بقلم ماركو كارنيلوس
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
في الرابع عشر من ديسمبر/كانون الأول، أثار المستشار الألماني فريدريش ميرتس ضجة واسعة بتصريحات غير مسبوقة في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية.
حينها، قال مخاطباً حزبه: “يا أصدقاء، إن عقود “السلام الأميركي” قد انتهت إلى حدٍّ بعيد بالنسبة إلينا في أوروبا، وبالنسبة إلينا في ألمانيا أيضاً، و لم يعد موجوداً كما عرفناه، والحنين لن يغيّر ذلك، فالأميركيون اليوم يلاحقون مصالحهم الخاصة بقدرٍ كبير من الصرامة، ولا يمكن أن يكون الرد مختلفاً عن أن وقت ملاحقة مصالحنا نحن قد حان، وأننا لسنا هنا ضعفاء ولا صغاراً.”
إن “السلام الأميركي”، أي النظام الأمني الذي قادته الولايات المتحدة وشكّل أساس الشراكات الأميركية–الأوروبية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بات اليوم موضع تشكيكٍ علني.
لقد تجاوز ميرتس خطاً قلّما فكّر زعيم أوروبي في تجاوزه منذ الحرب الباردة، مدفوعاً بالصدمة التي أحدثتها “استراتيجية الأمن القومي” الأميركية الجديدة، الصادرة مطلع هذا الشهر، فالوثيقة لا تُدرج روسيا حتى بوصفها تهديداً، بل تصفها “عاملاً” في مساعي إدارة دونالد ترامب للتوصل إلى سلام في أوكرانيا، وهو هدف يُقدَّم الآن باعتباره مصلحة استراتيجية لواشنطن، إلى جانب “تثبيت” العلاقات مع موسكو.
وفوق ذلك، تنصّ الاستراتيجية على أن “تصوّر وحقيقة توسّع حلف شمال الأطلسي المستمر يجب أن يتوقفا”، أي بجملة واحدة، جرى إسقاط ما يقارب ثلاثة عقود من السردية الغربية التي أنكرت بكل وقاحة أي رابط بين توسّع الناتو شرقاً والحرب في أوكرانيا، وذلك على لسان القوة القائدة للتحالف نفسها.
ليس مستغرباً إذاً أن تُستقبل الوثيقة في أوروبا بقلقٍ بالغ، غير أن ما يصعب تبريره حقاً هو عنصر “المفاجأة”، فالوثيقة لا تفعل أكثر من تدوين ما ظلّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب يردّده، بفظاظته المعهودة، منذ أكثر من عقد.
وكانت النخب الأوروبية قد تلقت تحذيراً مبكراً في فبراير/شباط الماضي، حين أوفد ترامب نائبه جي دي فانس إلى مؤتمر ميونيخ للأمن، حاملاً رسالة لا لبس فيها عمّا ينتظر القارة.
تلت تصريحات ميرتس مواقف مشابهة من الأمين العام للناتو مارك روته، الذي ألقى خطاباً كارثياً في برلين، وكذلك من رئيس أركان الدفاع الفرنسي الجنرال فابيان ماندون، ورئيس اللجنة العسكرية في الناتو الأميرال جوزيبي كافو دراغوني، وفي مقابلة مع “فايننشال تايمز”، ذهب دراغوني إلى حد الدعوة لهجمات “مستهجنة” استباقية أو وقائية ضد روسيا.
يصعب تفادي الانطباع بأن هذا الجوق من التهويل يرمي إلى تعبئة الرأي العام دعماً لخطة إعادة التسلح الأوروبية التي أُعلن عنها مؤخراً بقيمة 800 مليار يورو (نحو 942 مليار دولار)، بذريعة سدّ الفراغ الذي تتركه إدارة أميركية تتجه بثبات إلى فك الارتباط، ومواجهة “تهديد روسي” جرى تضخيمه على نحوٍ فاضح.
إعادة تسلّح بلا استراتيجية
تغدو هذه السردية أكثر إثارة للقلق إذا ما وُضعت في سياق صعود حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف، ذي الارتباطات الأيديولوجية الواضحة بالنازية، في وقتٍ تُدفع فيه ألمانيا نحو إعادة تسلّح واسع النطاق، ومع ذلك، يبدو هذا التناقض غائباً عن وعي النخب الليبرالية الأوروبية، المنشغلة بما تسميه “خطر الاستبداد الروسي”.
وقد أوضح ميرتس ما يعنيه ذلك عملياً، فإذا أخفقت ألمانيا في توسيع جيشها بسرعة كافية، فقد يصبح التجنيد الإجباري “أمراً لا مفرّ منه”، وتتردد أصداء هذا الخطاب اليوم لدى نخب الحكم في بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وبولندا، وفي عموم دول الشمال الأوروبي والبلطيق.
غير أن الفرضية التي تقوم عليها هذه الدعوات محلّ تشكيكٍ عميق، فالزعم بأن ألمانيا، أو أوروبا عموماً، تواجه تهديداً عسكرياً وشيكاً من روسيا، ليس محل إجماع، فموسكو تبدو عاجزة عن امتلاك الموارد والقدرات اللازمة لغزو دول الناتو، وبعد قرابة أربع سنوات من الحرب لم تنجح حتى في السيطرة على كامل الأراضي الأوكرانية.
في المقابل، تفتقر ألمانيا وعدد من الدول الأوروبية إلى القدرة على إعادة فرض التجنيد على نطاق واسع، أو تحويل قاعدتها الصناعية سريعاً إلى اقتصاد حرب، فالقوات التطوعية تتقلص وتشيخ، وأهداف التجنيد تُفوَّت باستمرار، وأنظمة التدريب ما تزال بطيئة.
وقد جرى تفريغ القاعدة الصناعية الألمانية، فيما يكابد قطاع السيارات ضغوط المنافسة الصينية، والطموح غير المعلن للحفاظ على التفوق الصناعي عبر التحول إلى تصنيع الأسلحة، سهل الإعلان وصعب التحقيق، وتعاني أجزاء واسعة من أوروبا القيود البنيوية ذاتها.
والنتيجة وضعٌ سريالي تُقدَّم فيه العسكرة بديلاً عن الدبلوماسية، وكأن التجنيد يمكن أن يملأ الفراغ السياسي الذي خلّفه التخلي شبه الكامل عن أي انخراط دبلوماسي جاد عبر القارة.
يصف البعض هذه اللحظة بـ”التحوّل التاريخي” باعتبارها لحظة تحمّل أوروبا “مسؤولية” أمنها، لكنها في الواقع لا تتجاوز نقل الأعباء داخل الحلف الأطلسي، وهو ما كان يمكن تحمّله لولا أن القوة الأساسية المحرِّكة للتصعيد ما تزال متمركزة عبر الأطلسي، أما أوروبا، فمطلوبٌ منها اليوم توفير القوى العاملة والانضباط الاجتماعي والامتثال السياسي.
وهكذا، تظل الاستراتيجية تُصاغ وتُدار عن بُعد من واشنطن، فيما تتحمل أوروبا كل المخاطر والتبعات.
قوة أوروبية جوفاء
إذا كان ميرتس ونظراؤه في الاتحاد الأوروبي يعتقدون أن إعادة التسلّح الواسعة تشكّل مخرجاً من المأزق الذي صنعوه، فهم واهمون، فمنذ 2022، قوّض القادة الأوروبيون أمن الطاقة، وفقدوا التنافسية، وأفرغوا القدرات الصناعية، واحتفوا بنزع التصنيع كفضيلة، كل ذلك باسم حربٍ يُستبعد أن يربحوها، سيّما أنها تُخاض وفق استراتيجية لا يملكون زمامها.
في ظروفٍ طبيعية، كان ذلك كفيلاً بإحداث دوارٍ سياسي، لكن المستشار الألماني يصرّ، بجرأة لافتة، على أن بلاده ليست ضعيفة ولا صغيرة.
في أنحاء أوروبا، تُغلق المصانع، وترتفع أسعار الطاقة، وتهاجر سلاسل الإمداد، ومع ذلك، تواصل دوائر صنع القرار في الاتحاد الأوروبي عملها بحالة من التنافر المعرفي، على “وضعية الطيار الآلي” دون رؤية في الأفق في ظل دبلوماسية غائبة، وغياب حديث جاد عن هندسة أمنية جديدة للقارة.
بدلاً من ذلك، يُختزل كل شيء في مصفوفة واحدة اسمها “رهاب روسيا”، شعورٌ يتنكر في هيئة استراتيجية.
ثم هناك مفارقة المفارقات: الاتحاد الأوروبي يزعم الدفاع عن الحرية، بينما يناقش علناً ويقرّ قوانين قسرية تقيد حرية الفكر والتعبير في الداخل.
هل يمكن الادعاء بجدية أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون احترم إرادة الناخبين في الانتخابات الأخيرة؟ أو أن ما جرى في رومانيا خلال عمليتها الانتخابية كان طبيعياً؟ كيف يمكن لمؤسسات الاتحاد أن توسّع فرض العقوبات على أفراد من دون إجراءات قانونية سليمة، لمجرد تبنّيهم آراء مخالفة؟
العسكرة تُفضَّل اليوم على الحسّ السليم والواقعية، حيث يُزرع الخوف بصورة هوسية في الوعي العام، وتُستبدل السرديات غير المقنعة بالتفكير الاستراتيجي.
وبدلاً من مراجعة هذا المسار التدميري، ضاعف ميرتس، إلى جانب رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين وكثير من قيادات الاتحاد، من اندفاعهم.
حاولوا مصادرة الأصول الروسية المجمّدة في المصارف الأوروبية لتمويل الحرب في أوكرانيا، متجاهلين تحذيرات البنك المركزي الأوروبي والتنبيهات الهادئة من وكالات التصنيف حول المخاطر التي تهدد المصداقية المالية لأوروبا.
وبعد حماقة السعي إلى “هزيمة استراتيجية” لروسيا، والأضرار الاقتصادية للعقوبات والتخلي عن الغاز الروسي، كادت أوروبا أن تضيف التخريب المالي الذاتي إلى سجلها.
هل يتعلّم القادة الأوروبيون يوماً درساً؟
لحسن الحظ، فشلت الخطة فشلاً ذريعاً، ففي الأسبوع الماضي، رفض المجلس الأوروبي إقرارها، واعترضت بلجيكا والمجر والتشيك وسلوفاكيا وإيطاليا، وحتى فرنسا، وبدلاً من ذلك، قرر الاتحاد تحميل دافعي الضرائب المثقلين أصلاً قرضاً جديداً بقيمة 90 مليار يورو لأوكرانيا.
وعندما ينظر المؤرخون إلى هذه المرحلة، قد يُفاجأون بالقول إن رئيس وزراء بلجيكا، الأقل شهرة، بارت دي فيفر، الذي سخر منه كثير من الإعلام السائد، أدّى دوراً حاسماً في إنقاذ المصداقية المالية لأوروبا.
لماذا ينبغي لروسيا أن تنظر إلى برنامج إعادة التسلّح الأوروبي البالغ 800 مليار يورو على أنه دفاعي بحت، في حين أن دول الاتحاد تنفق بالفعل أكثر من أربعة أضعاف ما تنفقه روسيا على المشتريات العسكرية؟
مع التطلع إلى عام 2026، لا تكاد توجد دلائل على استعداد قادة أوروبا للتخلي عن مسارهم الخاطئ، ومع ذلك، يلوح خيط رفيع من التغيير: فقد أبدى ماكرون استعداداً متجدداً للحوار مع روسيا، خطوة مشجعة لكنها غير كافية.
أي تحوّل حقيقي يتطلب الالتزام بمبدأين أساسيين، الأول هو “عدم قابلية الأمن للتجزئة”، أي أن أمن الدولة لا يمكن تحقيقه على حساب أمن دول أخرى في الإقليم نفسه.
ولا يمكن لدول شرق أوروبا، بما فيها أوكرانيا، الإصرار بصورة معقولة على أن أمنها يعتمد حصراً على عضوية الناتو، إذا كانت روسيا ترى في ذلك تهديداً وجودياً، يجب أن تراعي الترتيبات الأمنية تصورات جميع الأطراف، لا أن تمنح بعضهم امتيازاً على حساب الآخرين.
المبدأ الثاني هو الاعتراف بـ”معضلة الأمن”، وهو مفهوم محوري في نظرية العلاقات الدولية: عندما تعزّز دولة قدراتها العسكرية، قد يراها الآخرون تهديداً، بصرف النظر عن النوايا.
وفي تطبيقه على أوروبا اليوم، يبرز السؤال بوضوح: لماذا على روسيا أن ترى برنامج إعادة التسلّح الأوروبي الضخم دفاعياً، في الوقت الذي يفوق فيه إنفاق الاتحاد العسكري إنفاقها بأضعاف؟
دون دمج هذين المبدأين في التفكير الاستراتيجي الأوروبي، ولا سيّما في المفاوضات حول أوكرانيا، فإن عام 2026 مهدد بأن يكون عاماً قاتماً جديداً للسلام في القارة.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)







