أوسلو والفلسطينيون.. لم يكن اتفاقها المشؤوم بأقل عفونة من السمك الذي قدمته للاجئيهم!

بقلم جوزيف مسعد

ترجمة وتحرير مريم الحمد

بعد ما يقرب من 30 عامًا على اتفاقيات أوسلو ، لا تزال النرويج مساهماً فعالاً في اضطهاد الفلسطينيين ، حيث حرضت على الاستعمار اليهودي لبلادهم منذ عام 1947

عقب الاقتحام الأخير لمخيم جنين، قامت وزيرة الخارجية النرويجية، أنكين هويتفيلت، في 5 يوليو تحديداً، بنشر تغريدة على موقع تويتر قالت فيها أنها “لا تحتمل أي عنف ضد المدنيين الفلسطينيين”، وأنها تدين “المستوى المرتفع من العنف وجميع الهجمات ضد المدنيين”.

لم ينتبه الإسرائيليون إلى استخدامها لعبارة “جميع الهجمات”، في تكرار للصيغة الليبرالية الغربية التي تساوي بين المحتلين الإسرائيليين ومن تحتلهم من الفلسطينيين، خاصة مع لإضافتها لعبارة “يجب أن تنتهي دورة العنف”، فردت وزارة الخارجية الإسرائيلية على الفور متهمة هويتفيلت “بتشجيع وتجاهل الإرهاب” وأن كلماتها “يمكن أن تقوض الحوار المثمر بين إسرائيل والنرويج”!

أصدقاء مقربون

يستدل من ظهورها المفاجئ على أنها الدولة التي رعت اتفاقية “السلام” بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل عام 1993، أن النرويج كانت حريصة حتى قبل الاتفاق على الترويج لنفسها كفاعل خير محايد هدفه المصالحة بين أطراف متحاربة، تصور يتعارض مع الدور التاريخي للنرويج في مساعدة الصهاينة على استعمار فلسطين بل واستدامة ظروف الاستعمار بعد ذلك.

لم تصوت النرويج لتقسيم فلسطين فقط عام 1947، بل أصبحت واحدة من أقرب أصدقاء إسرائيل بعد عام 1948، مثلاً، كان الأمين الأول العام للأمم المتحدة النرويجي تريغفي لي من المؤيدين “المتحمسين” للصهاينة، وبصفته كأمين عام للأمم المتحدة، التقى سراً بممثلي الوكالة اليهودية يومياً تقريباً في منزله بعد أبريل عام 1947، كما أيد خطة التقسيم ودافع بقوة بعد ذلك عن عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة.

عندما جاء المشروع الصهيوني اختارت النرويج دعم الحل الصهيوني وجعل الفلسطينيين يدفعون ثمن جرائمها بحق اللاجئين اليهود

على عكس السويد والدنمارك، أيدت النرويج طلب إسرائيل بالعضوية عام 1949، فكانت من أوائل الدول التي اعترفت بإسرائيل رسمياً، بل وصلت العلاقات إلى حد تمرير “معلومات استخباراتية بريطانية سرية إلى الوكالة اليهودية” من خلال المسؤول النرويجي للأمم المتحدة في القدس، الذي كان قد عينه لي من قبل، كما تم نقل معلومات عسكرية ودبلوماسية سرية إلى ممثل إسرائيل في الأمم المتحدة، أبا إيبان.

حتى عندما اغتال الإرهابيون الصهاينة وسيط لي في الأمم المتحدة، الكونت السويدي فولك برنادوت، لم يضعف دعم لي للاستعمار الصهيوني ذرة واحدة، فقد كان متحيزًا جدًا لإسرائيل لدرجة أنه نصح الإسرائيليين بكيفية التعامل مع برنادوت أثناء مفاوضات الهدنة، فقد ورد في سجلات الوكالة اليهودية أن  “نصيحة السيد لي هي أن نبدأ بموقف متعنت فيما يتعلق بالقضية الرئيسية وأنه إذا قصّرنا في ذلك، فسوف يعرف الكونت جيدًا كيفية استغلاله”.

وصل تحيز لي الشديد لإسرائيل حد تمرير تقارير رسمية للأمم المتحدة حول مناقشات سرية بين الحكومات العربية والأمم المتحدة خلال محادثات الهدنة في رودس عام  1949 للإسرائيليين، كما استخدم المعلومات السرية الواردة من رودس “للتأثير على نتيجة المفاوضات لصالح إسرائيل”، وتبادل المعلومات السرية حول المفاوضات مع الوفد الأمريكي في الأمم المتحدة بشكل سري .

“مستعمرة النرويج”

لقد رحب النرويجيون من مختلف الأطياف السياسية، من اليمين الديني والمحافظ إلى اليسار، بإسرائيل بحماس بعد احتلالها لفلسطين!

عام 1949، أطلق الحزب النرويجي حملة لجمع التبرعات لتأسيس “كيبوتس النرويج” أو “مستعمرة النرويج”، أو ما عُرف لاحقاً باسم “القرية النرويجية” في إسرائيل، مستعمرة كانت ممولة بالكامل بأموال نرويجية ومبنية على أرض فلسطينية! 

في المقابل، لم يبدِ النرويجيون تعاطفاً مع اللاجئين الفلسطينيين الذين طردتهم إسرائيل خلال الحرب، بالنسبة لهم لم تكن إسرائيل الطرف المُلام، بل ساروا على نهج الصهيونية بالإصرار على وجوب اندماج الفلسطينيين في الدول العربية!

وعلى عكس موقفهم من الفلسطينيين، فقد ساهمت المنظمات النرويجية الصهاينة في نقل اليهود التونسيين إلى إسرائيل إبان حرب الاستقلال في تونس في أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات في القرن العشرين، رغم جهود الحركة الوطنية التونسية والحكومة المستقلة بعد ذلك بالتأكيد على المواطنة المتساوية لليهود التوانسة كجزء من نسيج المجتمع التونسي، كما دعا رئيسها المستقبلي آنذاك، الحبيب بورقيبة، إلى الإعتراف بإسرائيل عام 1952، أي قبل استقلال بأربع سنوات.

وعلى عكس اليهود التونسيين الذين كانوا بلا مأوى، فنقلتهم النرويج إلى إسرائيل على أي حال، لم يتم تقديم أي رحلات جوية أو أموال لنقل ورعاية اللاجئين الفلسطينيين المطرودين في أي مكان، إنما أرسلت فقط بعض الأسماك الفائضة، والتي كان بعضها فاسداً، لإطعام بعض اللاجئين الفلسطينيين، وفي الوقت الذي أرسلت فيه الخشب، وقد كانت سلعة نادرة في النرويج ما بعد الحرب، إلى إسرائيل لبناء “كيبوتس النرويج”، رفضت السماح بتصدير مواد البناء إلى اللاجئين الفلسطينيين.

بين المساعدة والتحريض

مثل بقية أوروبا والولايات المتحدة، حافظت النرويج على القوانين المقيدة لاستقبال الناجين اليهود بعد الهولوكست، ففي الواقع، ساعدت الشرطة النرويجية في ظل نظام “الجستابو” في القبض على مئات اليهود النرويجيين الذين لقوا حتفهم لاحقاً في معسكرات هتلر، ففي ذلك الوقت، لم يكن النرويجيون مهتمين بمساعدة مواطنيهم من اليهود على الهرب من “الجستابو”.

أما عندما جاء المشروع الصهيوني، فقد اختارت النرويج دعم الحل الصهيوني وجعل الفلسطينيين يدفعون ثمن جرائمها بحق اللاجئين اليهود، كما فعلت معظم الدول التي أغلقت حدودها أمام اللاجئين اليهود قبل وبعد الحرب العالمية الثانية، على سبيل المثال، في الأربعينات، غادر أقل من 300 يهودي تونسي من بلادهم ليصبحوا مستعمرين في فلسطين، غير أن ذلك العدد وصل إلى أكثر من 26 ألف يهودي بين عامي 1948-1957.

لم تكن هجرة اليهود التوانسة عفوية، بل جاءت نتيجة جهود العديد من المنظمات الصهيونية المنضوية في الاتحاد الصهيوني التونسي والمنظمات اليهودية الأمريكية والمنظمات الإنسانية الأوروبية، وعلى رأسها المجلس النرويجي للاجئين الذي ساعد في نقل التوانسة اليهود إلى إسرائيل عبر النرويج.

في النرويج، تم إيواء اليهود التونسيين في معسكرات تدريب درسوا فيها العبرية ومبادئ الصهيونية استعداداً لاستعمار فلسطين القادم، لكن من سخرية القدر، أن عدداً من التوانسة اليهود قدموا التماسات لدى فرنسا  بين عامي 1952 و1953، وذلك من أجل العودة إلى تونس التي كانت خاضعة للاحتلال الفرنسي آنذاك، وذلك بسبب العنصرية الأوروبية التي واجهوها من قبل الاشكناز اليهود.

وفي تحدٍ لتدويل الأمم المتحدة للقدس ، أيد النرويجيون تقسيم القدس بعد الحرب، بل ذهبوا إلى أبعد مما قامت به معظم دول العالم، وهو الاعتراف بالأمر الواقع الإسرائيلي غير القانوني بإعلان القدس الغربية عاصمة لإسرائيل في أواخر عام 1949.

بعد الاعتراف الرسمي بإسرائيل، بدأ مندوبو النرويج يتلقون تعليمات من الإسرائيليين من أجل الضغط للسلام مع الدول العربية على أساس المفاوضات المباشرة، لكن الدول العربية رفضت وبذلك أفشلت جهود النرويج لفرض التطبيع مع إسرائيل آنذاك.

بعد حرب عام 1967، بدأ النرويجيون بالالتفات إلى الوجود الفلسطيني، حتى أشار إليهم رئيس الوزراء النرويجي، بيير برتن، عام 1970 بأنهم “فلسطينيون” بدلاً من “عرب” لأول مرة، وذلك يعني تجاهل معجم الصهاينة الاستعماري لأول مرة

عام 1956، دفع زعيم حزب العمال النرويجي، من خلال التعاقد مع الاشتراكية الدولية، لتأسيس حملة دولية لدعم إسرائيل، من بين شعاراتها “دع إسرائيل تعيش”، كما زود النرويجيون إسرائيل بأكثر من 20 طناً من الماء الثقيل لبرنامجها النووي الذي كان آخذاً بالازدهار في عام 1959، والذي تمخض عنه مفاعل ديمونا النووي بعد ذلك.

دور متصاعد

استمر الدعم النرويجي لإسرائيل بالتصاعد خلال وبعد حرب عام 1967، ولكن الفرق أنه بعد تلك الحرب بدأ النرويجيون بالالتفات إلى الوجود الفلسطيني، حتى أشار إليهم رئيس الوزراء النرويجي، بيير برتن، عام 1970 بأنهم “فلسطينيون” بدلاً من “عرب” لأول مرة، وذلك يعني تجاهل معجم الصهاينة الاستعماري لأول مرة.

لكن ذلك لا يعني أن النرويج قلصت من دعمها لإسرائيل، بل إن دعمها في حرب أكتوبر عام 1973 جسد فكرة حملة “دع إسرائيل تعيش”، وعندما صوتت أغلبية في الجمعية العامة للأمم المتحدة لمنح صفة مراقب في منظمة التحرير الفلسطينية عام 1974، انضمت النرويج إلى إسرائيل و5 مستعمرات استيطانية في الأمريكتين وآيسلندا في التصويت ضد القرار.

لقد أدت مشاركة النرويج في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في لبنان “اليونيفل”، في أواخر السبعينات، إلى الاتصال بمنظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، وبحلول عام 1988، توسطت النرويج بين الولايات المتحدة وزعيم المنظمة ياسر عرفات، حتى وافق ياسر عرفات على “نبذ الإرهاب” وإلغاء ميثاق المنظمة الفلسطينية تلبية للشروط الأمريكية والإسرائيلية.

وصل دور النرويج إلى أوجه في عامي 1992 و1993 عندما رتبت اجتماعات بين مسؤولين في منظمة التحرير الفلسطينية وأكاديميين إسرائيليين غير رسميين، من بينهم النمساوي المولود في نيوزلندا والذي انتقل إلى إسرائيل عام 1967 يائير هيرشفيلد، ونجل المستعمرين الدنماركيين ورين بونداك، ثم انضم إليهما لاحقاً الزوجان النرويجيان تيري رود لارسن، الباحث الدبلوماسي المستقبلي، وزوجته منى جول، سفيرة النرويج المستقبلية في إسرائيل.

لقد كانت النرويج عاملاً رئيسياً ونشطاً في اضطهاد الفلسطينيين، وما زالت تسبب لهم الأذى وتحرض على استعمار بلادهم

يذكر أن تلك المحادثات قامت بين الطرفين على قاعدة أسمتها النرويج “حظر التفكير في مظالم الماضي” آنذاك، وكانت تجري برعاية مباشرة من وزير الخارجية النرويجي آنذاك، يوهان يورغان، الذي كان يعمل كمستشار ومخبر للإسرائيليين أكثر من كونه وسيطاً، ففي مرة كتب إلى وزير خارجية إسرائيل آنذاك، شمعون بيريز، يطلعه على “نبرته الودية لكن الحازمة” مع عرفات، كما زود يوغان الإسرائيليين بـ “معلومات حاسمة حول المحاور التي من الممكن أن يكون فيها الفلسطينيون على استعداد للتنازل”.

 قمع مستمر

في تقييمها الشامل لدور النرويج، توضح وايج أنه على عكس جهود النرويج لإقناع الفلسطينيين بقبول مطالب إسرائيل، “لا يوجد دليل يشير إلى محاولات نرويجية لإقناع الإسرائيليين برؤية وجهة النظر الفلسطينية أو مساعدة مفاوضي منظمة التحرير الفلسطينية بإخبارهم عن الزوايا التي من الممكن أن يظهر الإسرائيليون فيها بعض “العطاء” في مواقفهم، أو ما هي المقترحات المضادة التي قد تكون مثمرة “، مقابل المشورة المستمرة من قبل هولست وزملائه مع الإسرائيليين.

لقد أثبتت جهود النرويج للتوسط في “حل سلمي” أنها فاسدة تمامًا، تمامًا مثل السمك الفاسد الذي أرسلته النرويج إلى اللاجئين الفلسطينيين، والحقيقة أن الشعب الفلسطيني لا شك أفضل حالًا بدونها!

خلال 3 عقود منذ اتفاقية أوسلو برعاية النرويج، لا تزال الاتفاقية تسبب المزيد من المعاناة والقمع للشعب الفلسطيني، حتى أن النرويج ما زالت تبيع السلاح لإسرائيل بطرق ملتوية، كما بدأت في مراقبة الكتب المنهجية الفلسطينية بحجة مهاجمتها للصهيونية، دون فعل الشيء نفسه مع الكتب المدرسية الإسرائيلية التي تهيمن عليها العنصرية الاستعمارية ضد الفلسطينيين!

ويعد تحرك النرويج الأخير المتمثل في تصنيف البضائع الإسرائيلية المصنوعة في المستوطنات غير القانونية بوضع ملصق يوضح المنشأ عليها، بدلاً من حظرها، بالكاد عملاً مؤيدًا للفلسطينيين، تماماً مثل رسالة التضامن التي أصدرها وزير الخارجية هويتفيلدت قبل أسبوعين.

كانت النرويج ولا تزال عنصواً مساهماً رئيسياً ونشطاً في اضطهاد الفلسطينيين منذ عام 1947، وما زالت تسبب لهم الأذى وتحرض على استعمار بلادهم، ففي حين كانت أهم قواعدها لمنظمة التحرير عام 1993 هي حظر “التفكير في مظالم الماضي”، يجب على الشعب الفلسطيني ألا يتوقف عن كشف جرائم النرويج الماضية والحالية ضد الفلسطينيين، خاصة مع غياب لأي علامة على تراجعها!

ربما تؤدي محاولة النرويج في الترويج لنفسها على أنها وسيط إنساني محب للسلام، إلى إرضاء الجمهور النرويجي الساذج، لكنها لا تقنع أحداً من الشعب الفلسطيني، باستثناء السلطة الفلسطينية التي تمولها النرويج من أجل قمع المقاومة الفلسطينية المناهضة للاستعمار.

لقد أثبتت جهود النرويج للتوسط في “حل سلمي” أنها فاسدة تمامًا، تمامًا مثل السمك الفاسد الذي أرسلته النرويج إلى اللاجئين الفلسطينيين، والحقيقة أن الشعب الفلسطيني لا شك أفضل حالًا بدونها!

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة