بقلم جوين دانيال
يوضح الضغط الذي مورس على أحد مستشفيات لندن لإزالة الأعمال الفنية الخاصة بأطفال غزة إلى أي مدى يمكن أن يصل أصدقاء إسرائيل في تبييض انتهاكاتها وكتم الأصوات الفلسطينية.
سيناريوين اثنين يمكن أن يكونا السبب إلا أنهما غير متوافقين، فالأول هو العنف المروع ضد الفلسطينيين ومنازلهم وبلداتهم وقراهم من قبل المستوطنين الإسرائيليين والذي يشغل ممثلوهم الآن مناصب رئيسية في الحكومة الإسرائيلية حيث استخدم المحللون الإسرائيليون كلمات مثل “مذبحة” و “ليلة الكريستال” لوصف القتل والدمار الذي لحق بالفلسطينيين المدنيين وبممتلكاتهم.
أما السيناريو الثاني فيكمن في الضغط الذي مارسته جمعية خيرية بريطانية مؤيدة لإسرائيل بطريقة ما على مستشفى تشيلسي وويستمنستر وتمكنت من خلاله من الضغط لإزالة معرض فني لأطفال من قطاع غزة عن جدران أحد ممرات المستشفى.
قدمت مجموعة “UK lawyers for Israel” شكوى إلى المستشفى “باسم بعض المرضى اليهود الذين قالوا إنهم شعروا بأنهم عرضة للاتهام وأنهم وضعوا موضع الضحية بواسطة هذا العرض”، وعلق مدير المجموعة قائلاً: “يسعدنا إزالة الرسومات واستجابة المستشفى بشكل إيجابي لشكاوى مرضاها”.
ولكن ما الذي يمكن أن يكون سببًا منطقيًا كي يُنظر إلى فن الأطفال الفلسطينيين على أنه تهديد ل”رباطة جأش” قلة من اليهود الداعمين لإسرائيل؟
من وجهة نظري، كلما كان سلوك إسرائيل أكثر تطرفًا وعنفًا، وكلما زادت انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها، كلما كان من الصعب عليها أو على أنصارها العمل لتصوير نفسها للعالم الخارجي على أنها ضحية تحت شعار “الحق في أن تدافع عن نفسها “).
إذا كانت الطريقة المعتادة لاتهام الأفراد أو المؤسسات بمعاداة السامية غير مناسبة تمامًا، فعندئذ يتم استخدام الحجة القائلة بأن اليهود البريطانيين لا ينبغي أن ينزعجوا عند مواجهة عواقب أفعال إسرائيل.
صور المعاناة
من المتفهم تمامًا أن يشعر العديد من اليهود الذين لديهم ارتباطات قوية بإسرائيل بالضيق عندما يواجهون أدلة على جرائمها، لكن من غير المقبول أن تستغل الهيئات الموالية لإسرائيل في المملكة المتحدة هذه التجارب من أجل إغلاق معرض صور عن معاناة الفلسطينيين والجرائم التي يتعرضون لها.
يذكرني قرار إزالة العرض الفني بالعروض التي قدمتها حول العمل مع فريق يعالج الأطفال والأسر المصابين بصدمات نفسية في غزة، وفي كل مناسبة، يتم ترهيبي من أن مثل هذا العمل يمكن أن يكون “مثيرًا للانقسام” أو يؤدي إلى شعور بعض الأشخاص “بعدم الارتياح الشديد” و “التهميش”.
تلقيت مثل هذه الشكاوى في مايو 2021، بعد أقل من أسبوع من مقتل 66 طفلاً وإصابة آلاف آخرين بعد إلقاء القنابل عليهم في غزة.
في ذلك الوقت، وكما هو الحال الآن، كان تضخيم مستوى شعور أنصار إسرائيل بالأذى والإهانة من ذكر جرائمها يفوق أهمية شهادات ضحايا تلك الجرائم نفسها، وهو افتراض يسيء أيضًا لليهود، و يمكن في رأيي أن يُفهم فقط على أنه شكل من أشكال العنصرية.
العنصرية متأصلة في الأنظمة الاستعمارية الاستيطانية لأن الدافع لطرد السكان الأصليين من أراضيهم ينطوي حتمًا على تجريد أولئك الذين طردوا من إنسانيتهم.
ويجمع “منطق الإقصاء”، كما وصفه المؤرخ الأسترالي باتريك وولف، الكثير من القواسم المشتركة مع الممارسات العنصرية السابقة في استراليا والولايات المتحدة وكندا وجنوب إفريقيا.
نزع صفة الطفولة
إن رفض رؤية الأطفال الفلسطينيين كغيرهم من البشر لهم خصوصياتهم وآمالهم ومخاوفهم ورغباتهم في الحياة يجسد مفهوم “نزع صفة الأطفال”، الذي عرفته الأكاديمية الفلسطينية نادرة شلهوب كيفوركيان بالعملية التي ترتكب إسرائيل بواسطتها العنف ضد الطفولة الفلسطينية.
وفي رأيي، يعكس ذلك تماماً وجهة النظر الإسرائيلية القائلة بوجوب الرد على الأطفال الفلسطينيين كما لو أنهم ليسوا أطفالًا على الإطلاق، ولا يستحقون أي تعاطف.
وقالت مجموعة “UK Lawyers for Israel” إنهم “طلبوا إزالة العمل الفني بسبب الدعاية، وليس لكونه من إنجاز أطفال من غزة”.
وأوضحوا أنهم اشتكوا على وجه التحديد بخصوص ملاحظتين: الأولى تتعلق بنص يذكر أن “الصيد باستخدام الشِباك يُعد من أقدم الصناعات في فلسطين، حيث يمتد الخط الساحلي لمسافة 224 كلم من رفح جنوبا إلى رأس الناقورة شمالا”.
وعليه، كتبت المجموعة معترضة بالقول: “وهكذا، فإن وجود إسرائيل قد أهمل تمامًا واعتبرت فلسطين على انها تغطي إسرائيل بأكملها”.
أما الملاحظة الثانية فتتعلق بإظهار صورة على اللوحة المصاحبة للنص تظهر قبة الصخرة بعلم فلسطيني كبير، “مما يعني أن القدس، وعلى وجه الخصوص، ستكون جزءًا من دولة فلسطينية”.
برأيي، فإن هذه الشكوى تتجاهل بشدة الرغبة الحتمية للشباب الفلسطيني، خاصة في قطاع غزة المحاصر، ممن يشهدون تقلص أراضيهم يومًا بعد يوم، لإحياء الذكريات الجماعية للمناظر الطبيعية المحببة لفلسطين التاريخية والإصرار على استمرار وجودهم في القدس.
رؤية الأرض المفقودة
على الرغم من توقع مؤسسي الدولة الصهيونية الأوائل أن ينسى الفلسطينيون تجريدهم من ممتلكاتهم، إلا أن الرؤية الفلسطينية للأرض المفقودة ظلت قوية على مر الأجيال، إنه أمر ينطوي على الرغبة باستعادة الأراضي ماديا وروحيا، كرد حتمي على الاحتلال الاستيطاني.
فالأطفال الفلسطينيون في غزة الذين تعرضوا لست هجمات كبيرة على بيئتهم المكتظة والضعيفة، وشهدوا على الخسائر المروعة في الأرواح والممتلكات لا بد وان يفهم شعورهم جيدا، فمن الضروري إدراك ما يفعله هذا الإيذاء المتعمد بالموت والدمار بالروح والجسد على حدٍ سواء.
أظهرت الأعمال الفنية في تشيلسي، مع استحضارها المؤثر للحياة الفلسطينية، قبح التدمير المادي للمنازل والأماكن العامة في غزة الذي بات يوازي الآن بشاعة محاولات البلطجة هذه لتدمير جزء آخر من الروح.
أخيرًا، نحن بحاجة إلى النظر في الصحة النفسية والجسدية لأطفال غزة وما يمكن فعله للحفاظ عليها، فمن المفارقة العميقة أن يزال العمل الفني من قسم الأطفال بالمستشفى، حيث توفر الرعاية الصحية الممتازة التي لا أمل لأطفال غزة في الوصول إليها.
و يُعتقد أن حوالي 90 في المائة من أطفال غزة يعانون من أعراض الصدمة المستمرة دائمة التنشيط بفعل التواصل المستمر مع العالم الخارجي الذي يشهد الأحداث ويهتم بمعاناة ضحاياها، وهنا بالتحديد تكمن أهمية معرض إبداع أطفال غزة.
لقد أدركت مديرة مدرسة مستشفى تشيلسي وويستمنستر أهمية هذه الروابط عندما اعترفت بتأثير “جمع الأطفال معًا لتبادل تجاربهم في الحياة”، وهي تشكل في حالة أطفال غزة تحديًا دائمًا للهيمنة الإسرائيلية التي تحاول دوما طمس ملامحها داخل فلسطين وخارجها.
وربما يعد الضغط الذي مورس على المستشفى لإزالة الأعمال الفنية لأطفال غزة حدثاً صغيراً عند مقارنته بما يحدث في فلسطين، لكنه يوضح، في نظري، إلى أي مدى قد يصل أصدقاء إسرائيل في تبييض انتهاكاتها وتشويه صورة ضحاياها.
للإطلاع على المادة الأصلية من (هنا)