بقلم سماح سبعاوي
ترجمة وتحرير مريم الحمد
عمتي، التي أُجبرت على مغادرة منزلها قبل شهرين، تجلس اليوم على مرتبة رقيقة في خيمة زرقاء وبين يديها حفيدها، ومثلها الآلاف في غزة، فالأمر هناك ليس على ما يرام، لم يعودوا يجدون إلا مياهاً ملوثة ليشربوها!
خلال رحلة النزوح التي مرت بها عمتي من منزلها الجميل في حي التفاح إلى هذه الخيمة التي تضم 16 فردًا من أفراد عائلتها، نجت من القنابل وركضت من ملجأ إلى ملجأ وكانت تصلي حتى لا تفقد أي شخص تحبه، لكنها فقدت الكثيرين.
في ظل الحرب، أحاول العودة لأي ذكرى سعيدة، فأعود بذاكرتي إلى يوليو 2023، حيث الضوضاء والحرارة والألوان والأضواء الساطعة والسيارات والموسيقى والدخان والطعام والضحك
هل أخبرها أحد أن جثة حفيدتها البالغة من العمر 10 سنوات تُركت لتتحلل لمدة 5 أيام بعد أن أطلقت دبابة إسرائيلية النار على منزل ابنتها؟! هل تعلم أن ابنتها تعرضت لجرح يتدفق في رأسها، ومع ذلك ظلت ممسكة بجثة ابنها القتيل،بينما بقي طفلاها وزوجها ينزفان، ويستنشقان رائحة الموت لـ 5 أيام أيضاً، لأن إسرائيل منعت وصول أي سيارة إسعاف إليهم؟!
هذه هي القصص التي تطارد سكان غزة، حتى شبهها الكثيرون بالنكبة معتبرينها الثانية، وهذا صحيح بالنسبة لعدد كبير من سكان القطاع الذين نزحوا أصلاً من مناطقهم عام 1948، ولكن بالنسبة لعائلتي وما يقرب من 30% من سكان غزة، فهذه هي تجربتنا الأولى مع النكبة.
هذه هي المرة الأولى التي ينقطع فيها اتصالنا بالمدينة التي توارثناها أباً عن جد، فالمنزل الذي طردت منه عمتي هو منزل جدي الأكبر، وقد تم بناؤه لأول مرة قبل أكثر من 100 عام، ويعد حينا، حي التفاح وشارع المحطة المجاور له، حيث كانت محطة السكة الحديد القديمة، أقدم بكثير من إسرائيل وكل حروبها.
ذكريات جميلة
في ظل الحرب، أحاول العودة لأي ذكرى سعيدة، فأعود بذاكرتي إلى يوليو 2023، حيث الضوضاء والحرارة والألوان والأضواء الساطعة والسيارات والموسيقى والدخان والطعام والضحك، حيث كنا أنا وزوجي نتسلق سلالم مطعم المنارة، على طول شاطئ غزة، وحيث كان ابننا ناهد حريصًا على تعريفنا بزملائه في الأونروا، هاني ومعتز وأمجد وجو.
أذكر حين سألنا معتز إن كان بإمكانه القدوم إلى شقتنا لتصوير غروب الشمس، فسألته “ما نوع الصور التي تلتقطها؟”، فأجاب “فقط الصور الجميلة، أريد أن يرى العالم جمال غزة”، ويضيف جو “غزة واحدة من أجمل المدن في العالم!”.
وفي موقف آخر، كان زوجي وابني يناقشان مع هاني خطط إقامة حفل موسيقي على شاطئ البحر، فبالإضافة إلى عمله في الأونروا في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن ناهد ملحن موهوب، كان قد حرك فرع غزة لمعهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى، وفرقة سول باند الشعبية في غزة، من أجل المشاركة في حفل موسيقي حي وجمع التبرعات.
أتذكر عندما كنت في مرة أنا وصديقتي أمجاد نشرب عصير الليمون البارد بالنعناع ونتحدث عن الحياة في غزة، خاصة بالنسبة للنساء،
أذكر أن امجاد قالت يومها: “نعم هناك تحديات، لكن رغم الحروب والحصار هذا وطننا، لا أعتقد أنني أرغب في المغادرة على الإطلاق”.
تحت عنوان “غزة للعالم” كان ناهد يخطط لحفله الموسيقي الذي كان يتدرب فيه العديد من موسيقيي غزة الموهوبين.
“أبناء جيلي بحاجة إلى بريق أمل”
أخذنا جو، الذي كان صانع محتوى فيديو، في جولة خاصة في المدينة القديمة، زرنا فيها كنيسة القديس برفيريوس والجامع الكبير في غزة، وتناولنا الطعام في السوق القديم وتوقفنا عند محلات التحف في سوق الزاوية القديم وزرنا حمامات السمارة القديمة حتى انتهى بنا المطاف بشري قهوة الهيل مع حلوى النمورة في منزل تراثي مرمم، تعلمنا فيه كيف قام أسلافنا بتخزين طعامهم والحفاظ على منازلهم باردة في الصيف ودافئة في الشتاء.
شقيق هاني من بين الرجال الذين جردوا من ملابسهم الداخلية وقيدت أيديهم خلف ظهورهم خلال اعتقالهم من قبل الجيش الإسرائيلي
جو لم يكن يصور إلا المقاطع الجميلة من غزة، رغم وجود تحديات كثيرة، ولكنه كان يدافع عن نفسه بالقول: “هناك ما يكفي من الناس الذين يسلطون الضوء على الجانب المظلم، وأنا اخترت أن أظهر الجميل، لأن أبناء جيلي بحاجة إلى بريق أمل في حياة تستحق أن نعيش من أجلها”.
كل ذلك مر كالحلم، فقد فقدت عائلاتنا منازلها، وتم تدمير جميع المقاهي، وتحولت مدينة غزة إلى أرض محروقة، كما تم ذبح الكثير من عائلاتنا، فيما الأونروا تترنح بعد قتل 142 من موظفي الأمم المتحدة.
الحقيقة أنه لم يسلم أحد، من أطباء وصحفيين ومسعفين وعائلات بأكملها، فالقنابل لا تميز شخصاً من آخر!
صدمتنا الكبرى كانت حين ظهر والد هاني وشقيقه واثنين من أبناء أخيه، أحدهم يبلغ من العمر 13 عامًا فقط، في الصور عبر الإنترنت، فقد كان شقيق هاني من بين الرجال الذين جردوا من ملابسهم الداخلية وقيدت أيديهم خلف ظهورهم خلال اعتقالهم من قبل الجيش الإسرائيلي.
“لم يبقَ هناك شيء”
في كل حرب، يعاني الناس، فمحو غزة لن يؤدي إلا إلى زيادة كراهية الفلسطينيين لإسرائيل، حيث أن الطريقة الأسهل والأكثر فعالية تتلخص في منح الفلسطينيين الأمل في مستقبل خال من الاحتلال والطغيان.
اليوم أُجبر معتز وأمجد وجو مع عائلاتهم على النزوح إلى أقصى الجنوب، حيث تستمر المساحات والأمل في التقلص تحت أقدامهم، فأمجد وجو الآن يبحثان عن طريقة لمغادرة غزة، وأنقل آخر رسالة من جو قال فيها: “لم يبقَ هناك شيء، لقد دمروا كل شيء”.
أما معتز، الذي أصبح أحد أهم الأصوات في غزة، مع أكثر من 18 مليون متابع على إنستغرام، فلم يتمكن من إرسال سوى عدد قليل من قلوب الحب ردًا على استفساراتي حول صحته.
أذكر أنه أخبرني في يوليو من عام 2023: “هذه الكاميرا لن تلتقط إلا الأشياء التي يمكن أن تلهم الجمال والحب”، والآن أتساءل كم عدد الأطفال القتلى والجثث المنتفخة التي التقطها بكاميرته!
ألتفت لهاتفي فأجد فيديو جديد لعمتي وهي تسير بين الخيام في رفح وتتمتم بالدعاء فيما يسأل ابنها “لمن تدعين؟”، فردت “من أجل هؤلاء الفقراء الذين يعيشون في هذه الخيام” فيسألها ابنها: “هل نسيت أنك الآن واحدة من هؤلاء الناس؟”، فترد والضحكة قد علت وجهها الذي أظلمته الشمس: “أوه نعم، لقد نسيت أني واحدة منهم”.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)