إسرائيل تحوّل غزة إلى متاهة من الحواجز لتكرار نموذج الضفة الغربية

بقلم رويدة عامر

ترجمة وتحرير مريم الحمد

لقد عشنا حالة من القلق والخوف عندما قام الجيش الإسرائيلي باجتياح قطاع غزة براً واحتلال ممر نتساريم الذي يفصل بين شمال غزة وجنوبها، فكنا نتساءل، كيف سنعود إلى تلك المناطق؟ 

قبل الحرب، كان من السهل علينا الذهاب إلى مدينة غزة، فالعالم يصنف غزة إلى شمال وجنوب، أما نحن أهل غزة فنعرف جغرافيتنا جيداً، فالمكان الوحيد الذي يحبه جميع سكانها الفلسطينيين هو مدينة غزة، مركز الأعمال والتسوق والسياحة.

رحلة انتظار طويلة

أنا أعيش في مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، لكن عملي كمدرسة كان في مدينة غزة المصنفة ضمن المنطقة الشمالية، فكنت أذهب إلى هناك يومياً وكانت الرحلة تستغرق 20 دقيقة فقط.

لقد كان انسحاب الجيش الإسرائيلي من ممر نتساريم حلماً بالنسبة لنا جميعاً، ليس فقط للنازحين الذين يتوقون إلى العودة ولكن للجميع في غزة وذلك لأن الحياة لا يمكن أن تستمر دون الوصول إلى مدينة غزة وشمالها.

لقد انتظرت العودة لمدة 15 شهراً متواصلة، وكان والدي يسألني: “هل ستذهبين لتغطية أخبار غزة والمناطق الشمالية عندما ينسحب الجيش؟”،  وكانت إجابتي دائما “نعم”، فقد أراد القدوم معي لرؤية المدينة الجميلة حيث كنا نسترخي ذات يوم في مقاهي الشاطئ.

انتظرنا انسحاب الجيش الإسرائيلي في نهاية يناير الماضي بتوق شديد،  وباعتباري مقيمة في الجنوب، كنت أعلم أنني لا أستطيع البقاء في الشمال وسوف أحتاج إلى العودة إلى دياري. 

بحلول أوائل فبراير، سألت أصدقائي عن حالة الطرق ونقاط التفتيش،  إن كانت مزدحمة وكم من الوقت قد تستغرق الرحلة؟ فاقترح البعض الذهاب عن طريق البحر، حيث لا يوجد أي حاجز، فهي مجرد مسافة قصيرة سيراً على الأقدام، وبعد ذلك يمكنني ركوب عربة تجرها الحيوانات للوصول إلى كورنيش غزة.

أكدوا لي أن الأمر سيكون سريعاً، لكنني ترددت، ومازلت أعاني من إصابة في الظهر وكدمات شديدة، فقد كان المشي يزيد حالتي سوءاً، فقررت الانتظار.

في يوم الأحد التالي، كان لدي عمل في مدينة غزة وكنت بحاجة إلى إعداد قصة فيديو عن فتاة عادت إلى الشمال مع عائلتها، كما كنت أريد تفقد مدرستي، مدرسة راهبات الوردية في تل الهوى، حيث قمت بالتدريس فيها لمدة 5 سنوات.

على الجانب الآخر من الطريق، وقف جنود أمريكيون في أبراج المراقبة مصوبين أسلحتهم نحو الطريق ومحاطين بالحواجز الرملية، ولأول مرة في حياتي، أواجه نقطة تفتيش تمنعني من الوصول إلى مدينتي

لقد افتقدت مختبر العلوم الخاص بي، حيث قضيت الكثير من الوقت خلال ساعات الدراسة، كنت أريد معرفة ما حصل بالمدرسة على أمل ألا تكون قد دمرت مثل الكثير من الأماكن الأخرى خلال حرب 2021.

متاهة لا تنتهي

في ذلك الصباح، أخبرت والدي أننا ذاهبون إلى مدينة غزة، ولكنا كنا قلقين من طول الطريق ونقاط التفتيش، فقبل الحرب، كنت أذهب إلى مدينة غزة في أي وقت دون تردد، ولكن الآن فرض الجيش الإسرائيلي علينا واقعاً مؤلماً، لكننا سوف نتغلب عليها.

وجدنا سائق سيارة أجرة، فسألناه: “هل طريق صلاح الدين مزدحم؟ فطمأنني قائلاً: “لا تقلقي، سنصل إلى هناك في أسرع وقت ممكن”،  فتقاسمنا أنا وأبي سيارة الأجرة مع عائلة متجهة شمالاً لزيارة ابنتهم، التي لم تغادر مدينة غزة مطلقاً خلال الحرب. 

بينما كنا نسير على طول طريق صلاح الدين، وصلنا إلى نتساريم، وهناك واجهنا حواجز رملية ضخمة تسد الشارع، مما أجبرنا على السير على الطرق الالتفافية عبر منطقة المغراقة، وهنا شعرت أننا في متاهة، فقام سائقنا بتتبع الآخرين عبر شبكة مربكة من الطرق الالتفافية الوعرة وغير المعبدة، وفي لحظة ما توقفنا، وكانت نحو 30 سيارة مصطفة أمامنا في انتظارنا.

خرجت لمراقبة المنطقة، وكانت نقطة التفتيش في مكان جيد الإضاءة من أمامنا، فشاهدنا الحفر العميقة، التي يصل عمق بعضها إلى 9 أمتار، فقد أصبحت منطقة المغراقة، التي كانت ذات يوم منطقة زراعية مزدهرة، أرضاً قاحلة بلا منازل!

قالت امرأة تركب معنا في سيارة الأجرة: “لقد تحملنا الجيش الإسرائيلي لمدة عام ونصف، كيف يعيش الناس في الضفة الغربية مثل هذا كل يوم؟ لا بد أن معاناتهم هائلة”، فيما ناقش آخرون في السيارة كيف قام الجيش، الذي لا يعرف المناطق الساحلية مثل غزة، بإعادة تشكيل الأرض وتحويلها إلى حواجز رملية عالية، لمحاكاة التضاريس الجبلية في الضفة الغربية.

طرق أصبحت مجهولة

بينما كانت السيارات تتقدم ببطء، لاحظت وجود أفراد قطريين وأمريكيين ومصريين يديرون نقطة التفتيش، فاستقبلنا ضابط مصري وطلب من الشباب النزول من السيارات والسير في طريق منفصل، لكن سُمح لوالدي البالغ من العمر 55 عاماً بالبقاء، ثم تقدمنا ​​للأمام فاستقبلنا ضابط مصري آخر فأعطانا برتقالًا وماءً، وقدم رجل قطري في مكان قريب بيضاً مسلوقاً لبعض الأطفال.

على الجانب الآخر من الطريق، وقف جنود أمريكيون في أبراج المراقبة مصوبين أسلحتهم نحو الطريق ومحاطين بالحواجز الرملية، ولأول مرة في حياتي، أواجه نقطة تفتيش تمنعني من الوصول إلى مدينتي. 

عندما تجاوزنا النقطة، شعرت بالارتياح لأنني أصبحت أخيراً قريبة من مدينة غزة، لكن هذا الارتياح لم يدم طويلاً عندما رأيت الدمار في حي الزيتون على مداخل المدينة.

كنت أعرف هذه الطرق جيداً، ولكن لم أستطع التعرف عليها الآن، فلم يكن من الممكن التعرف عليها، حتى وصلنا إلى المنطقة التي كانت تقع فيها مدرستي ذات يوم.

طلبت من السائق أن يتوقف حتى أتمكن من السير، ومن بعيد رأيت مبنى المدرسة، ولكن الجدار الخارجي كان مدمراً وكانت الجرافات الإسرائيلية قد هدمت ساحة المدرسة، عندما اقتربت، شاهدت الدمار من أضرار القذائف في روضة الأطفال والفصول الدراسية المدفونة في الرمال، وفي الداخل، تناثر الزجاج المكسور على الأرض وتم حرق الغرف.

أمل رغم الألم والتعب

نزلت الدرج ووجدت المختبر مغطى بدخان الصواريخ والغبار، فقد تحطمت النوافذ ، ولكنني شعرت بالارتياح، فقد كان حالها أفضل من حال المكتبة التي احترقت بالكامل، كما كانت الفصول الدراسية سليمة، ولكن تم تدمير ساحة المدرسة والمسرح، اللذان كانا يمتلئان بضحكات الطلاب.

لقد تغير كل شيء حول المدرسة، فلا شيء يبدو كما كان، وأصبحنا مجبرين على قبول الواقع الجديد الذي فرضته علينا إسرائيل!

لم أستطع البقاء في المدرسة لفترة طويلة، فقد كان علي العودة إلى الجنوب، حيث استغرقت الرحلة إلى مدينة غزة ساعتين ونصف الساعة، وخشيت أن أتأخر في طريق العودة.

بعد الانتهاء من عملي الذي جئت لأجله، نظرت حولي إلى حالة الشوارع الرئيسية في المدينة، شارع الرمال والجندي المجهول، فقد كان الدمار كبيراً، ولم تسلم منطقة واحدة لا الجامعات ولا حتى المستشفيات، كل شيء تحول إلى أنقاض.

في شارع الرمال، اشتريت مستلزمات غير متوفرة في الجنوب، ثم أخبرت والدي أن وقت المغادرة قد حان، فمكثنا لمدة 30 دقيقة نبحث عن سيارة متجهة للجنوب.

كانت رحلة العودة مرهقة وكانت الطرق وعرة ومزدحمة بالنازحين العائدين إلى منازلهم، ولأول مرة، شعرت بطول المسافة والإرهاق الذي يكتسي الوجوه، غغزة جريحة تحاول النهوض من جديد، وأنا آمل أن يصبح الطريق مفتوحاً في يوم من الأيام بدون نقطة تفتيش.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة