أوبنهايمر.. كيف يتم تمجيد القتل الجماعي في السينما التي بجانب بيتك!

بقلم حميد دباشي

ترجمة وتحرير مريم الحمد

أعتقد أنه من المستحيل العيش في أمريكا الشمالية أو في أوروبا الغربية، بل ربما أجزاء أخرى من العالم أيضاً لا تزال تحت تحت تأثير السيادة الثقافية للغرب، دون أن تكون قد مرت بك ما أصبح يُعرف بظاهرة “باربنهايمر”، في إشارة إلى الفيلمين الصيفيين اللذين تم إطلاقهما مؤخراً، فيلم باربي و فيلم أوبنهايمر.

ربما يفاجئك إن أخبرتك أني عندما حاولت حجز تذاكر عبر الانترنت لحضور فيلم أوبنهايمر في دور السينما في مانهاتن وسط مدينة نيويورك، موطن الأغنياء والطبقة المتوسطة، كانت قد بيعت كلها، أما عندما بحثت في سينما “ماجيك جونسون” في هارلم، والتي ترتادها الطبقة العاملة، كان هناك الكثير من التذاكر.

كان العسكريون ورجال الاستخبارات الأمريكيون مدركين لهواه اليساري، ولذلك أبقوه تحت الضغط والرقابة ثم ابتزوه بالانتماء للشيوعية، لجعل ذلك سبباً في عمله بجدية أكبر لإثبات ولائه ونفي التهمة، ولذلك كان مضطراً لصناعة القنبلة!

سأقف قليلاً عند السيرة الذاتية لبطل الفيلم، جي روبرت أوبنهايمر، فهو الرجل الأبيض الثري الذي ساعد الولايات المتحدة في صنع القنبلة الذرية وإلقائها فوق رؤوس الأبرياء في اليابان، سيرة قد تبدو رائعة فقط بالنسبة لطبقة الأغنياء في الولايات المتحدة، وقد استنتجت ذلك حين جلست في قاعة السينما المتواضعة يوم العرض الافتتاحي، لأجد أن من في القاعة كان لا يتجاوز 20% من نسبة إشغالها!

ويعد فيلم كريستوفر نولان، الذي تم تسويقه على نطاق واسع، قطعة أثرية من الدراما التاريخية التي تدور أحداثها في نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما كان الأمريكان يسابقون الزمن من أجل التغلب على النازيين والاتحاد السوفيتي عبر قنبلة ذرية، استخدموها من أجل التأكد من فاعليتها في القتل والتشويه، كنوع من استعراض القوة أمام أعدائهم السوفييت، فأسقطت الولايات المتحدة قنبلتان على مدينتي هيروشيما وناغازاكي في اليابان، فاحترق عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء!

وبعد نجاح “التجربة” في الفيلم وقيل في الحقيقة أيضاً، لم يقتبس أوبنهايمر في كلامه من الإنجيل، بل لسبب غريب اقتبس من  كتاب الهندوس المقدس “البهاغافاد جيتا” ، بقوله “الآن أنا أصبحت الموت، مدمر العوالم”! فما علاقة الهنود وكتابهم بكل القصة؟!

سينما الرجل الثري

لقد حاول مخرج الفيلم، كريستوفر نولان، إضفاء طابع أخلاقي وسياسي مركب لشخصية “أبو القنبلة الذرية”، لكن دون جدوى، فوجود 3 ساعات من المؤثرات الصوتية والبصرية والتمثيل الرائع للممثل سيليان ميرفي في دور البطل وغيره من الممثلين، لم تتمكن من تعويض الفشل في إقناع المشاهد بوجود دروس أو عبر أخلاقية يمكن استخلاصها من قصة أوبنهايمر.

لاشك أن نولان مخرج ماهر وحرص على إظهار براعته السينمائية في هذا الفيلم، الذي يجعلك تخرج من قاعة السينما إلى العالم الواقعي وأنت مقتنع بأنك خارج للتو من حفل عشاء فخم في منزل رجل ثري وقوي في قمة مسيرته المهنية!

يمكن القول أن قصة أوبنهايمر هي قصة الرجل الذي وجه كل تملقه وارتباطه السياسي والأخلاقي باتجاه اليسار الليبرالي، من أجل بناء قنبلة ذرية لإلقائها على دولة مهزومة، فقط حتى تتمكن الولايات المتحدة من الحفاظ على ادعائها بأنها إمبراطورية عالمية شرسة.

قوة الفيلم لا تأتي من الدقة التاريخية أو الرواية المعقدة بقدر ما تأتي من الأثر التاريخي للبراعة الفنية التي استطاع نولان تقديمها، فقد صنع نولان فيلماً “ذرياً” من أجل الاحتفال ببناء سلاح دمار شامل!

وتكمن قوة الفيلم في الحوارات المكتوبة، التي عملت على استحضار التغييرات الشخصية والأخلاقية والسياسية والعلمية، التي شكلت وعينا عن المكان الذي يقف فيه العالم اليوم، فمداعبات أوبنهايمر ومغازلته الأيديولوجية للأفكار التحررية اليسارية إن صح التعبير، جرته سريعاً إلى تألق علمي مصحوب بخطر أخلاقي نتيجة طموحه، فقد سمح باستغلاله في خدمة الحرب العسكرية ببناء القنبلة، حتى تحول إلى جثة ميتة أخلاقياً، تعبث به القوى السياسية بقيادة رئيس هيئة الطاقة الذرية الأمريكية، لويس شتراوس.

لتحقيق ذلك المعنى، نرى أوبنهايمر في الفيلم يتجول في متحف يدرس عن بيكاسو وبفكر في أفكار ماركس وفرويد، ثم يقرأ رواية للكاتب “تس إس إليوت”، ويستمع إلى معزوفة الربيع للموسيقار سترافينسكي، ويدرس اللغة السنسكريتية حتى يتسنى له قراءة “البهاغافاد جيتا” أثناء ممارسة علاقة حميمية مع عشيقه الشيوعي، جان تاتلوك!

في الفيلم، نرى أيضاً أوبنهايمر يهودياً ساقطاً يتقن اللغة الهولندية في أسابيع قليلة، بما يكفيه لإلقاء محاضرة في الفيزياء، رغم أنه ولد وترعرع في نيويورك ولم يتعلم العبرية أبداً!

لقد دفعه احتمال وصول النازيين إلى صناعة قنبلة ذرية، إلى قيادة عملية صناعتها لمرة واحدة للولايات المتحدة، وعلى الجانب الآخر، فقد كان العسكريون ورجال الاستخبارات الأمريكيون مدركين لهواه اليساري، ولذلك أبقوه تحت الضغط والرقابة ثم ابتزوه بالانتماء للشيوعية، لجعل ذلك سبباً في عمله بجدية أكبر لإثبات ولائه ونفي التهمة، ولذلك كان مضطراً لصناعة القنبلة!

أسلوب رجعي

أنا لست من محبي أفلام نولان، فنشأته بين الأفلام الإيرانية والهندية واليابانية والمستقلة الأوروبية، جعلت أفلامه تبدو كفتى ثري يستعرض براعته المالية وسيارته اللامبورغيني التي اشتراها حديثاً، فأسلوبه رجعي للغاية، ويتجلى ذلك في أفلام مثل باتمان و دانكرك.

في فيلم أوبنهايمر، عمل نولان على توجيه موارده الغنية نحو تمجيد الرجل الذي كان السبب في صنع سلاح القتل الجماعي.

تخيل، بعد ما يقرب من 80 سنة على إلقاء تلك القنابل على اليابان، قدمت لنا الولايات المتحدة هذا المشهد الملحمي في تمجيد صانع أكثر أسلحة الدمار الشامل ترويعاً على الإطلاق

فيلم يبدو مناسباً للوقت الذي نعيشه، ففي ظل وجود آلاف من القنابل النووية فعلاً تحت تصرف دول ضخمة مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين، وأخرى أضعف مثل باكستان وأخرى عدوانية مثل إسرائيل الاستعمارية الاستيطانية، لا يمكن للفيلم تقديم الكثير، وإن كان هناك شيء بخلاف تقديم قطعة من الفضول الأثري، فهو الحقيقة التاريخية بأن أوبنهايمر قد قام بالفعل بصناعة واختبار قنبلة ذرية في منطقة لوس ألاموس في الولايات المتحدة قبل إعطائها للأمريكان وإسقاطها على اليابانيين.

يذكر أن أحداث الفيلم مأخوذة من كتاب “بروميثيوس الأمريكي: بين النصر والمأساة في حياة جي روبرت أوبنهايمر” الذي صدر عام 2005، للكاتبين  كاي بيرد ومارتن جي شيروين، لكن قوة الفيلم لا تأتي من الدقة التاريخية أو الرواية المعقدة بقدر ما تأتي من الأثر التاريخي للبراعة الفنية التي استطاع نولان تقديمها، فقد صنع نولان فيلماً “ذرياً” من أجل الاحتفال ببناء سلاح دمار شامل!

نولان بريطاني المولد والنشأة، ولكنه صنع فيلماً أمريكياً بأسوأ ما قد تجلبه الكلمة من معنى، فقد عوض عن الفساد الأخلاقي في فيلمه بإحداث صدمة للجمهور، وجعلهم يرون شيئاً مزعجاً حقاً، تماماً مثل القنابل التي يتحدث عنها الفيلم.

تحفة إمامورا

رغم اعترافي بالسحر الإخراجي والتكنولوجي الموجود في الفيلم، إلا أن لفيلم أوبنهايمر تأثيراً معاكساً لما كان يفكر به نولان المخرج، فخلال مشاهدة الفيلم، لم أكن قادراً على التفكير إلا برقة ورشاقة السينما اليابانية قبل وبعد الحرب، خاصة في أفلام شوهي إمامورا.

ماذا يمكنني أن أقول عن هذا العالم الذي نعيش فيه؟! تخيل، بعد ما يقرب من 80 سنة على إلقاء تلك القنابل على اليابان، قدمت لنا الولايات المتحدة هذا المشهد الملحمي في تمجيد صانع أكثر أسلحة الدمار الشامل ترويعاً على الإطلاق، وللمفارقة، لم يكن ضحايا تلك الفظائع الإجرامية أمثلة ملهمة للتحفيز على صناعة فيلم يروي قصتها!!

بعد عودتي من السينما، جلست أشاهد تحفة إمامورا، فيلم “المطر الأسود” الذي تم إنتاجه عام 1989، والذي بني على رواية تحمل نفس العنوان كُتبت عام 1966، ولذلك أنصحك أن تفعل مثلي، حتى تستعيد إنسانيتك الضعيفة لتظل مرعوباً من عواقب ما فعله أوبنهايمر بالبشر، الضحايا الذين لقوا حتفهم بسبب إسهاماته العلمية في واحدة من أكثر جرائم الحرب شراسة في تاريخ البشرية!

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة