بقلم بيتر أوبورن
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
قبل أكثر من 30 عاماً، قام السياسي المحافظ ووزير أيرلندا الشمالية في الحكومة البريطانية آنذاك، مايكل أنكرام برحلة إلى عقر بيت الجيش الجمهوري الأيرلندي في الدير الكاثوليكي بأيرلندا الشمالية.
وبصحبة سائقه فقط، زار أنكرام منزل الأسقف الديري إدوارد دالي، وعقد اجتماع في غرفته الأمامية مع مارتن ماكغينيس، قائد الـ (شين فين) الذي يُعتقد أنه خدم كذلك في مجلس حرب الجيش الجمهوري الأيرلندي، نعم لم يكن بصحبة أنكرام سوى سائقه المسلح لحمايته.
قطع الجيش الجمهوري الأيرلندي مدخلي الطريق لتأمين المحادثات، وكانت رحلة أنكرام محفوفة بالمخاطر الشخصية والمهنية والسياسية، لكن ذلك الاجتماع الأول على الإطلاق بين وزير بريطاني وممثل الجيش الجمهوري الأيرلندي على أراضي الأخير كان بمثابة إشارة إلى أن الحكومة البريطانية ومثلها الجيش الجمهوري الأيرلندي كانا يريدان الحوار.
وخلال الساعات الثلاث الأولى من الاجتماع، ألقى ماكغينيس على مسامع أنكرام محاضرة حول الظلم البريطاني التاريخي تجاه أيرلندا، لكن أنكرام نقل الحوار بأسلوب لطيف إلى الغرض الحقيقي من اللقاء وهو فتح خط اتصال بين الحكومة البريطانية والجيش الجمهوري الأيرلندي شبه العسكري.
أدت هذه المحادثة في النهاية إلى اتفاق الجمعة العظيمة، ونهاية الاضطرابات، وإحلال السلام في أيرلندا الشمالية، وقد أخبرني أنكرام، الذي توفي في وقت مبكر من هذا الأسبوع، عن هذا الاجتماع السري مع ماكغينيس بعد 15 عاماً أثناء احتساء زجاجة من شاتو موزار في فندق ألبيرغو في بيروت.
في اليوم التالي، سافرنا بالسيارة عبر وادي البقاع من بيروت إلى دمشق، حيث التقينا بالقائد السياسي لحماس خالد مشعل، بحلول ذلك الوقت، كان أنكرام قد ترك منصبه الوزاري، لكنه ظل نائباً عن حزب المحافظين، وكان عازماً على التعلم من مفاوضاته الناجحة في أيرلندا الشمالية، وكان حريصاً على فتح خطوط اتصال مع حزب الله وحماس.
كانت إسرائيل قد حاولت سابقاً اغتيال مشعل بالسم، وهي لديها سجل في قتل مفاوضي حماس، ولذلك فقد جرى الاجتماع الذي دام 90 دقيقة في مكان سري، التفت أنكرام إلي بعدها وقال: “إنه نوع من الرجال الذين يمكننا التعامل معهم”.
الفرص الضائعة
جاء اجتماعنا مع مشعل في أعقاب الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، والتي، على الرغم من غضب إسرائيل والولايات المتحدة، فازت بها حماس بشكل شامل في ما اتفق المراقبون على أنه تصويت حر ونزيه.
رفضت الولايات المتحدة قبول النتيجة، وشرعت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس في العمل على تقويض حماس، وفرض العقوبات على غزة، وتركت القطاع في الواقع ليتعفن.
كانت هذه هي الفرصة الأكثر أهمية من بين عدد من الفرص الضائعة للسماح لحماس بالمشاركة في حكومة وحدة وطنية تضم جميع الفصائل الفلسطينية وتكون ممثلة حقاً كما أدرك وزير الخارجية البريطاني السابق جاك سترو وحتى، في النهاية، رئيس الوزراء السابق توني بلير.
كان المسار الذي سلكناه لوقف الحرب في أيرلندا الشمالية عكس المسار الجماعي الذي نسلكه نحن الغربيون في فلسطين، ومن السهل معرفة السبب: إن حزب شين فين، الذي تم حظر المتحدثين باسمه ذات يوم على هيئة الإذاعة البريطانية، أصبح الآن أكبر حزب سياسي في أيرلندا الشمالية، ولا يمكن لإسرائيل والمجتمع الدولي أن يسمحا لحماس بالقيام بنفس الشيء في فلسطين.
كانت محادثات أنكرام مع مشعل وآخرين، والتي أخبرني أنكرام أنها نقلت بأمانة إلى وزارة الخارجية في لندن، محاولة مشرفة لإبقاء خطوط الاتصال مفتوحة، ومن الواضح الآن أن جهوده وآخرين مثل المفاوض الإسرائيلي دانييل ليفي وأليستير كروك، الدبلوماسي البريطاني السابق المقيم في بيروت والذي سهّل اجتماعات أنكرام مع مشعل وغيره كان محكوم عليها بالفشل.
لقد كان ميؤوسًا من نجاح هذه المحادثات في مواجهة تقسيم الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش البدائي فكرياً وأخلاقياً للعالم بين “الخير” و “الشر”.
رؤية كارثية
أعاد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تأكيد هذه الأيديولوجية المضطربة في يوليو/تموز، عندما أخبر الكونغرس الأمريكي أن إسرائيل وحليفتها الأمريكية منخرطان في “صراع وجودي بين الهمجية والحضارة، بين أولئك الذين يمجدون الموت وأولئك الذين يقدسون الحياة”.
هذه النظرة العالمية البدائية هي التي دفعت إلى غزو العراق الكارثي و”الحرب الدموية على الإرهاب” التي أعقبت ذلك، ولأنها تصر على أن الغاية تبرر الوسيلة، فإنها تبرر العنف غير المحدود والوحشية والقتل، فضلاً عن أشد أشكال التعذيب فظاعة.
ومن خلال وصفها للطرف الآخر بأنه شرير، فإنها لا تترك مجالاً للمفاوضات، ولا تريد الولايات المتحدة وإسرائيل الدخول في مفاوضات مع حماس على غرار تلك التي جرت بنجاح مع الجيش الجمهوري الأيرلندي، إنهم يريدون فقط هزيمته عسكرياً.
وينطبق ذات الأمر على حزب الله، حيث يقول الدبلوماسيون اللبنانيون الآن أن زعيم حزب الله حسن نصر الله اغتيل بعد وقت قصير من موافقته على وقف إطلاق النار المؤقت مع إسرائيل، وقد يفسر هذا الحاجة إلى اغتياله.
ومن المؤسف أن هذه الرؤية المروعة أصابت الغرب، وهذا يفسر سبب استمرار الولايات المتحدة وبريطانيا في دعم نتنياهو بينما تشن حكومته شبه الفاشية حملة شرسة في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
كان أنكرام سليل عائلة بريطانية كبيرة من ملاك الأراضي، وبحلول وقت وفاته، أصبح ماركيز لوثيان الثالث عشر، بعد أن ورث اللقب من والده، وربما لهذا السبب، فهم واهتم بعبء التاريخ والمشاكل التي لم تُحل والجراح التي لا تُنسى التي يجلبها.
لقد كان كاثوليكياً، وهو ما قد يفسر سبب فهمه للاضطهاد والمعاناة والتواضع الفكري.، باختصار، كان يمثل حنكة سياسية أقدم وأكثر حكمة من الجهلة عديمي الإنسانية نتنياهو أو الرئيس الأمريكي جو بايدن، أو رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر.
لقد أدرك أن الاستماع مهم بقدر أهمية إلقاء المحاضرات وأن الطرف الآخر لديه وجهة نظر وفوق كل شيء، أن المشاكل المستعصية يمكن حلها دون اللجوء إلى الحرب.
سوف نفتقد أنكرام بشكل خاص الآن، لأن قِلة قليلة من أمثاله ما زالت على قيد الحياة اليوم، لم يكن رجلاً عظيماً فحسب، لقد كان أفضل من ذلك، لقد كان رجلاً صالحاً، رحمه الله.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)