بقلم ماركو كارنيلوس
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
توقع توماس فريدمان، وهو أفضل كاتب عمود في صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية أن تكون هناك صفقة محتملة قيد الإعداد، من شأنها أن تغير قواعد اللعبة في منطقة الشرق الأوسط.
وفي مقال رأي له زعم فريدمان، استناداً لعلاقاته المميزة داخل أروقة الإدارة الأمريكية، أن الرئيس جو بايدن “يعيش صراع التفكير حول ما إذا كان يجب عليه متابعة فرص التوصل إلى اتفاق أمني مشترك بين الولايات المتحدة والسعودية يتضمن تطبيعها للعلاقات مع إسرائيل، شريطة أن تقدم الأخيرة تنازلاتٍ للفلسطينيين تحافظ على إمكانية الوصول إلى حل الدولتين”.
وعليه، فإن السعودية قد تجني من تطبيع علاقاتها مع إسرائيل اتفاقيةً أمنيةً مع الولايات المتحدة وتنازلاتٍ إسرائيليةً غير محددة، لا تضمن إنجاز حل الدولتين في نهاية المطاف، لكنها تحافظ ببساطة على الاحتمال الافتراضي للوصول إلى هذا الحل، وبعبارة أخرى، لا شيء، صفر.
بشكلٍ عمليٍ، يعني تقديم التنازلات للحفاظ على إمكانية حل الدولتين تمديد حالة الوضع الراهن القائم منذ عقود إلى أجل غير مسمى، فيما يتواصل زحف عمليات الضم من قبل المستوطنين الإسرائيليين لأجزاء أخرى من الضفة الغربية المحتلة بينما تبقى أصابع الجنود الإسرائيليين على الزناد، وبالتالي فإن النتيجة النهائية ستتمثل بعدم توفر ظروف لائقة لأي صيغة تحقق حل الدولتين.
هذه خدعة جديدة لإنكار حقوق الفلسطينيين مرة أخرى، لقد ألقت بهم إدارة ترامب إلى الهاوية عند توقيع اتفاقيات أبراهام، أما إدارة بايدن الأكثر اعتدالًا وتعاطفًا فهي ليست أقل غدرًا، ببساطة لقد خدعتهم مرةً أخرى.
يمثل هذا النهج خطأ الإدارات الأمريكية المعتاد منذ عقود: تصاعدية مقلقة تخدم إسرائيل أولاً ولا تؤدي إلى نتائج أبدًا، ولكنها فقط تصنع أوهاماً قصيرةً، بل قصيرة جدًا.
لطالما تبددت هذه الأوهام على أيدي ساسة إسرائيل الأفذاذ الذين عملوا بشكل منهجي على تغيير أهداف المفاوضات، لقد برع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في مثل هذه الأعمال على مدى عقدٍ ونصفٍ انقضت من السنوات.
وفي حال انخرط الفلسطينيون في هذه اللعبة الأمريكية مرة أخرى، فإن ذلك يظهر أنهم تجاوزوا نقطة اللاعودة في اليأس.
إذا كان وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان وكبير مبعوثي البيت الأبيض للشرق الأوسط بريت ماكغورك، باعتبارهم مهندسي الخدعة الجديدة، مقتنعين بالفعل بجودة مقترحاتهم، فسوف يدركون قريبًا وبسهولة أن إسرائيل سرعان ما ستخدعهم مرة أخرى.
في مثل هذه الحالة، فإن أفضل ما يمكن أن تقدمه المحطات الإذاعية الفلسطينية وواشنطن هو أن تبث على مدار الساعة وطيلة أيام الأسبوع أغنية “Won’t Get Fooled Again لفرقة الروك الشهيرة The Who والتي تعني “لن ننخدع مرة أخرى”.
وإذا سارت الأمور وفقًا لخطة واشنطن، فستكون إسرائيل في وضعها الرابح المألوف، حيث ستطبّع علاقاتها مع المملكة العربية السعودية وستواصل الضم الزاحف للضفة الغربية مع الحفاظ على حل الدولتين مجمداً، كما تفعل منذ عام 2003.
في المقابل، ستحصل المملكة العربية السعودية على التزام أمني غامض من الولايات المتحدة قد يكون مطلوبًا لرحلة تطبيع المملكة لعلاقاتها مع إيران، ستوقف الولايات المتحدة، بنجاح دبلوماسي مزعوم، الموت البطيء لباكس أمريكانا في المنطقة، أما بالنسبة للفلسطينيين، بالطبع سوف يُخدعون مرة أخرى.
ما زال من غير المؤكد معرفة كيف ستخدم مثل هذه الصفقة بالفعل مصالح المملكة العربية السعودية، لكن فريدمان يسرد الفوائد التي ستجنيها المملكة:” معاهدة أمنية متبادلة على مستوى الناتو من شأنها أن تلزم الولايات المتحدة بالدفاع عن المملكة العربية السعودية إذا تعرضت للهجوم (على الأرجح من قبل إيران)، برنامج نووي مدني تراقبه الولايات المتحدة، والقدرة على شراء أسلحة أمريكية أكثر تقدمًا “.
في 14 أيلول / سبتمبر 2019، أدى إطلاق الطائرات الإيرانية بدون طيار من العراق إلى خفض إنتاج النفط السعودي بمقدار النصف لأكثر من أسبوع، فيما ظل الدرع العسكري الأمريكي الرابض فعلاً في المملكة خاملاً، وهو درس لا ينبغي للديوان الملكي السعودي نسيانه.
علاوة على ذلك، فإنه لا يمكن التسليم بأن الولايات المتحدة ستكون حريصة جدًا على إلزام نفسها باتفاقية أمنية متبادلة تتمحور مرة أخرى في الشرق الأوسط، بينما تكافح هي للبقاء بعيدةً عن روسيا في أوروبا والصين، سيما بعد الحروب الكارثية التي خاضتها لعشرين عامًا في المنطقة.
وكفائدة محتملة أخرى للسعودية، يمكن لولي العهد محمد بن سلمان أن يسأل أستاذه السابق، حاكم الإمارات محمد بن زايد (على الرغم من أنهما لم يعودا على علاقة جيدة) كيف لعبت إسرائيل دورًا أساسيًا في منع الإمارات من الحصول على أسلحة أمريكية متطورة بعد توقيعها اتفاقية أبراهام للتطبيع معها.
من المفترض أن ينطبق الأمر نفسه على أي قائمة شراء عسكرية سعودية، وعلى طموحاتها النووية المدنية.
وبصرف النظر عن تلاشي الادعاء بالديمقراطية في القدس، فإن اللوبي المؤيد لإسرائيل في واشنطن ما زال مؤثرًا جداً ويعيش حالة العمى بفعل المعايير المزدوجة، وعلى هذا النحو، ستكون إسرائيل قادرة على خداع كل من واشنطن والرياض دون صعوبات.
سيصبح مثل هذا الخداع أسهل بكثير إذا اقترن بطلب تعهدٍ رسمي من نتنياهو بعدم ضم الضفة الغربية بغية حث السعوديين على توقيع الصفقة، كما يقول فريدمان.
“لا مستوطنات جديدة في الضفة الغربية أو توسع خارج المستوطنات القائمة”، لقد تم استثناء القدس من قبل فريدمان.
وستقوم إسرائيل بعد ذلك بتوسيع حدود بلدية القدس والاستمرار في البناء بشكل غير قانوني، أما بالنسبة لبقية الضفة الغربية المحتلة، فإن فريدمان يوضح أنه ستتم المصادقة على وضعها الحالي فيما يشبه منطقة عزل السود في بانتوستان.
يدعي فريدمان أنه يتعين على نتنياهو أن يكون مستعدًا لتقديم ما يلي: “تعهد رسمي بعدم ضم الضفة الغربية أبدًا”. وعد؟ من نتنياهو؟ حقًا!
“إن ذلك لا يقدم أي تقنين للبؤر الاستيطانية اليهودية الجامحة”، بل هو مجرد صفعة صغيرة على معصم إسرائيل.
كما أن اختزال الحل في اقتراح “يحول بعض الأراضي المأهولة بالفلسطينيين من المنطقة ج في الضفة الغربية (الخاضعة الآن للسيطرة الإسرائيلية الكاملة) إلى المنطقتين أ و ب (الخاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية)، حسبما جاء في اتفاقيات أوسلو”، بعد المحنة التي عاشها الفلسطينيون على مدى عقود، سيكون اقتراحاً استفزازيًا تمامًا، فالفلسطينيون يدركون جيدًا أن أمنهم وحقوقهم لا تساوي شيئًا إذا كانوا يعيشون في المناطق أ أو ب أو ج.
علاوة على ذلك، سيتعين على محمد بن سلمان مراجعة أجندة السياسة الحالية للمملكة العربية السعودية، والتي تتجه شرقاً، حيث تعتزم الرياض الانضمام إلى كتلة دول البريكس وتقديم إمدادات الطاقة للصين مقومة بالرنمينبي.
وهذه النقطة قد تعتبر عامل تغيير محتمل أكثر أهمية بكثير مما سبق، إذ يجب أن يوجه فريدمان نظرته نحو الآثار الضخمة التي يمكن أن تتركها على الدولار كعملة احتياطية للتجارة العالمية، حيث يمكن عاجلاً أم آجلاً أن تصبح هذه القضية قنبلة موقوتة لاستدامة ديون الولايات المتحدة.
إن ما يدعيه فريدمان حول عواقب صفقة سعودية إسرائيلية، أي “السلام بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، وهي الوصي على أقدس مدينتين في الإسلام، مكة والمدينة، وأن ذلك سيفتح الطريق للسلام بين إسرائيل والعالم الإسلامي بأسره”، ربما يتضح أنه مجرد تمني.
إن مثل هذا التطور لا يمكن ولا ينبغي أن يؤخذ على أنه أمر مسلم به، خاصة إذا استمرت إسرائيل مع الإفلات من العقاب في مواصلة إذلال ومضايقة الشعب الفلسطيني.
فريدمان يخدع نفسه أيضًا إذا كان يعتقد أن عدم التوصل إلى صفقة مع المملكة العربية السعودية قد يدفع اليمين المتطرف في إسرائيل للتخلي عن خطته لضم الضفة الغربية وسكانها الفلسطينيين البالغ عددهم 2.9 مليون نسمة.
فإن وزير المالية بتسلئيل سموتريتش ومعاونيه يعلمون جيدًا أن الولايات المتحدة لن تمارس أبدًا أي ضغط حقيقي على إسرائيل لوقف الضم، وسيقومون بعقد الصفقة مع المملكة العربية السعودية وسيعملون أيضاً على المضي قدماً في عمليات الضم المستمرة للضفة الغربية.
أيا كان رئيس الولايات المتحدة في ذلك الوقت سوف ينتج حيلة معنوية جديدة لتضليل وخداع الفلسطينيين مرة أخرى.
عندما كنت سفيراً لدى العراق في العقد الماضي، كان لي الشرف والسعادة أن ألتقي وأتحدث مطولاً مع توماس فريدمان، لكنني بالكاد استطيع التعرف عليه الآن.
كيف يمكنه أن يدعي، كما جاء في مقاله الأخير، أن حل الدولتين هو “حجر الزاوية لدبلوماسية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط”؟
أين كان يعيش وأين كان يتلقى أخباره في ربع القرن الأخير؟ الحقيقة المحزنة هي أن إسرائيل التي اعتاد فريدمان وإدارة بايدن أن يحلموا بها ربما لم تعد موجودة.
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)