بقلم إيناس عبد الرازق
ترجمة وتحرير مريم الحمد
كل العالم كان شاهداً على المصافحة التاريخية بين ياسر عرفات وإسحاق رابين في حديقة البيت الأبيض في واشنطن، برعاية الرئيس الأمريكي آنذاك بيل كلينتون، قبل 30 عاماً بالضبط، في لحظة تعتبر من أهم الأحداث الجيوسياسية المؤثرة في القرن 20.
أنا كنت في الخامسة من عمري حينها، وكنت أقيم في فرنسا مع عائلتي، واتفاق أوسلو بالنسبة لي هو حدث أتذكره من خلال شاشة التلفاز أولاً ثم من كتب التاريخ المدرسية لاحقاً، حيث انتقلت عائلتي بعد أوسلو بفترة وجيزة إلى غزة، حين تمكن والدي من الدخول أخيراً لأول مرة مع بضعة آلاف من الفلسطينيين.
نحن الذين نعرف أنفسنا أو نُعرف باسم “جيل أوسلو”، مشكلون بشكل أساسي من الفلسطينيين الذين تتراوح أعمارهم بين 30-40 عاماً، نحن إما أبناء المفاوضين أو أبناء قادة الانتفاضة الأولى، وحياتنا تشكلت بالكامل من خلال القرارات التي تم اتخاذها سراً بين قيادة منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك والحكومة الإسرائيلية.
خلال عقود ثلاثة، تم تشجيعنا وما زال على المشاركة في ما يسمى بـ جوقات “السلام” والمخيمات الصيفية أو منصات الحوار من أجل الاختلاط بالإسرائيليين، ومع ذلك، لم يشعر الإسرائيليون يوماً بالرضا عن أنفسهم، فهم ذات الإسرائيليين الذين خدموا في الجيش، وخرجوا معقدين يائسين من محاربة نظام الفصل العنصري الذي كانوا بالأصل جزءاً منه!
نحن الجيل الذي شهد بناء جدار الفصل العنصري بطول 700 كيلومتر، والذي أدى إلى عزل الجيران والأصدقاء عن أسرهم و أشجارهم، كما شهدنا أيضاً تجزئة وإغلاق مدننا الفلسطينية وإحاطتها بالحواجز العسكرية، بل شهدنا كذلك النمو الهائل للمستوطنات والطرق المعزولة التي تجعل كل رحلة في السيارة مهمة خطيرة!
المفاوضون الفلسطينيون لم يكونوا على قدر حمل مطالبهم ناهيك عن تلبيتها، فقد تم تصميم السلطة الفلسطينية لتلعب دوراً في مكافحة التمرد وتهدئة الفلسطينيين والسيطرة عليهم، بدلاً من العمل ككيان سيادي يقودنا نحو التحرر والاستقلال
إن ما يسمى “عملية السلام” وما تبعها من اتفاقيات مؤقتة كان من المفترض أن تستمر 5 سنوات فقط، قد منحت إسرائيل فعلياً تفويضاً مطلقاً لتعزيز سيطرتها الاستعمارية وتوسعها مع فرض الفصل العنصري على الفلسطينيين.
قمم عقيمة!
أدت خيبة الأمل بعد أوسلو إلى اندلاع الانتفاضة الثانية والتحدي الهائل الذي نراه اليوم بين جيل الشباب الفلسطينيين، حيث ينبع هذا الاستياء الكبير ممن يحكم الفلسطينيين اليوم بالدرجة الأولى، والذين ظلوا يشاركون في مؤتمرات السلام و جولات المفاوضات العقيمة حتى جلبوا السخط لأنفسهم.
كان محكوماً على أوسلو بالفشل منذ البداية، لأنها عززت فكرة أن المفاوضات الثنائية في إطار أجندة “بناء السلام” كانت مساراً سياسياً يمكن أن يكون حياً، بدلاً من السعي لتحقيق السلام من خلال إنهاء الاستعمار والاحتلال العسكري ودعم حقوق الفلسطينيين وفقاً للقانون الدولي.
الحقيقة أن المفاوضات لم تتم بنية حسن قط، فقد كان اختلال التوازن فيها دائماً لصالح إسرائيل، وهذا ما أكده اعتراف أحد المفاوضين الإسرائيليين في أوسلو، يوسي بيلين، لاحقاً من أن “الخطأ الأكبر الذي ارتكبه الفلسطينيون كان الإيمان بالتزام إسرائيل بتجميد الاستيطان”.
بعد أوسلو، أشار رابين، في خطاب له في الكنيست عام 1995، إلى أن “الحل الدائم يشمل إقامة المستوطنات في يهودا والسامرة”، وبالفعل، استمر بناء المستوطنات طوال فترة المفاوضات وما زال، حتى أن المفاوضين الإسرائيليين رفضوا الرجوع للقانون الدولي إلا باعتباره “أساساً للمفاوضات المستقبلية”، وبالتالي تجنب أي مساءلة أو التزام بشأن إنهاء الاحتلال وإعطاء الفلسطينيين حقوقهم، وهو أمر مستمر حتى يومنا هذا.
إضافة إلى ذلك، فقد تم استبعاد الشعب الفلسطيني من المفاوضات السرية، فالمفاوضون الفلسطينيون لم يكونوا على قدر حمل مطالبهم ناهيك عن تلبيتها، فقد تم تصميم السلطة الفلسطينية لتلعب دوراً في مكافحة التمرد وتهدئة الفلسطينيين والسيطرة عليهم، بدلاً من العمل ككيان سيادي يقودنا نحو التحرر والاستقلال.
الأهم من كل ذلك وأساسه، محاسبة إسرائيل على جرائمها ووقف التجارة والتعاون والتحالفات الودية مع أحد الأنظمة الاستعمارية القليلة المتبقية على وجه الأرض!
هكذا قايضت منظمة التحرير نضال التحرير الفلسطيني بحكم ذاتي محدود داخل الوطن، ويعتمد كلياً على إسرائيل، فالسلطة اليوم تمثل المنفذ العملي الذي يقوم على إخضاعنا، في ظل وجود طبقة حاكمة تعمل على تكثيف القمع ضد الشباب المعارض، والذين فقدوا الثقة في قدرتها على تحريرهم.
مهزلة المفاوضات النهائية
أثبتت أوسلو أيضاً أن أي عملية تتوسط فيها الولايات المتحدة ويدعمها حلفاؤها الغربيون محكوم عليها بمصالح إسرائيل، وهذا ما أشار إليه وزير الخارجية المصري السابق، نبيل فهمي، عام 2019، من أن “‘إدارة بيل كلينتون لا تميز بين المصالح والأولويات الأمريكية والإسرائيلية”، ولا يزال هذا الدور جلياً حتى يومنا هذا، فالولايات المتحدة هي الراعي الرئيسي للجيش الإسرائيلي وتقدم له 3.8 مليار دولار سنوياً.
علاوة على ذلك، فقد استخدمت الولايات المتحدة حق النقض “الفيتو” ضد أكثر من 44 قراراً لمجلس الأمن الدولي تدين فيها أعمال إسرائيل غير القانونية منذ عام 1972، مما ساهم في ترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب لدى إسرائيل، كما تساهم واشنطن بالترويج للتطبيع مع إسرائيل في المنطقة من خلال اتفاقيات أبراهام.
وفي كل مرة حاولت فيها السلطة الفلسطينية الابتعاد عن مهزلة المفاوضات الثنائية مثل اتفاقيات الأمم المتحدة أو المحكمة الجنائية الدولية، سارعت إسرائيل وحلفاؤها إلى شجب ذلك ووصفها بأنها “إجراءات أحادية الجانب تضر بالسلام”، مما يعني إلقاء اللوم على الفلسطينيين باعتبارهم رافضين لعروض السلام!
كثيراً ما يراودني السؤال عن حل الدولتين، هل مات؟ أم هل ندعو إلى حل الدولة الواحدة؟ لقد ثبت أن التركيز على إقامة الدولة والتشدق بحل الدولتين قد أضعف وحدة الفلسطينيين، وساهم في تعزيز أجهزة السلطة الأمنية والبيروقراطية وتبييض جرائم الاحتلال.
ينبغي أن يكون السؤال إذن، كيف يمكننا تحقيق السلام العادل والتحرير لكامل الأراضي الفلسطينية التاريخية؟ والحقيقة أنه من غير المعقول أن نضطر كفلسطينيين للمساومة على حريتنا وحقوقنا الأساسية!
يجب على المجتمع الدولي، في هذه الحالة، تغيير نهجه والاعتراف بالحاجة لتغيير جذري في ديناميكيات السلطة، وأولها الاعتراف بعدم جدوى “عملية السلام” بإطارها الحالي، والتركيز بدلاً من ذلك على عملية سياسية تتمحور حول إعمال حقوق الإنسان، ودعم الجهود الفلسطينية لاستعادة نظامهم وتمثيلهم والإسهام في تقريب الفرقاء الفلسطينيين.
الأهم من كل ذلك وأساسه، محاسبة إسرائيل على جرائمها ووقف التجارة والتعاون والتحالفات الودية مع أحد الأنظمة الاستعمارية القليلة المتبقية على وجه الأرض!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)