بقلم ديفيد هيرست
ترجمة وتحرير مريم الحمد
لا أعتقد أن أحداً منا قد ينسى يوماً الدور الذي لعبه الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن كقائد عام لحملة الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة، فقد تسبب بايدن في أكثر من مجرد تمكين الحرب من الاستمرار لمدة 15 شهراً، ولكنه وضع الأساس لشيء أسوأ ليأتي بعده، ولم يكن ذلك عجزاً بل خبث متعمد.
لقد بدأت تتكشف ملامح ذلك الخبث وتتوضح صورته أكثر بقدوم ترامب الآن، فقد انخدع البعض، خاصة أولئك الذين صوتوا لصالح ترامب في الولايات المتأرجحة، معتقدين بأن ترامب كان من الممكن أن يأتي بشيء أفضل من سلفه بايدن!
في يوم واحد فقط، قام فعلياً بتمزيق اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التفاوض عليه على مدار 15 شهراً، فلم يقم بإلغاء المرحلة الثالثة من جانب واحد فحسب، والتي تنص على عودة كافة الجثث والانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من غزة، ولكنه أيضاً شكك بتنفيذ المرحلة الثانية
في حفل تنصيبه، أحاط ترامب نفسه بعائلات الرهائن، وكان مبعوثه للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، قد فرض اتفاق وقف إطلاق النار سريعاً، لذلك كان هناك ربما سوء تقدير وافتراض بأن ترامب سوف يزيد من الضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لمواصلة عملية تبادل الرهائن والأسرى.
الحقيقة أن كل من اعتقد ذلك كان مخطئاً، فالعديد من أولئك الذين صوتوا لصالح ترامب لم يأخذوا على محمل الجد عواقب الإبادة الجماعية المترتبة على رغبة ترامب في تحويل غزة إلى ريفييرا شرق البحر الأبيض المتوسط، ولا حتى تأملات صهره جاريد كوشنر حول كل تلك “الممتلكات القيمة على الواجهة البحرية”.
انتداب واضح
عندما ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال بأن فكرة ترامب للسيطرة على غزة قد فاجأت حتى أقرب مساعديه، فهذا هو ما تعنيه تصريحات ترامب في السياسة الخارجية فعلاً، فالكثير ممن صوتوا له لم يدركوا أن ترامب يشكل السياسة على أساس آخر شخص يتحدث إليه.
ما من شك في أن تصريحات ترامب المثيرة للضحك والسخرية تحير حتى أقرب مؤيديه، فقد خاض الانتخابات على “وعد” بأن يتم وقف جميع الحروب التي شارك فيها بايدن، ولكن بعد أسابيع فقط من ولايته، لم يمنح ترامب تفويضاً لإسرائيل لمواصلة حربها على غزة فحسب، بل أصبح يمتلك غزة أيضاً!
بعد اجتماع واحد فقط مع نتنياهو، تعهد رئيس شركة التطوير العقاري بالاستيلاء على غزة باعتبارها ممتلكات أمريكية وتحويل ما أسماه “موقع هدم” إلى جنة، مشيراً إلى أنه سوف يعمل على تطويره من أجل “شعوب الشرق الأوسط”، أو بعبارة أخرى، للمستوطنين الإسرائيليين.
لم يتمكن نتنياهو الذي هدم غزة من احتواء ابتسامته عند سماع ذلك، فقد أعطاه ترامب للتو كل ما لم تتمكن حتى صهيونية بايدن الغريزية من تقديمه، والآن قد غادر نتنياهو واشنطن بتفويض واضح.
ليس الهدف، كما اعتقدنا جميعاً، وقف الحرب، بل هو دعوة واضحة للعودة إلى الحرب، فهذه هي النتيجة الحتمية لكلام ترامب إن تم تنفيذه، فصور الإذلال التي خلفتها الصور الخاصة بإطلاق سراح الرهائن مع مقاتلي حماس، الذين يسيطرون بقوة على الأرض، لم تمر لدى الزعيم الإسرائيلي، كما أن القوى العسكرية والسياسية الكبيرة التابعة لليمين الديني المتطرف في إسرائيل قد انخرطت في ذات الخط.
لقد كان لاندفاع إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي السابق والزعيم الفعلي لليمين الصهيوني الديني، للانضمام مرة أخرى إلى الحكومة الإسرائيلية في أعقاب المؤتمر الصحفي لترامب، دلالة كبيرة، حيث صرح بن غفير بأنه إذا بدأ ترامب في تنفيذ خطته، فإن حزبه سوف ينضم مرة أخرى إلى الائتلاف.
من جهة أخرى، فلم يحدث من قبل أن كان حلم العمر، حلم إسرائيل الكبرى الممتدة من النهر إلى البحر، في متناول أيديهم كما هو اليوم، فترامب قال وفعل الكثير، ففي يوم واحد فقط، قام فعلياً بتمزيق اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التفاوض عليه على مدار 15 شهراً، فلم يقم بإلغاء المرحلة الثالثة من جانب واحد فحسب، والتي تنص على عودة كافة الجثث والانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من غزة، ولكنه أيضاً شكك بتنفيذ المرحلة الثانية، والتي من المفترض أن يتم فيها إطلاق سراح جميع الرهائن الأحياء المتبقين.
بوضوح قال ترامب بأنه “غير واثق” من استمرار وقف إطلاق النار في غزة على المدى الطويل، فيما أكد مبعوثه ويتكوف بأن المرحلة الثالثة لم تعد مطروحة على الطاولة!
خطر انهيار الصفقة
إذا افترضنا أن هذه الموجة من التراجعات الأمريكية حول الاتفاق الموقع في الدوحة لا تزال قائمة، فما الذي قد يدفع حماس الآن للاستمرار في إطلاق سراح الرهائن، حتى في ظل المرحلة الحالية من الاتفاق؟
نحن في منتصف الطريق من المرحلة الأولى من الصفقة تقريباً، والتي تنص على إطلاق سراح 33 رهينة مقابل مئات الأسرى الفلسطينيين، فلماذا تستمر حماس في إطلاق سراح المزيد من الرهائن، مع علمها بأن إبادتهم سوف تكون الخطوة اللاحقة؟! وما هي القيمة التي يمكن لأي شخص أن يضعها على الوثائق التي توقعها الولايات المتحدة بعد الآن؟
هذا هو المعنى الواضح من رد فعل عضو المكتب السياسي لحركة حماس باسم نعيم، الذي أكد أن حماس ملتزمة باتفاق وقف إطلاق النار طالما ظلت إسرائيل ملتزمة به، إلا أن “أي تلاعب في تنفيذ الاتفاق قد يؤدي إلى انهياره”.
والسؤال يظل، ما الذي همس به نتنياهو في أذن ترامب حول الضفة الغربية المحتلة؟ نحن لن نعرف ذلك قبل بضعة أسابيع أخرى، لكن العلامات تنذر بالأسوأ.
عندما سُئل عما إذا كان يدعم السيادة الإسرائيلية على “يهودا والسامرة”، وهو ما يعني ضم المنطقتين “ب” و”ج” اللتين تضمان أكثر من ثلثي الضفة الغربية المحتلة بشكل غير قانوني، أجاب ترامب: “أنتم ممثلون بشكل جيد والناس أعجبتهم الفكرة، لكننا لم نتخذ موقفاً بشأنها بعد، لكننا سنصدر إعلاناً على الأرجح خلال الأسابيع الأربعة المقبلة”.
لقد أصبح من الواضح الآن أن غزة لم تعد معركة بين مجموعة مقاومة فلسطينية وإسرائيل، ولم يعد الأمر يتعلق حتى بغزة وحدها، ففي اللحظة التاريخية التي بلغت فيها المطالبة بحق تقرير المصير للفلسطينيين أعلى مستوياتها نتيجة لما تعانيه غزة والضفة الغربية المحتلة، يضع ترامب ونتنياهو خططاً للترحيل الجماعي القسري للشعب الفلسطيني، في محاولة لتقزيم حجم كل الخطط الأخرى التي حدثت منذ عام 1948.
خطر وجودي
تمثل ولاية ترامب الثانية تهديداً وجودياً لجميع الفلسطينيين، أينما كانوا يعيشون، وحتى لغالبية السكان الذين يعيشون اليوم بين النهر والبحر، حتى أنه بات من الواضح أن خطط ترامب تمثل تهديداً أمنياً كبيراً حتى لأوروبا.
إن الهدف الواضح والمعلن لهذه الحرب هو فرض تهجير جماعي على السكان الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية المحتلة، وتوجيه ضربة قاصمة للدولة الفلسطينية وتغيير التوازن الديموغرافي للأراضي التي تدعي إسرائيل أنها ملكها إلى الأبد!
إن كان وصول مليون سوري إلى أوروبا سبباً في إنهاء حكومة المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل التي تنتمي إلى يمين الوسط، وكان إيذاناً ببدء فترة جديدة من التاريخ الألماني يهدد فيه اليمين المتطرف بزعزعة الديمقراطية، فلك أن تتخيل كيف يمكن لوصول الملايين من الفلسطينيين تعكير صفو السلام في أوروبا!
ربما أدرك الزعماء الأوروبيون أخيراً مدى الغباء الذي ارتكبوه عندما دعموا إسرائيل حتى النهاية في حربها ضد غزة، وهم يرون إلى أين تقودهم هذه السياسة الآن، فقد أدركت أوروبا أخيراً ما عرفه كل عربي وفلسطيني منذ اليوم الأول وهو الهدف الحقيقي لهذه الحرب، المتمثل بالتهجير القسري لملايين الفلسطينيين من فلسطين.
لقد تجاهل ترامب بكل بساطة التحذيرات السعودية والأردنية والمصرية من اتباع هذه السياسة مع إسرائيل، وهذا تصرف أحمق بالتأكيد، ففي غضون ساعات من تصريح ترامب بأن “السعودية سوف تكون مفيدة للغاية فهم يريدون السلام في الشرق الأوسط، الأمر بسيط للغاية”، أصدرت المملكة أقوى بيان لها حتى الآن وشددت وزارة الخارجية السعودية على موقف المملكة “الحازم والثابت” حول الدولة الفلسطينية.
جاء في البيان: “تؤكد المملكة العربية السعودية رفضها القاطع لأي تعدٍ على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، سواء من خلال سياسات الاستيطان الإسرائيلية أو ضم الأراضي أو محاولات تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه، وهذا موقف غير قابل للتفاوض”.
سبب للحرب
من ناحية أخرى، يستعد العاهل الأردني الملك عبد الله لزيارة واشنطن حاملاً رسالة مماثلة، فوفقاً لمصادر رفيعة المستوى تواصل معها موقع ميدل إيست آي، فإن الأردن قد يعتبر أن قيام إسرائيل بفتح حدودها الشرقية وإجبار الفلسطينيين على النزوح الجماعي من الضفة الغربية المحتلة “سبباً للحرب”، وهو كذلك بكل تأكيد، فالعديد من الحروب الكبرى قد بدأت بالفعل بذرائع صغيرة.
لقد كشف بذلك عن غطرسته العمياء، وعليه أن يعلم أنه إذا ما استمر بخططه، فإن أسود الشرق الأوسط هي التي سوف تهاجم دولة إسرائيل الصغيرة كما لم يحدث من قبل، وكل إسرائيلي سوف يشعر بذلك
تجدر الإشارة إلى أن الأردن يتلقى 1.45 مليار دولار من المساعدات الأمريكية والمساعدات العسكرية سنوياً، وهو على استعداد تام للتخلي عن هذه المساعدة الحاسمة إذا كان ثمن استمرار المساعدة المالية هو قبول مليون لاجئ فلسطيني إضافي.
أما الجيش المصري، فهو يحمل نفس التصميم على عدم قبول أي فلسطيني أجبر على الخروج من غزة، لأن كلاً من الأردن ومصر يدركان أن قيامهما بذلك قد يكون بمثابة خطر على النظامين.
لقد وصلنا إلى مرحلة تم الكشف فيها أخيراً عن أهداف إسرائيل والمؤيدين الصهاينة المتدينين لترامب من هذه الحرب، فلم تعد هناك أوراق للاختباء وراءها، ولم يعد من الممكن وصفها بأنها حرب للدفاع عن إسرائيل، ولم يعد الأمر يتعلق بهزيمة حماس.
إن الهدف الواضح والمعلن لهذه الحرب هو فرض تهجير جماعي على السكان الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية المحتلة، وتوجيه ضربة قاصمة للدولة الفلسطينية وتغيير التوازن الديموغرافي للأراضي التي تدعي إسرائيل أنها ملكها إلى الأبد!
غطرسة عمياء
يمكن أن تسمي إسرائيل هذا “نقلاً طوعياً”، وقد يسميها ترامب وكوشنر إعادة تطوير، ولكن اسمه الحقيقي هو التطهير العرقي على نطاق لم يسبق له مثيل منذ احتلال أوروبا من قبل النازية.
هذا الخطر مفهوم لدى كل فلسطيني، ولهذا السبب لن يتحرك الفلسطينيون من أماكنهم، وعلى العالم أن يدرك أنه إذا ما تم استئناف الحرب في غزة، فإن الفلسطينيين سوف يموتون صادمين حيث يقفون.
ما يخفيه العمل في مكتب ترامب ينذر بمعاناة وقتل على نطاق لا يمكن تصوره حتى بمعايير الأشهر الخمسة عشر الماضية، وقد بات هذا السيناريو قريباً ومحققاً، فما اقترحه ترامب هو ما حاولت إسرائيل القيام به عدة مرات من قبل.
لقد حاولت الميليشيات الصهيونية إجبار الفلسطينيين على الخروج من غزة عام 1948، وحاولت إسرائيل ذلك مرة أخرى خلال أزمة السويس وبعد حرب عام 1967، ولكنها فشلت في كل مرة وسوف تفشل مرة أخرى.
لقد أنهى نتنياهو مؤتمره الصحفي بالقول: “يقول الكتاب المقدس أن شعب إسرائيل سيقوم كالأسود، واليوم، يُسمع زئير أسد يهوذا بصوت عالٍ في جميع أنحاء الشرق الأوسط”.
لقد كشف بذلك عن غطرسته العمياء، وعليه أن يعلم أنه إذا ما استمر بخططه، فإن أسود الشرق الأوسط هي التي سوف تهاجم دولة إسرائيل الصغيرة كما لم يحدث من قبل، وكل إسرائيلي سوف يشعر بذلك.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)