أوسلو … لماذا يشعر المراهقون الفلسطينيون الذين دُعوا لمشاهدة المصافحة التاريخية بالخيانة

بقلم صفاء الخطيب

ترجمة وتحرير نجاح خاطر 

وسط أجواء من الفرح والنشوة، تبادل اسحق رابين وياسر عرفات النكات والضحك. وبينما كان جالساً يراقب المشهد في الصف الأمامي في حديقة الورود بالبيت الأبيض، بدا لإياس الأشقر، ذلك الصبي الفلسطيني من بلدة باقة الغربية البالغ من العمر 14 عاماً، كأنه يشهد ولادة شرق أوسط جديد.

لقد شكلت تلك المناسبة أملاً للكثيرين الذين اعتقدوا أن جميع المشاكل يمكن أن تلقى الحلول في ظل التفاؤل الذي ازدهر في الأيام الأولى لرئاسة بيل كلينتون.

وعقب انتهاء الإجراءات الشكلية، نزل الموقعون على ما أصبح يعرف باتفاقات أوسلو عن المنصة وبدأوا بمصافحة من كانوا أمامهم.

لقد كان الأشقر يحمل بين يديه كتيباً عن مسقط رأسه حيث كان ينوي أن يسلمه لعرفات، معتقداً أن بلدته ربما تبدو غير مألوفة للزعيم الأسطوري لمنظمة التحرير الفلسطينية، بسبب وقوعها داخل حدود فلسطين المحتلة عام 1948.

لكن بمجرد أن لامست يد الأشقر يد عرفات، تبادر إلى ذهنه سؤال ملح: “كيف لهذا الرجل، الذي يرتدي الزي العسكري والذي قاد حروباً عديدة، أن يحظى بمثل هذه النعومة في يديه؟”.

لم يكن هذا هو التساؤل الوحيد الذي يجول في خاطر الأشقر الذي وُلد عام 1979 لعائلة يعود أصلها إلى يافا قبل أن تقودها رحلة اللجوء إلى باقة الغربية داخل فلسطين المحتلة عام 1948 والتي باتت تعرف بإسرائيل.

لقد انفصل الأشقر وعائلته عن أجدادهم وأقاربهم المنتشرين في مخيمات اللاجئين في كل من الأردن والضفة الغربية وكذلك في الكويت والمملكة العربية السعودية.

كان هذا هو السؤال الأكثر أولوية وبراءة في سلسلة من الأسئلة التي سيطرحها على نفسه على مدى العقود الثلاثة التالية.

وبمرور الوقت، كان لهذه الأسئلة أن تتطور، لتبلغ ذروتها في السؤال الأكثر إلحاحاً اليوم: ما الذي تفعله السلطة الفلسطينية على وجه التحديد بفتات الأرض التي تركتها لها إسرائيل في أعقاب اتفاقات أوسلو؟

ويتبع ذلك سؤال آخر: ماذا كان يفعل صبي في مثل عمره هناك في المقام الأول؟

بذور السلام

في صيف عام 1993، أصدرت الحكومة الإسرائيلية توجيهاً إلى المسؤولين المحليين في بعض البلدات والمدن الفلسطينية لتسمية الشباب المراهقين المتفوقين في التعليم والذين يجيدون اللغتين العبرية والإنجليزية.

وبعد شهرين من المقابلات وورش العمل في وزارة الخارجية في القدس، تم اختيار أربعة فتيان، من بينهم إياس الأشقر، ليتم ضمهم إلى وفد إسرائيلي مع 16 طالبًا من الجالية اليهودية من خلفيات مرموقة في الدوائر العسكرية والسياسية والاجتماعية في إسرائيل.

وأصبح هذا الوفد في نهاية المطاف جزءًا من النسخة الأولى من مبادرة “بذور السلام” التي تضم أيضًا مراهقين من الأراضي الفلسطينية المحتلة ومصر، بعدما تم إطلاقها في صيف عام 1993 بمخيم دولي في ولاية ماين الأمريكية.

وتهدف المبادرة إلى خلق جيل جديد ينحدر من المناطق التي مزقتها الصراعات من أجل استكشاف سبل التعايش السلمي وحل النزاعات.

وقامت منظمة التحرير الفلسطينية، التي كان مقرها آنذاك في تونس، بالتنسيق مع المسؤولين في رام الله لاختيار الوفد الفلسطيني، ليتم اختيار 11 طالبًا، كان منهم اثنان من مدرسة الفرندز المرموقة في رام الله والتي تديرها كويكر، وكان بينهم الطفل فراس هاشم العشاير، 13 عاماً، الذي نشأ في عائلة منخرطة بعمق في المشهد السياسي والديني الفلسطيني.

وقبل خمسة أيام من الموعد المقرر للتوقيع على اتفاقات أوسلو، التقت هيلاري كلينتون، السيدة الأمريكية الأولى، بوفد بذور السلام الذي كان في زيارة للبيت الأبيض تم الترتيب لها مسبقًا ودعتهم لحضور حفل التوقيع.

وبينما كانوا يتموضعون في الصف الأمامي أمام الكاميرات بقمصانهم المميزة ذات اللون الأزرق المخضر، كان من الصعب تفويت رمزية الأجيال التي جسدوها.

لم يكن وجود الأطفال، بالنسبة للعالم المراقب، بمثابة الإشارة إلى نهاية فصل مشحون فحسب، بل إلى بداية مفعمة بالأمل لفصل آخر بدت فيه العداوات بين شعوبهم المتحاربة، في نهاية المطاف، غير مبررة.

وفي تعليقه على تفاعله الأول مع الوفد الإسرائيلي، قال العشاير: ” لقد كان خيالنا كأطفال مستوحى فقط من البيئة التي نشأنا فيها، فلسطين التاريخية، الممتدة من النهر إلى البحر”.

وأضاف: “لقد ثبت أن الحوار كان عديم الجدوى، حيث أنكر كل طرف شرعية الطرف الآخر، ومع ذلك، فقد تشاركنا الطعام ولعبنا معاً، وهو ما خلق مساحة للتعايش، وإن كان غريبًا إلى حد ما”.

وعن اللحظة المحورية في حفل التوقيع، قال: “من المؤكد أننا كنا مجرد أطفال، إلا أننا، حتى في ذلك العمر، أدركنا خطورة ما كان ينكشف أمامنا، على الرغم من أن واقعه كان سرياليًا جدًا لدرجة أنه لا يمكننا تصديق أن ذلك كان حقيقياً.”

تضحيات عميقة

تذكر العشاير، خلال تلك الثواني المطولة عندما مد عرفات يده إلى رابين، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، أن ما يصفه الآن بأنه “نتاج لتضحيات الفلسطينيين العميقة” قد تضاءل في ذهنه.

وقال: “في تلك اللحظة، وجدت نفسي أتساءل، بقلق تقريبًا، عما إذا كان المشهد الذي يتكشف بأي حال من الأحوال يتناسب مع حجم ما تم تحمله”.

وبعد ذلك صافح العشاير كلينتون ورابين وعرفات، ويتذكر كيف كان يعتقد أن عرفات بدا متعباً ومنهكاً، لكن العشاير لم يشعر إلا بالابتهاج لوجوده في حضور رجل تم اختياره في ذلك اليوم كممثل لشعبه.

وقال: “كنا ننتمي إلى سياق كان ولازال حتى اللحظة مرفوضاً بشكل كبير، لكننا نقف الآن في قلب البيت الأبيض، بمصادقة رئيس الولايات المتحدة نفسه”.

وتابع: “كوفية عرفات، بالنسبة لي، ترمز إلى تحول جذري، اعتراف بالحقوق الفلسطينية التي تم إنكارها بشكل منهجي حتى تلك اللحظة الحاسمة”.

المسرح الدبلوماسي

كعضو فلسطيني في الوفد الإسرائيلي الرسمي الذي أُرسل إلى الولايات المتحدة، وجد إياس الأشقر نفسه خاضعاً لفترة إعداد مدتها شهرين، بُذلت خلالها جهود لإقناعه بانتمائه إلى إسرائيل، مع تسليط الضوء على جاذبية الديمقراطية الإسرائيلية والتأكيد على أهمية تمثيل المجتمع الفلسطيني المتبقي كأقلية داخل إسرائيل.

لقد تركت هذه التجربة الأشقر يتصارع مع مشاعر مزعجة من الانزعاج والعزلة، ففي البداية، بذل جهداً لتجنب المواجهات والنقاشات والحوارات السياسية التي تهدف المبادرة إلى إثارتها، إلى أن تبادر في نهاية المطاف إلى ذهنه أنه لم يكن سوى جزء صغير من مسرحية دبلوماسية أكبر.

لقد بدأ هذا المشهد تحت رعاية النرويج وبلغ ذروته بتأييد أميركي، وكان من المفترض أن يُنجز خلال فترة أربعة أشهر فقط، بدءاً بانسحاب القوات الإسرائيلية من غزة وأريحا.

لكن مع اقتراب العام الأول من نهايته، أصبح من الواضح بشكل متزايد للفلسطينيين أن الأحداث لم تكن أقل من انتصار دبلوماسي صارخ للإسرائيليين، وهو ما يتناقض بشكل فاضح مع النتيجة بالنسبة للفلسطينيين.

ففي حينه، بدا للفلسطينيين أن عرفات قد ألصق توقيعه على ما اعتبره كثيرون اتفاقاً باهتاً هدفه الوحيد هو تسهيل عودة منظمة التحرير الفلسطينية من المنفى في تونس، بغض النظر عن التكلفة.

وتبين أن الاتفاقات تخدم أيضًا سعي منظمة التحرير الفلسطينية إلى إعادة تأكيد سلطتها المتضائلة على الشعب الفلسطيني الذي تجاوز، في نظر الكثيرين، هياكل القيادة التقليدية في تولي زمام مصيره خلال الانتفاضة الأولى.

وقال الأشقر: “لقد بقيت الإستراتيجية الإسرائيلية ثابتة منذ المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897 وحتى إعلان استقلالها على الأرض الفلسطينية، مروراً باتفاقات أوسلو حتى اليوم”.

وأضاف: “تتسم هذه الاستراتيجية بالحصار المستمر على غزة والبناء الاستيطاني المتواصل، الذي يتم تنفيذه في ظل تجاهل صارخ للمعاهدات والاتفاقات القائمة”.

وتابع: “الهدف الشامل هو التوسع الإقليمي الأقصى، وقد زودت اتفاقيات أوسلو إسرائيل بمخططها الأكثر كفاءة واقتصادية لمثل هذا التوسع.

يعتقد الأشقر أنه عبر إنشاء السلطة الفلسطينية، زرعت الاتفاقات أيضًا بذور الخلاف المتواصل بين السياسيين الفلسطينيين، من خلال تحييد أولئك الذين قاوموا قيودهم ومكافأة أولئك الذين اعتنقوها.

وقال: “يبدو الأمر كما لو أنهم وضعوا كعكة كبيرة أمامهم، ودعوا إلى تقسيمها فيما بينهم”.

وفي ذات الوقت، أعطت الاتفاقات إسرائيل طريقًا للتراجع تدريجيًا عن الاتفاقيات الدولية الأخرى، كحق عودة اللاجئين الفلسطينيين، على النحو الذي تكفله اتفاقيات جنيف.

وفي عام 1998، بعد خمس سنوات من الاحتفال الذي أقيم في واشنطن، دُعي العشاير وأعضاء آخرون في الوفد الفلسطيني للقاء عرفات مرة أخرى، لكن هذه المرة في رام الله.

وقال العشاير: “أبلغنا أنه اختتم للتو اجتماعا مع وفد يهودي أمريكي، يهدف ظاهرياً إلى تخفيف التوترات بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو”.

وأضاف: “قال لنا عرفات: “إنهم يأتون لي بمجموعة من الأكاذيب ويطلبون مني أن أصبر!”.

ولكن، كما يقول العشاير، عندما قرأ التقارير الصحفية المفعمة بالحيوية في اليوم التالي عن اللقاء الودي بين عرفات والوفد الأمريكي، أدرك “أن الساسة الفلسطينيين، بمن فيهم عرفات نفسه، يتبنون خطاباً مزدوجاً: خطاب لمخاطبة شعبهم وآخر مخصص للمسرح الدولي، وقد دفعني هذا إلى التشكيك في المشهد الجيوسياسي الذي بات يتكشف برمته”.

“جهود لا تتزعزع”

وفي أعقاب اتفاقات أوسلو، ومع بلوغ أعضاء الوفد الفلسطيني الفتي سن الرشد، تعمقت خيبة الأمل والشعور بالحرمان لدى ذلك الجيل.

لم يكن إياس الأشقر استثناءً من خيبة الأمل هذه، فهو، كما كل الفلسطينيين، يحمل ثقل وطنه معه أينما ذهب.

سافر الأشقر إلى إيطاليا للدراسة، وحصل على شهادة الطب، واستقر في بريشيا، المدينة الشمالية التوأمة لبيت لحم، وعلى مدى 22 عاماً، ترك الأشقر بصمة فلسطينية لا تمحى على الحياة السياسية والثقافية في بريشيا، وقد تم الاعتراف بذلك من خلال انتخابه لعضوية المجلس البلدي.

فبعد وقت قصير من وصوله إلى بريشيا، ساعد في تأسيس جمعية الصداقة الإيطالية الفلسطينية التي بدورها أطلقت مهرجان فلسطين السنوي في المدينة.

كما افتتح الأشقر أول مطعم فلسطيني في المدينة، الذي لا يقتصر نشاطه على تقديم الدقة الفلسطينية فحسب، بل أصبح مكانًا للأنشطة والفعاليات المجتمعية التي تعيد القضية الفلسطينية إلى الحياة.

وعندما ضرب الوباء المدينة، أسس الأشقر مبادرة الغذاء للجميع (Cibo per Tutti) وهي مبادرة خيرية قام بتمويلها في البداية من ماله الخاص ثم توسعت لاحقًا بمساعدة الأصدقاء.

ومن خلال هذه المبادرات المدنية، يواصل الأشقر تعزيز دعم القضية الفلسطينية، والدعوة إلى مقاطعة إسرائيل وبناء الروابط بين جامعة بريشيا وجامعة القدس في أبو ديس.

وقال: “إن الدفاع عن فلسطين يتطلب جهودًا متسقة وثابتة على الأرض”.

وأعرب الأشقر عن أسفه لفشل السلطة الفلسطينية من خلال بعثاتها الدبلوماسية في دعم أنشطة الشتات الفلسطيني في أوروبا أو دعم حركات المقاطعة أو اتخاذ إجراءات قانونية ضد إسرائيل.

وقال: “لقد فشلت السلطة الفلسطينية منذ اتفاقيات أوسلو وما زالت تفعل ذلك حتى يومنا هذا”.

أما تجربة العشاير بمشاركته ببرنامج بذور السلام فقد وفرت له أيضًا منصة لمغادرة وطنه، حيث يقيم الآن في دولة الإمارات العربية المتحدة ويحمل درجة الماجستير في القانون الاقتصادي من جامعة غرب إنجلترا في بريستول.

آيلة إلى الزوال

وبعد مرور ثلاثة عقود، يعتقد العشاير أن الوعد بعيد المنال الذي قدمته اتفاقات أوسلو، واحتمال حل الدولتين الذي رحبت به، قد تلاشى وعفا عليه الزمن.

ويبدي العشاير مخاوفه بشأن قيادة السلطة الفلسطينية والتزامها بقضية الشعب الذي تدعي أنها تحكم باسمه.

وقال: “أخشى أن أستيقظ ذات يوم على أنباء مفادها أن السلطة الفلسطينية قد اختارت الاكتفاء بـ 22% فقط من فلسطين التاريخية للحكم الذاتي الذي تصبو إليه”.

لكنه قال إن العديد من الذين شهدوا تلك اللحظة في حديقة الورود، لا يزالون يعيشونها كتجربة تكوينية عززت تصميمهم على مواصلة الكفاح من أجل وطنهم.

وأضاف: “إن فلسطين باقية، مدعومة بجيل نشأ على الإيمان الراسخ بعدالة قضيته”.

وتابع: “ومن بين هؤلاء الشباب، ظهر قانونيون وسياسيون ومؤثرون إعلاميون، يحلمون ببناء منازلهم في إيلات وحيفا”.

للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة