بقلم طه أوزهان
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
أكد اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية مرة أخرى على افتقار إسرائيل إلى التوجه الاستراتيجي، حيث أثبتت تل أبيب أنها غير قادرة على القيام بدور الشريك في أي إطار للسلام أو الاستقرار أو التعاون، فهي لا تزال غير قادرة على استجواب ماضيها أو مواجهة حاضرها أو تصور مستقبل واضح.
لقد أصبحت إسرائيل عالقة في الفضاء الحدي بين كونها مشروعاً ودولة، بين نظام الفصل العنصري والأمة الديمقراطية، إنها تماماً على الخط الفاصل بين دولة ناشئة وأمة ناضجة، وهي تتأرجح بين النبوءة التاريخية والواقع الحديث، وكذلك في التوازن بين ثنائية التعصب الديني وسيادة القانون.
إنها دولة إثنوقراطية وعنصرية بشكل صريح، ولكن العواصم الغربية تبشر بها باعتبارها “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، إنها تنخرط بفعالية في التطهير العرقي، وفي ذات الوقت تطالب “بحقها في الوجود”، هذه الأزمة في الهوية تغذي حلقة مفرغة حيث ستؤدي هذه العقلية، التي آمنت منذ فترة طويلة أن المقاومة الفلسطينية يمكن قمعها من خلال الاحتلال والمجازر والنفي والإبادة الجماعية والاغتيالات، حتماً إلى تصعيد الصراع.
إن وجود إسرائيل كمشروع في الشرق الأوسط ليس مثيراً للدهشة بحد ذاته، ففي سياق الدول الإقليمية التي خرجت من حطام الحروب العالمية، والتي كانت في حد ذاتها دولاً ناشئة، لم يكن من المستغرب أن تنشئ القوى المنتصرة إسرائيل بالقوة في الشرق الأوسط، لقد كان مسعى صعباً، ولكن تم تحقيقه بدعم ثابت من المنتصرين.
أما ما هو مثير للدهشة حقاً فهو المقاومة الفلسطينية التي استمرت لمدة قرن تقريباً، على الرغم من عدم التكافؤ المهول في القوة العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية.
اختراع جيوسياسي
لقد تزامن ظهور إسرائيل، وهو اختراع جيوسياسي لا مثيل له، مع الانسحاب العثماني من الجبهة السورية الفلسطينية، وفي أعقاب الإرهاب الصهيوني الذي شنته جماعات مثل الأرغون وليحي والهاجاناه والبالماخ والذي أدى إلى تأسيس إسرائيل في عام 1948، حيث مازالت الدولة اليوم محاصرة في عالم من الإرهاب الذي صنعها.
وعندما تظل علاقة أي حركة بالعنف ثابتة في أوقات القوة والضعف، قبل وبعد تحقيقها لأهدافها، فهذا يشير إلى أزمة وجودية عميقة، إذن ماذا تريد إسرائيل؟ أو بالأحرى، إلى ماذا تطمح أن تكون؟ حيث يمكن لمعظم الدول المعترف بها أن تصيغ إجابات متماسكة لمثل هذه الأسئلة، على الأقل من وجهة نظرها الخاصة، لكن أزمة إسرائيل تمنع أي إجابات واضحة، بغض النظر عن تقييمات محاوريها لإجاباتها.
إن الردود على هذا السؤال تستدعي دوماً سرد ما تعارضه إسرائيل، فهي ترفض إنشاء دولة فلسطينية، أو دولة واحدة حيث يكون الفلسطينيون مواطنين متساوين، وتنكر حق الفلسطينيين في الوجود، على الرغم من أغلبيتهم الديموغرافية، كما ترفض أي سلام مع الشعب الفلسطيني، وقد اغتيل آخر رئيس دولة حاول صنع السلام معهم.
لقد تجلى هذا المشهد السريالي في الكونغرس، كنوع من العقاب، في السياسة المضللة التي تنتهجها واشنطن تجاه إسرائيل، وحتى يومنا هذا، تهدف إسرائيل إلى إدامة احتلالها ومذابحها، والتي تضمنها لها وثيقة التأمين الجيوسياسية الأكثر تكلفة في العالم في واشنطن، وهي تعارض أي مبادرة سلام إقليمية أو وقف إطلاق نار، وتقاوم الحلول الشاملة وحتى الخطوات المحددة نحو الحل.
ولا تزال عشرات الدول لا تعترف بإسرائيل، في حين تمتنع دول أخرى كثيرة عن تعميق العلاقات معها، وفي الأشهر الأخيرة، نزل الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم إلى الشوارع للاحتجاج على حرب حربها على غزة.
وبالرغم من ذلك، تتوقع إسرائيل أن يتم التعامل معها كدولة طبيعية، حتى وهي لا تظهر أي اهتمام بكونها دولة ديمقراطية حقيقية، فهي ملتزمة بالاحتلال والفصل العنصري والحكم الاستعماري، وهي تتجاهل القانون الدولي.
وبصفتها دولة تواجه اتهامات بالإبادة الجماعية، فإنها تهدد المحاكم الدولية، كما تفعل الولايات المتحدة، وتصف وكالة الأونروا، وهي وكالة الأمم المتحدة التي تعمل كشريان حياة للفلسطينيين، بأنها منظمة إرهابية.
الحدود المتنازع عليها
إن حدود إسرائيل وعاصمتها متنازع عليها، وإذا ما راقبنا أعضاء الكونغرس الأميركي الذين صفقوا بحماس لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أثناء زيارته الأخيرة، فقد يتساءل المرء ما إذا كانت إسرائيل ممثلة بشكل أفضل في الكنيست أم في واشنطن.
لقد أوضحت الإجراءات المنظمة بدقة في الكونغرس الأميركي للعالم أن إسرائيل لم تعد بحاجة إلى مجموعة ضغط في الولايات المتحدة، فقد شاهد العالم أجمع كيف انحلت مجموعة الضغط الإسرائيلية التي كانت موضوعاً للعديد من الكتب والمقالات ونظريات المؤامرة ليحل محلها ما قد نسميه الكونغرس الإسرائيلي في واشنطن.
وقد أعاد هذا التحول إلى الأذهان إعلان نتنياهو قبل أشهر: “نحن لسنا دولة تابعة للولايات المتحدة”، كما أكد على ضرورة إعادة تعريف الأدوار داخل هذه العلاقة الثنائية إذا لم تعد إسرائيل تابعة للولايات المتحدة.
لقد حظي نتنياهو في واشنطن بمستوى من الاهتمام والتصفيق لم يكن ليحظى به قط في الكنيست، لقد تم رفض خطابه على مستوى العالم باعتباره تكراراً للسياسات الصهيونية، ومحاولة للدفاع عن المجازر المستمرة وإعلاناً وقحاً بأن الإبادة الجماعية للفلسطينيين ستستمر.
في الواقع، لم يكن ما برز خطاب نتنياهو، بل رد فعل الجمهور، حيث وقف أعضاء الكونغرس الأمريكي من كلا الجانبين عشرات المرات للتصفيق لرجل يرتكب إبادة جماعية أمام أعين العالم، وهنا تجسدت سياسة واشنطن المضللة تجاه إسرائيل، كنوع من العقاب، في هذا المشهد السريالي للكونغرس، حيث يدرك أعضاء الكونغرس جيداً أنه إذا فشلوا في إطهار دعمهم المتعصب لإسرائيل فقد يتم طردهم من واشنطن.
وبالتالي، أصبحت وظيفة اللوبي الإسرائيلي في واشنطن زائدة عن الحاجة بعد تحول الكونغرس الأمريكي إلى “الكونغرس الإسرائيلي” وهو ما يعني أن السياسة الأمريكية أصبحت الآن أسيرة للمنطق الذي لخصه الرئيس جو بايدن ذات يوم بقوله: “إذا لم تكن هناك إسرائيل، فسوف يتعين علينا اختراع واحدة”.
معاناة عميقة
بعد عشرة أشهر من المذابح المتواصلة في غزة، فإن إرث إسرائيل الدائم لا ينطوي فقط على المعاناة العميقة للشعب الفلسطيني، بل وأيضاً على التواطؤ المشين من جانب الغرب حيث تواجه المنطقة والعالم مشكلة إسرائيلية كبيرة.
ومن الواضح أن المشروع الصهيوني، المتمثل بمحاولة للسيطرة على أمة أخرى، قد فشل، وعلاوة على ذلك، تحت سيطرة قوة متهورة غير متأكدة من أفعالها المستقبلية، تتكشف أزمة إنسانية حادة، مما يؤدي إلى تفاقم المخاطر الجيوسياسية الإقليمية والعالمية، ومن المؤكد أن اغتيال هنية زاد من خطر الحرب الإقليمية، ولكن من غير المرجح أن تفضل أي من الجهات الفاعلة الإقليمية حرباً تقليدية مع إسرائيل.
حتى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وهو منظمة معقدة ولا مركزية تفتقر إلى الدعم المحلي، نجت بشكل أو بآخر لسنوات، على الرغم من الجهود العالمية ضدها، ومن المؤكد أن المقاومة والقضية الفلسطينية، التي اكتسبت دعماً عالمياً في الأشهر الأخيرة أقوى من أي وقت مضى، ستخلق تحديات أمنية جديدة ومتعددة الأوجه في الأيام المقبلة، وسوف تستلزم هذه الطاقة حتماً قوى إيجابية وسلبية، بما في ذلك ديناميكيات الإرهاب.
إن قصر النظر الجيوسياسي في واشنطن وأوروبا لا يمكن أن يحمي إسرائيل من هذه التهديدات، فقد أدى نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين وانتهاكاتها المستمرة للقانون الدولي إلى إيقاع العواصم الغربية في شبكة من التشابكات الدبلوماسية والاستراتيجية.
ومن شأن الإجماع الناشئ المؤيد لفلسطين في جميع أنحاء العالم أن يعيد تشكيل هذا المشهد الجيوسياسي، مما يؤثر لا على الغرب وحده، بل وأيضاً على الدول الإقليمية والجنوب العالمي، فحتى الصين تشارك بحذر في عملية السلام.
وإذا تم تسخير هذا الزخم بكفاءة وحذر، فقد يخلق فرصاً جديدة لفلسطين، ونظراً لعدم الاستقرار السياسي في واشنطن، فإن الحاجة إلى مبادرة إقليمية تدعمها جهات فاعلة عالمية متنوعة باتت اليوم أكثر أهمية من أي وقت مضى.
قيادة جديدة
إن السيناريو الوحيد الذي يمكن أن يفرض ضغطاً حقيقياً على إسرائيل والولايات المتحدة هو السيناريو الذي يحقق فيه الشعب الفلسطيني الوحدة وينتخب ممثلين سياسيين جدد، وهذا السيناريو سوف يتضمن بشكل حاسم قيام الجهات الفاعلة الإقليمية بتغيير الوضع الراهن في علاقاتها مع إسرائيل.
ومن الأهمية بمكان أن نتقدم إلى مرحلة حيث يمكن أن ينشأ تمثيل وطني فلسطيني جديد تماما من خلال عملية الانتخابات التي يديرها الفلسطينيون، على الرغم من استمرار الاحتلال والحرب..
لا يمكن لأي قوة خارجية أن تنقذ إسرائيل من هذه المشكلة، وفي جوهر الأمر، يرتبط مستقبل إسرائيل ارتباطا لا ينفصم بوجود فلسطين، حيث تواجه الدول الإقليمية الآن خيارها، فإما توجيه الطاقة التي تولدها المرونة الفلسطينية بشكل إيجابي، أو التعامل مع تداعياتها السلبية في مختلف أنحاء المنطقة.
أنهت إسرائيل أي قنوات ذات مغزى بين تل أبيب ومعظم دول العالم، وقد تعلمت أغلب الدول أنه لا يوجد شيء يمكن مناقشته مع إسرائيل التي لا تعاني من مشكلة حماس فحسب، بل لديها مشاكل مع كل الفلسطينيين، ومع المنطقة، ومع القانون الدولي، والآن حان الوقت لكي يتفاوض الفلسطينيون والجهات الفاعلة الإقليمية بشكل مباشر مع واشنطن بشأن مشكلة إسرائيل.
ومن عجيب المفارقات أن حل القضية الفلسطينية وحده قادر على معالجة مشكلة إسرائيل، وفي غياب مثل هذه التسوية، فإن إسرائيل سوف تظل غير راغبة في الاعتراف بحتمية وقف إطلاق النار، ناهيك عن تطبيقها، ومن خلال إدامة سياسات الإبادة الجماعية، فإن إسرائيل تخاطر بتقويض سبب وجودها.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)