بقلم عماد موسى
تقييم سنوي في موقع TasteAtlas، دليل شهير لخيارات المطابخ والمطاعم حول العالم، أعاد إشعال فتيل النقاش حول علاقة السياسة بالطعام، والسرقات الثقافية، تحديداً استيلاء إسرائيل على المطبخ الفلسطيني، فكيف اشتعل الجدل ومن الذي تسبب به؟
أعلن الموقع كعادته مع نهاية كل عام ما يعرف بجائزة أفضل مطابخ حول العالم ضمن قائمة تشتمل على 50 دولة، فجاء في أعلى القائمة المطبخ الإيطالي واليوناني والإسباني فيما جاءت سلوفاكيا في ذيل القائمة، ولكن القائمة لم تسلم من انتقادات كونها “سخيفة” أو أن نتائجها “هراء مطلق” أو أنها “للأشخاص الذين لم يتذوقوا طعاماً من قبل” كما كتب البعض، متهمين الموقع بتغييب الكثير من المطابخ المهمة بشكل واضح أو ربما متعمد.
المطبخ الفلسطيني هو أحد الجوانب الثقافية المهمة التي تتجاوز كونها مسألة الهوية القومية إلى كونها حماية لشعب كامل من الانقراض
في منتصف عام 2022، وتحديداً في يونيو، نشر الموقع قائمة مماثلة انتشرت بدورها وأدت أيضاً لإشعال الجدل، حتى اتهم البعض تصنيفها ب”الفظيع”، فرد الموقع بتغريدة جاء فيها ” كل عام عندما ننشر القائمة، يغضب الكثيرون، حتى المكالمات من السفارات، لقد تعلمنا التعايش مع هذا الانتقاد”، ومع ذلك، فردة الفعل العنيفة بمثابة تذكير بأن تقاليد الطهي ليست مجرد ممارسة ثقافية محايدة، بل يمكنها أن تكون وسيلة لنقل رسائل سياسية وقومية عديدة.
فإذا نظرنا إلى المطبخ الفلسطيني على سبيل المثال، فهو أحد الجوانب الثقافية المهمة التي تتجاوز مسألة الهوية والقومية إلى كونها حماية لشعب كامل من الانقراض، ففي قائمة TasteAtlas، حل المطبخ الفلسطيني في المرتبة الـ 42 ، وخامس دولة ضمن 6 دول من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أي بعد تركيا وإيران وسوريا ولبنان، وتليها تونس.
وفي الوقت الذي احتفى الفلسطينيون فيه بذلك، أعرب عدد من الإسرائيليين واليهود وأنصارهم عن “عدم الرضا” بتلك النتيجة، حيث تركزت شكواهم حول فكرة أنه “لا وجود لدولة فلسطينية”، خاصة وأن إسرائيل غابت عن قائمة الخمسين، وحلت في المرتبة 81، فقد وصفت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية القائمة بمثابة “بيان سياسي يزدري إسرائيل لصالح (فلسطين)” وأضافت “نعم، وضع الموقع اقتباسات مخيفة حول كلمة فلسطين، النقر على الكلمة يأخذك إلى صفحة تتحدث عن الأطباق الإسرائيلية مثل الفلافل والحمص”!
هشاشة ثقافية
يمكننا بسهولة تجاهل ردة فعل الإسرائيليين وغضبهم من القائمة على اعتبار أنه ورقة سياسية، ولكن المدهش أو ربما المثير للسخرية حقاً هو أن الإسرائيليين يعتقدون فعلاً أن الفلافل والحمص طعام إسرائيلي، ذلك أن محاولة إسرائيل الاستيلاء على الثقافة الفلسطينية والعربية واضحة وموثقة، لكن يظل ما يبرزه هذا الغضب الغير مبرر هو سمة فريدة للثقافة اليهودية الإسرائيلية، وهي هشاشتها، في العديد من الجوانب ومن أبرزها عادات الطعام.
انتبهت الحركة الصهيونية مبكراً منذ بدايات القرن العشرين، إلى أن بناء ثقافة للطعام يعكس ثقافة أمة، فكان عليهم أن يخترعوا الأمر بهدف خلق شعور الارتباط بفلسطين وكأنها أرضهم التاريخية، ففي محاولة إثبات أنهم “سكانها الأصليون”، حاول المستوطنون اليهود الأوروبيون تبني الخصائص الثقافية وعادات السكان المحليين في فلسطين.
ثيودور هرتزل مثلاً كان مطلقاً لحيته بطريقة شبيهة بالآشوريين، زاعماً الارتباط بالجذور القديمة للمنطقة وهويتها الثقافية، أما عدد من القادة الإسرائيليين، فقد غيروا أسماءهم البولندية والروسية والألمانية إلى الأسماء العبرية، ديفيد بن غوريون كان بالأصل ديفيد غرون وجولدا مائير بالأصل غولدا مابوفيتش، وبالمثل، قلد المستوطنون اليهود في بداية العشرينات من القرن الماضي، رموز وممارسات الطهي للفلسطينيين، السكان الأصليين، والقائمة تطول، فمن كلمة “صبرا” أي نبات الصبر بالعربي إلى برتقال يافا، وصولاً إلى الفلافل والحمص والطحينة، مأكولات تمثل دورة الإنتاج والحياة والثقافة الفلسطينية.
بطبيعة الحال، استطاع الفلسطيني ترسيخ هويته الوطنية في مجتمع قائم له مطبخه وأمور ثقافية أخرى تتشابك بعمق مع ثقافة المنطقة وتاريخها، وذلك على عكس الأوروبي الصهيوني، الذي اعتمد على أخذ وصفات محلية كما هي حرفياً، لتسهيل بناء “هوية أصلية” لليهود الأوروبيين ذوي الخلفيات الثقافية المتنوعة، والتي لا تملك أي صلة بالمنطقة التي باتت تستوطنها.
كتجربة استعمارية استيطانية، تجاوزت فكرة “التوطين” الصهيونية تبني الثقافة المحلية، بما في ذلك الطعام، إلى الادعاء بأنها ثقافة خاصة بها، ففي كتب الطبخ الصهيونية الأولى منذ ثلاثينيات القرن الماضي، تمت الإشارة إلى الأطباق الفلسطينية على أنها إسرائيلية، وعندما غابت الأدلة، كما هو الحال دائماً، نُسبت الأطباق إلى اليهود الشرقيين الذين وصلوا إلى الدولة الصهيونية من الدول العربية!
لم يتوقف الأمر عند ذلك، ففي محاولة لإضفاء شرعية تاريخية، تم تبرير بعض الادعاءات المتعلقة بالطهي على أنها “عودة” أخرى، ليست فقط إلى ما يسمى بأرض الأجداد أرض إسرائيل بعد ألفي عام في المنفى، ولكن إلى العادات اليهودية التوراتية القديمة التي تبناها العرب الفلسطينيون منذ القرن السادس، فعلى سبيل المثال، قيل أن الحمص كان طبقاً توراتياً قديماً وله جذور في الكلمات التوراتية “هاميتس وهيمتسا”، والذي يقال أيضاً بأنه يشير إلى خليط من الحمص المختمر الذي كان يستخدم كعلف للحيوانات في كنعان القديمة.
خديعة موروث الطهي
السؤال هنا لا ينبغي أن يكون حول سبب عدم وجود إسرائيل ضمن قائمة الخمسين، وإنما إذا ما كان يجب أن تكون إسرائيل في القائمة من الأساس
من المؤكد أن الانتقال من تبني الثقافة المحلية إلى الاستيلاء عليها وادعاء ملكيتها، ما كان ليتم لولا وجود رفض ومقاومة للأمر من جانب الفلسطينيين، أصحاب الثقافة الأصليون، الذين عملت الصهيونية على محوهم جسدياً ورمزياً من الذاكرة الجماعية للدولة اليهودية والأماكن العامة، في حين أصبح الذين قاوموا المحو وبقوا في أرضهم يواجهون التشتت والسيطرة.
لم يعترف الصهاينة بالثقافة الفلسطينية المتجذرة يوماً، أو بأن الصهيونية احتاجت تلك الثقافة لتبني منها كياناً وهوية سياسية منفصلة في فلسطين، لأن ذلك يعني تهديداً للاستحقاق التاريخي المفترض لإسرائيل ويدحض مزاعم “الأصل” التي يتشبثون بها، ديناميكية خلقت مفارقة مؤلمة، سلوك عنصري متعالٍ تجاه الفلسطينيين، وبنفس الوقت تبني ثقافتهم “المتدنية” بما فيها الطعام، فطبق حمص بزيت الزيتون في تل أبيب طبق صهيوني، والشاورما في نيويورك يمكن أن يتم تسويقها على أنها إسرائيلية!
ولذلك السؤال هنا لا ينبغي أن يكون حول سبب عدم وجود إسرائيل ضمن قائمة الخمسين، وإنما إذا ما كان يجب أن تكون إسرائيل في القائمة من الأساس؟!