مع طفليهما، حمزة (4 سنوات) ورغد (سنتان)، أمام الخيمة التي نصبوها في خان يونس بعد تهجيرهم قسرًا من مدينة غزة.

أطلقت طائرة حربية تابعة لـ دولة الاحتلال صاروخًا أصاب المكان أمام الخيمة، فاستشهد الثلاثة، إلى جانب آخرين.

وبصفتها الناجية الوحيدة، تقول آية: “كان لدي عائلة جميلة أحببتها كثيرًا، وما زال قلبي معلقًا بهم، كل صباح أستيقظ وأنظر من نافذة خيمتنا، الخيمة التي كانت مليئة بأصواتكم وضحكاتكم، نحو المكان الذي كان فيه استشهادكم”.

وتروي الأم كيف نجا مالك، صديق حمزة المقرب، فقط لأن أمه نادته إلى الداخل قبل لحظات من سقوط الصاروخ.

يأتي مالك كل يوم، يقف بعيدًا محدقًا في الخيمة، ثم يقترب ويسألها: “متى سيعود حمزة؟”، فتحاول أن تشرح له أن حمزة رحل ولن يعود، لكن الطفل لم يفهم معنى الفراق، لقد أجاب: “لماذا؟ قولي له أن يعود لنلعب معًا”، وسأل لماذا لا يستطيع حمزة الاتصال عبر الفيديو أو إرسال الصور.

تكتب آية: “يا الله، هذه الحرب سرقت الطفولة نفسها”، وتشرح سبب رفضها وصف أطفالها بالأموات قائلة: “كانوا يلعبون، ثم فجأة اختفوا، أطفالي أحياء عند ربهم، يلعبون في الجنة”.

وتحكي الأم عن ليلة من ليالي التهجير والوحدة قائلة: “في ساعات الليل المتأخرة، أسمع صوت طفلة تبكي في الخيمة المجاورة، صوتها يشبه صوت ابنتي رغد”.

وتضيف: “في كل مرة تبكي، يبكي قلبي وعيناي معها، أتذكر رغد وهي تبكي في بداية الحرب بسبب ألم في أسنانها، وكنت أسهر الليل كله لأواسيها، والآن أنا أسهر الليل كله شوقًا إليهم جميعًا، وليس لي إلا الصبر والرجاء أملاً بلقاء”.

قبر واحد

وهذه أسماء المغاري فقدت 23 فردًا من عائلتها عندما قصفت طائرات الاحتلال منزلها في مخيم البريج للاجئين في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

في تلك الغارة استشهد طفلا أسماء، آية (6 سنوات) وعبد الله (5 سنوات)، الذي كانت تناديه “عبود”، إضافة إلى والديها وإخوتها وأبناء إخوتها، وبقيت الجثامين تحت الركام 29 يومًا قبل أن تُدفن معًا في قبر واحد.

تروي أسماء القصة قائلة: “لن أنسى أبدًا حين قال لي أحدهم: جمعنا جثامين ثمانية أطفال في قبر واحد”، رفضت أسماء رؤية جثماني طفليها، مفضّلة الاحتفاظ بالصورة التي تحملها لهما في حياتهما.

وكتبت تقول: “سامحاني، لو استطعت، لحميتكما وضممتكما إلى صدري”، وفي منشور آخر، خاطبت أبناءها في أحد الأعياد: “لم أستيقظ على فرحتكما، لم ألبسكما ملابس العيد، لم أعطكما عيديتكما، في الجنة يا ماما”.

وفي تعليقها على صورة لأطفال قتلهم الاحتلال، كتبت: “في كونٍ موازٍ، يستحم طفل، ويرتدي بيجاما نظيفة، ويتناول وجبة صحية، وتُدخله أمه سريرًا دافئًا في غرفة ملوّنة مليئة بالألعاب، تقرأ له قصة ما قبل النوم عن الحب والسلام، فيغفو مطمئنًا، لكن في غزة، لا تُروى تلك القصة، بل تُشاهَد كما في هذه الصورة، أو ربما يكون الاحتمال الآخر أن الطفل لم يعد حيًا أصلًا”.

وعلّقت أسماء، بعد خطاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب في كنيست دولة الاحتلال في 13 أكتوبر/تشرين الأول، قائلة: “أهم شخص في العالم يقف اليوم ليكرّم جنديًا شارك في قتل أطفالي، بينما لم يعترف حتى بوجود 29 ألف طفل سُرقت حياتهم”.

وتابعت: “لم يعرف شيئًا عن عيون آية وعبود التي أُطفئت ظلمًا، هذه هي عدالة العالم، متجسدة في صفر، وتجعل أم الطفل الشهيد تنظر إلى كل ما حولها باشمئزاز وخيبة”.

وبعد الإعلان عما يُفترض أنه وقف لإطلاق النار، تباطأت وتيرة القتل اليومي في غزة، لكن بالنسبة للآباء والأمهات الثكالى، فإن الجراح أبعد من أن تلتئم.

ويعيش أهل غزة اليوم مأساة لا يمكن وصفها، مأساة تبدو بلا نهاية، إنهم يعيشون فوق عشرات الملايين من الأطنان من الركام، بعد أن دمّرت دولة الاحتلال بيوتهم ومدنهم. 

كما أن الحزن سيلازم الغزيين طوال ما تبقى من أعمارهم، فيما يبقى المستقبل غامضًا في ظل غياب أي إرادة دولية جادة لإعادة إعمار غزة أو لمحاسبة دولة الاحتلال على جرائمها.

وإلى أن يحدث ذلك، تبقى شهادات هؤلاء الأمهات، رافضةً اختزال أطفالهن في أرقام، ومعبرةً عن فقدٍ لا يُحتمل، يواصل تعريف الإبادة التي ترتكبها دولة الاحتلال في غزة.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة