بقلم بيتر أوبورن
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
قبل سبعة عشر عاماً، خاضت إسرائيل حرباً وحشية دامت خمسة أسابيع ضد حزب الله في لبنان، تميزت بارتكاب جرائم حرب من قبل الجانبين، حيث قُتل نحو 1200 لبناني بينهم العديد من المدنيين، وحوالي 165 إسرائيليًا.
خلال ذلك النزاع، اتُهمت إسرائيل بممارسة ذات الاستهداف العشوائي الذي تمارسه اليوم في الصراع الوحشي الرهيب في غزة.
ألقى توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني آنذاك وزعيم حزب العمال، بثقل المملكة المتحدة خلف إسرائيل منادياً بحقها في الدفاع عن نفسها.
لكن أحد نجوم السياسة البريطانيين الذين كانوا في صعود فكر بطريقة مختلفة، لقد كان ديفيد كاميرون الزعيم المنتخب حديثاً لحزب المحافظين المعارض يشعر بالرعب الشديد إزاء التقارير التي تلقاها، حتى أنه سمح لوزير خارجية الظل في حكومته، ويليام هيج، بإصدار انتقادات علنية شديدة اللهجة تجاه الهجوم الإسرائيلي.
وقتها، قال هيج للنواب في مجلس العموم: “أعتقد أنه يمكننا القول إن الرد الإسرائيلي غير متناسب”، مشيراً إلى “الهجمات على وحدات الجيش اللبناني، والخسائر في أرواح المدنيين والبنية التحتية الأساسية، والأضرار الهائلة التي لحقت بمقدرات الحكومة اللبنانية”.
جيد مثل كلمته
كان رد فعل اللوبي البريطاني الصلب المؤيد لإسرائيل فورياً وقوياً، حيث كتب ستانلي كالمز، أحد المتبرعين لحزب المحافظين وعضو “أصدقاء إسرائيل المحافظين”، رسالة إلى مجلة سبكتاتور، وهي المجلة الداخلية لحزب المحافظين، يهدد فيها بسحب التمويل.
وخلف الكواليس، كما كشفت في فيلمي على القناة الرابعة، داخل اللوبي الإسرائيلي البريطاني، شرع رئيس منظمة أصدقاء إسرائيل المحافظين ستيوارت بولاك بالعمل.
لقد نجح في تأمين لقاء مع كاميرون قدم فيه زعيم حزب المحافظين ما فُهم على أنه تعهد بعدم استخدام كلمة “غير متناسب” مرة أخرى.
طوال الفترة التي قضاها كزعيم لحزب المحافظين وبصفته رئيساً للوزراء البريطاني، كان كاميرون صادقاً في تعهده ولم يستخدم الكلمة قط فيما يتعلق بأي صراع إسرائيلي.
وبعد عامين، عندما اتُهمت إسرائيل بالقتل العشوائي للمدنيين في غزة في “عملية الرصاص المصبوب”، لم يحد كاميرون عن الخط.
وبعد ستة أشهر من ذلك الصراع الرهيب، كان كاميرون هو المتحدث الرئيسي في حفل الغداء السنوي الذي أقامته منظمة أصدقاء إسرائيل المحافظين، والذي حضره العديد من الوزراء، وأعضاء البرلمان من حزب المحافظين، ورجال الأعمال.
وإثر ذلك، قمت بمراجعة خطاب كاميرون بفضول لأرى كيف تعامل مع تلك الكارثة.
صدمني أن كاميرون لم يشر إلى غزو غزة على الإطلاق ولا إلى الدمار الهائل الذي أحدثه ولا لنحو 1370 حالة وفاة نتيجة لذلك، وفي الواقع، بذل كاميرون قصارى جهده في الثناء على إسرائيل لأنها “تسعى جاهدة لحماية حياة الأبرياء”.
وبعد ست سنوات، تم تنصيب كاميرون في داونينج ستريت عندما شنت إسرائيل “عملية الجرف الصامد”، وأدى دعمه لإسرائيل إلى استقالة الوزيرة سعيدة وارسي، التي قالت أنه “لا يمكن الدفاع أخلاقياً عن نهج كاميرون ولغته خلال الأزمة في غزة”، مضيفة أن سياسته “لا تتفق مع سيادة القانون ودعمنا الطويل للمنظمات الدولية”.
نسختان من ديفيد كاميرون
في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر، وفي محاولة لإنقاذ حكومته المحاصرة، قام رئيس الوزراء ريشي سوناك بتعيين كاميرون وزيراً للخارجية البريطانية بعدما ظل خارج السياسة منذ استقالته من منصب رئاسة الوزراء عقب استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016.
وتزامنت عودته، بمحض الصدفة، مع حرب أخرى في غزة هي الأكثر دموية حتى الآن.
لقد جرى تعيينه من قبل رئيس الوزراء الذي وعد بمنح حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة الخارجة عن السيطرة الدعم “القاطع”، ولم ينطق بأية انتقادات لقتل إسرائيل العشوائي لأكثر من 11.000 مدني بينهم أكثر من 4500 طفل، وظل يرفض دعم الدعوات لوقف إطلاق النار.
لا يبعث سجل كاميرون فيما يتعلق بغزة على الارتياح مطلقاً، لكني سأؤكد أنه قادر على الظهور كوزير خارجية بريطاني كبير قادر على تغيير موقف بريطانيا المثير للاشمئزاز أخلاقياً بشأن المذبحة العشوائية التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين.
لقد عرفت كاميرون لمدة ثلاثين عاماً، منذ أن كنت مراسلاً سياسياً ناشئاً في صحيفة London Evening Standard وكان هو مستشاراً خاصاً في حكومة جون ميجور المنكوبة في التسعينيات.
من وجهة نظري، هناك نسختان من ديفيد كاميرون: كاميرون مارك 1، وكاميرون مارك 2.
كان كاميرون مارك 1 ذلك الشاب الطموح، الذي استحق بالفعل النجومية السياسية، والذي كنت أعرفه جيداً قبل ثلاثة عقود من الزمن، وكان كاميرون هذا متعاطفًا مع التقليد الذي أصبح شبه منقرض الآن والذي يسمى “عروبة المحافظين”.
وكان من ضمن الأعضاء الآخرين في المجموعة المستعربة حفيد ونستون تشرشل، نيكولاس سوامز، وزير الدفاع في الحكومة الكبرى، ونائب حزب المحافظين في المستقبل هوغو سواير، ومايكل أنكرام، الذي لعب بصفته وزيراً من حزب المحافظين في التسعينيات دوراً مهماً وشجاعاً في بعض الأحيان على المستوى الشخصي في المفاوضات المبكرة مع الجيش الجمهوري الإيرلندي، والتي أدت في النهاية إلى اتفاق الجمعة العظيمة.
قام أنكرام، الذي أصبح الآن لورد لوثيان، فيما بعد بتطوير علاقات ودية مع كبار أعضاء حماس في محاولة لتطبيق دروس السلام في أيرلندا الشمالية على الشرق الأوسط.
محادثة مروعة
كان العضوان الأكثر أهمية في مجموعة المستعربين من أوائل رعاة كاميرون، وكان أحدهما دوغلاس هيرد، الذي يعتبره الكثيرون أفضل وزير خارجية بريطاني في العصر الحديث والذي ورث كاميرون دائرته في ويتني.
أما الثاني فكان كريس باتن، الذي ترأس حزب المحافظين عندما كان كاميرون يرتقي في صفوف الحزب، وقد تعلم منه كاميرون الكثير.
في الواقع، كانت محادثة كاميرون مع باتن، الذي كان وقتها رئيسًا لمنظمة المساعدة الطبية للفلسطينيين، هي ما دفعته إلى التصريح في العام 2010 بأن الظروف في غزة تشبه “معسكر اعتقال”.
خلال هذه المرحلة المبكرة نسبيًا من حياته السياسية، كان كاميرون داعمًا بقوة لقضايا المسلمين، وعمل بشكل وثيق معهم، واتخذ نظرة متفائلة للإسلام.
وكقائد جديد لحزب المحافظين، بذل كاميرون قصارى جهده للترويج لمسيرة وارسي المهنية، حيث قدم لها منصب النبلاء ومكانًا في حكومة الظل كوزيرة ظل لتماسك المجتمع، وفي عام 2007، بعد عامين من توليه رئاسة حزب المحافظين، أمضى أسبوعًا مع عائلة مسلمة.
لقد دافع كاميرون عن المدارس الدينية، ودعم التعددية الثقافية، وسخر من السردية اليمينية التي تخلط بين مصطلح “الإسلامي” والإرهاب.
وفي أحد مقالات صحيفة الجارديان، كتب أنه “إذا أردنا أن نذكر أنفسنا بالقيم البريطانية، الضيافة والتسامح والكرم على سبيل المثال لا الحصر، فهناك الكثير من المسلمين البريطانيين الذين يوضحون لنا ما يقصدونه حقًا”.
لقد أيد غزو العراق، ولكن ليس بحماسة، وأتذكر لاحقاً من محادثة خاصة أنه أظهر علامات الندم.
التحالف مع مردوخ
لم يبق كاميرون مارك الأول على قيد الحياة لفترة طويلة بعد أن أصبح رئيساً لحزب المحافظين في العام 2005، ولعل نقطة التحول لم تكن المواجهة المؤلمة مع اللوبي الإسرائيلي، الذي علمه حقائق الحياة السياسية بعد الغزو الإسرائيلي في عام 2006، بل على الأرجح أن التغيير جاء بسبب الانخفاض الحاد في حظوظه الانتخابية، فبحلول صيف عام 2007، بدا كاميرون محكوماً عليه بالفشل، إذ كان متخلفاً في استطلاعات الرأي أمام زعيم حزب العمال الجديد وقتذاك جوردون براون.
ولإنقاذ حياته، دخل في تحالف مع إمبراطورية صحف مردوخ، وقام بتعيين رئيس تحرير صحيفة نيوز أوف ذا وورلد السابق آندي كولسون، الذي سُجن لاحقًا لدوره في قضية التنصت على الهاتف، مديراً لاتصالاته، وهنا ولد كاميرون مارك 2.
على المستوى القريب، أدى هذا التحالف إلى قلب حظوظ كاميرون السياسية، الأمر الذي ضمن تعزيز استطلاعات الرأي التي أوصلته إلى داونينج ستريت كرئيس للوزراء في عام 2010، لكن وفي الأمد البعيد، كانت قبضة مردوخ قاتلة، فقد ورطت حكومته بعمق في فضيحة التنصت على الهاتف، وربما شجعت تدخله الكارثي في ليبيا، وأدت إلى القرار بالدعوة إلى إجراء استفتاء على عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي.
إذن، من هو كاميرون الذي حضر للعمل في وزارة الخارجية يوم 14 تشرين الثاني / نوفمبر؟ مارك 1 أم مارك 2؟
لقد كانت وجهة نظري دائمًا هي أن مارك 1 هو الأقرب إلى ديفيد كاميرون الحقيقي وأن مطالب وتنازلات القوة الغاشمة أجبرته على تبني هوية سياسية لا تمثل معتقداته الحقيقية، وهذا بالطبع هو مصير العديد من السياسيين الناجحين.
لكن كاميرون رجل ذكي للغاية، لا بد أنه سيفكر في إخفاقاته في منصبه، وسيعود متمسكاً بمهنة وعدت في وقت من الأوقات بالكثير، لكنها أدت إلى الفوضى والكوارث، ليس فقط في بريطانيا، ولكن في الخارج أيضًا، فمن الممكن وصفه كما لو أنه رمى بحبل نجاته من أجل إنقاذ سمعته.
قد أكون مخطئاً، ولكن ربما يكون تلميذ دوغلاس هيرد وكريس باتن، وليس رجل مردوخ، هو الذي يتولى مسؤولية السياسة الخارجية البريطانية على مدى الأشهر الاثني عشر المتبقية حتى الهزيمة الحتمية لحزب المحافظين في الانتخابات الرئاسية، الانتخابات العامة المقبلة.
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)