بقلم جوين دانيال
ترجمة وتحرير مريم الحمد
ذات مرة، ذهبت إلى مركز في منطقتي المحلية، فوجدت لافتة في الخارج كُتب عليها “المنزل والحديقة”، عبارة أيقظت في ذاكرتي من جديد الصدمة التي حصلت في داخلي حين علمت لأول مرة أن تلك العبارة اللطيفة السلمية هي الاسم الذي أطلقته إسرائيل على العنف والدمار الذي مارسته ضد اللاجئين في جنين قبل أسابيع!
عندما تصفحت الكتاب بعنوان “المنزل والحديقة”، رأيت صوراً من مجلات لامعة تعلن عن منازل ريفية جميلة أو عن ديكورات لتصميمات الحدائق الداخلية، فكيف يمكن لهذا المعنى أن يعبر عن هجوم عسكري ينطوي على تدمير كل ما كان سكان المخيم من اللاجئين قادرين على خلقه لأنفسهم من معاني الجمال والسلام إلا في خيال مشوه؟!
وإذا ما تجاوزنا جانب النقص المتعلق بالحدائق داخل جنين المكتظة، فهل يمكن أن يشير معنى “المنزل” في العملية إلى تحويل غرف نوم الأطفال في المخيم إلى أعشاش للقناصة؟! أو هل يمكن أن يكون اختراق الجدران المتصلة في المنازل المتلاصقة مبرراً لتسهيل تجول القوات المدججة بالسلاح أحد سمات ذلك المنزل الحميم؟!
اللغة المستخدمة في المجتمعات الاستعمارية الاستيطانية من أجل تطهير أعمال الوحشية العنصرية لها باع طويل في التاريخ، عادة ما يبرر المحتل نزع ملكية الآخرين عبر سردية مبنية على وهم الاحتلال الحميد أو المؤقت أو المبرر لأراضي الآخرين
غالباً ما يتم صياغة أسماء الهجمات العسكرية الإسرائيلية المدمرة ضد الفلسطينيين بلغة برئية مدجنة، ففي عام 1948، أطلق على إحدى العمليات في الجليل اسم “ماتاتيه” أي المكنسة، أي أن العملية اكتسحت الفلسطينيين من منازلهم وقراهم لإفساح المجال للتوسع اليهودي، أما الهجمات المتكررة على غزة في الآونة الأخيرة، فقد أطلق عليها اسم “قص العشب”.
آخر الأسماء غرابة كان ما أطلقته إسرائيل على عمليتها في جنين “المنزل والحديقة”، حديقة من ومنزل من؟! في أي منطق يمكن يمكن موازاة ذلك الدمار القبيح بمثل هذه اللغة الناعمة؟ أي تناقض هذا؟ من الواضح أن التركيز على الاسم تضاءل أمام حجم الدمار والعنف الذي لحق بسكان المخيم، فلا تزال العواقب المادية والنفسية الناجمة عن يومين من القصف المكثف مستمرة، ولكن العالم بدأ بالنسيان.
الملفت للنظر أن الاسم الغريب هذا لم يتعرض إلا للقليل من الانتقادات، فقد تكرر كثيراً دون تعليقات حتى من قبل من أدانوا العملية، وربما يعود السبب في ذلك إلى أن العبارات الملطفة المتدفقة من آلة الهسبارا الإسرائيلية أصبحت مألوفة للحد الذي لم تعد تثير فيه الصدمة أو تستدعِ التعليق!
“تفكير مريض”
اللغة مهمة، وأنا أعتقد أن الأمر يحتاج إلى المزيد من التعمق لفهم ما قد تعنيه تلك العبارات فيما يتعلق بالاحتلال العسكري الإسرائيلي لفلسطين، فاللغة المستخدمة في المجتمعات الاستعمارية الاستيطانية من أجل تطهير أعمال الوحشية العنصرية لها باع طويل في التاريخ، عادة ما يبرر المحتل نزع ملكية الآخرين عبر سردية مبنية على وهم الاحتلال الحميد أو المؤقت أو المبرر لأراضي الآخرين.
عبارة “المنزل والحديقة”، بصرف النظر عن الدافع من صياغتها المثيرة للاشمئزاز، فهي ترمز إلى شيء أكثر عمقاً وإثارة للقلق، فهو يؤكد على الإصرار على الوهم القائل بأن المستوطنين عليهم أن يستمروا في العيش في عالم جمالي مريح منفصل عن القبح الوحشي والعنف الذي يمارسه ضد الفلسطينيين
منذ شرعت إسرائيل في مشروعها الاستعماري الاستيطاني، كرست جهداً مكثفاً من أجل تصنيع تلك العبارات الملطفة، حيث يمكن من خلال ما كتبه كل من فرانتز فانون وإدوارد سعيد استنتاج السياق الذي تأتي ضمنه عبارة “المنزل والحديقة”.
كتب فانون يقول أن “مدينة المستوطنين هي مدينة مبنية بقوة، مدينة مشبعة مسترخية، وبطنها ممتلئ دائمًا بالأشياء الجيدة، هي مدينة البيض، والأجانب، أما مدينة المستعمرين، فهي مكان سيئ السمعة، يسكنه الرجال الأشرار، وبلدة من تم استعماره هي مدينة جائعة للخبز واللحم والأحذية، مدينة مقرفصة جاثية على ركبتيها ومترامية الأطراف”، وأضاف أن “العالم الاستعماري عالم مجزأ”، في إشارة ليس فقط إلى الجيوب المجزأة المفروضة على من تم استعمارهم، بل إلى التفكير المجزأ لدى المستعمرين وأولئك الذين يدعمونهم.
في ظل هذا، يعد استخدام عبارة مثل “المنزل والحديقة” منطقياً، خاصة مع فهم أن هذا التفكير المريض هو لب المنطق الاستعماري الاستيطاني الصهيوني.
إنكار الواقع!
ينعكس ذلك في التصريحات اللطيفة أو المخادعة التي لا تعد ولا تُحصى من قبل القادة الغربيين مثل أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، التي أشادت بإسرائيل في ذكرى تأسيسها الـ 75 هذا العام، لأنها “جعلت الصحراء تزهر” ولم تذكر الاحتلال ولا الفلسطينيين!
“المدينة المبنية بقوة” هي بالطبع وهم، لأن “قوتها” تكمن في الواقع المرفوض المتمثل في أنها مبنية على أرض مسروقة واحتلال غير شرعي، وبالتالي، فإن الخوف دائماً موجود من عودة السكان الأصليين لاستعادة أراضيهم والانتقام من أولئك الذين جردوهم من ممتلكاتهم.
ما بالك إذا كان هذا الواقع المرفوض يتطفل على حياة الفلسطينيين على شكل هجمات من قبل المستوطنين؟! سوف تكون عنيفة وانتقامية بالتأكيد، فمدن المستوطنين لم يتم بناؤها بالقوة فحسب، بل بجهود الأشخاص الذين تم الاستيلاء على أراضيهم بشكل غير قانوني، ومن هنا نرى العلة في العنف والاستغلال القاسي الذي يكمن وراء إنشاء المنازل والحدائق في هذه “المدن المبنية بالقوة”.
تجاور الصور الجميلة للمنازل والحدائق مع الموت والدمار الذي لحق بالفلسطينيين، يدل على المعنى الأعمق لقسوة وقبح العمليات التي يمارسها المجتمع الاستعماري الاستيطاني، فلا يمكن للقلاع المميزة أن تبنى إلا بتدمير منازل السكان الأصليين و سرقة حدائقهم!
عن عمد، يحتلون أعلى الأراضي ويجلسون على قمم التلال فوق القرى الفلسطينية، حيث تفوح منازلهم ذات الأسطح الحمراء بأزياء متباهية، وتشهد أشجارهم وأحواض السباحة لديهم على تحويل إمدادات المياه بلا رحمة عن الفلسطينيين، وغالباً ما تكون جوائزهم على شكل أشجار زيتون تم سرقتها من المزارعين الفلسطينيين.
المدينة المبنية بقوة إذن، هي حصن يتظاهر بالحياة الطبيعية، فالتجميل جزء من ذلك الادعاء، فهو لم يكتفِ بسرقته الصريحة للأراضي والموارد، بل يعمل على تدمير وتشويه وتلويث القرى الفلسطينية المحيطة.
تسمية مثيرة للاشمئزاز!
في كتابه “الثقافة والإمبريالية”، يلفت إدوارد سعيد النظر إلى الطريقة التي تتشكل بها الإمبريالية من “ممارسة ونظرية ومواقف مركز حضري مهيمن يحكم منطقة بعيدة ويسيطر عليها”، ويطرح بذلك مثالاً في روايات جين أوستن، حيث العقارات الريفية الجميلة في عالم منفصل عن الاستغلال الوحشي للعبيد وتجارة العبيد التي كان يمولها ملاك تلك العقارات.
في طبيعة الاستعمار الاستيطاني، لا يكون هذا الانفصال واقعاً جغرافياً، لكنها عملية أشبه بالإنكار لذلك الواقع، وإذا قسنا ذلك على المستوطنين الإسرائيليين، فما هو الذي يراه هؤلاء المستوطنون عندما ينظرون إلى منازلهم وحدائقهم أو يمرون عبر طرقاتهم الحصرية؟!
لاشك أنهم في الطريق يرون علامات التدهور على الجانب الآخر، من مسارات ترابية وكتل خرسانية تغلق مناطق للفلسطينيين وشوارع مليئة بالقمامة وحقول جافة ومهملة ومنازل متهالكة، ولا شك أنهم يرون، كما يفعل كل المستعمرين، أن ذلك دليل على دونية ذلك المجتمع باعتباره سبباً أصيلاً وليس نتاجاً لاستغلالهم المباشر!
عبارة “المنزل والحديقة”، بصرف النظر عن الدافع من صياغتها المثيرة للاشمئزاز، فهي ترمز إلى شيء أكثر عمقاً وإثارة للقلق، فهو يؤكد على الإصرار على الوهم القائل بأن المستوطنين عليهم أن يستمروا في العيش في عالم جمالي مريح منفصل عن القبح الوحشي والعنف الذي يمارسه ضد الفلسطينيين.
ولعل أبلغ مثال على ذلك، تصميم جدار الفصل العنصري، بشكل بالكاد يتطفل فيه على مناطق المستوطنين وحدائقهم، في حين يتطفل بكل وقاحة على منازل الفلسطينيين، ويفصل في كثير من الأحيان منازلهم عن حدائقهم وحقولهم التي ورثوها لأجيال!
مقاربة قاسية
لو فكرنا في المنازل، فهي صور الأمان والملاذ من العالم الخارجي ومكان العائلة ورعاية الأطفال، ولو فكرنا في الحدائق، ففيها صور الخضروات والزهور ومعاني الجمال والإنتاجية، إلا أن تجاور هذه الصور الجميلة مع الموت والدمار الذي لحق بالفلسطينيين، يدل على المعنى الأعمق لقسوة وقبح العمليات التي يمارسها المجتمع الاستعماري الاستيطاني، فلا يمكن للقلاع المميزة أن تبنى إلا بتدمير منازل السكان الأصليين و سرقة حدائقهم!
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)