بقلم ديفيد هيرست
ترجمة وتحرير مريم الحمد
على مدار 76 عاماً، كانت لدى إسرائيل رواية أقوى من أي قبة حديدية لوقاية نفسها من المساءلة الدولية، فحتى بالنسبة لضحايا أسوأ حالات القتل في التاريخ الحديث، فقد كان تقرير المصير اليهود ما بعد المحرقة ضرورة أخلاقية.
انطلاقاً من هذه الخلفية، فقد كانت إسرائيل محصنة فعلياً من نطاق القانون الدولي بمجرد ظهورها، فقد سُمح لها بحدود غير محددة كما سُمح لها بالاحتلال والاستيطان في المناطق التي احتلتها، وسُمح لها بمهاجمة جيرانها بشكل استباقي ومنتظم وباستخدام أسلحة نووية، كل ذلك خارج سيطرة أي سلطة تنظيمية.
يبدو صندوق باندورا كبيراً هذه المرة، فإذا صدرت أوامر اعتقال بحق نتنياهو وغالانت، فإن كل عضو آخر في مجلس الوزراء الحربي الإسرائيلي والآلة العسكرية، وصولاً إلى جندي الاحتياط المتواضع الذي يقوم بتحميل مقاطع الفيديو الملتقطة على هاتفه الخاص يمكن أن يتعرض لنفس الاتهامات
وفي دولتها الجديدة، بات بإمكانها ممارسة التمييز ضد الأقلية غير اليهودية ومع ذلك يتم قبولها في أسرة الدول الديمقراطية، حتى وصل الأمر ليس إلى السماح لها فقط بفرض حصار على غزة وتجويع سكان القطاع لمدة 16 عاماً، بل إن المجتمع الدولي ساعدها في ذلك فعلاً!
الحقيقة أن كل من يرفض عقيدة أن هذه الدولة العنيفة لها الحق في الوجود يواجه النفي السياسي، باعتبار أن إسرائيل هي “قارب نجاة” لليهود الذين يواجهون معاداة السامية في جميع أنحاء العالم.
لمدة 76 عاماً، لقد حصلت إسرائيل حرفياً على رخصة للقتل حتى جاء اليوم الذي أعلن فيه المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية التقدم بطلب إصدار أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، فقد فعل كريم خان ما هو أكثر بكثير من مجرد التقدم بالطلب، حيث دحض الأسطورة القائلة بأن أي زعيم أو مسؤول أو جندي إسرائيلي يقع خارج نطاق القانون الدولي.
فتح صندوق باندورا
كان نتنياهو محقاً في قلقه حول عواقب هذه الأوامر، فقد تم فتح صندوق باندورا بالفعل هذه المرة، حتى وإن كان الأمر ما يزال واقفاً عند طلب أمام قضاة المحكمة الجنائية الدولية.
صحيح أنه كانت هناك مناسبات في الماضي تم فيها رفض مثل هذا الطلب في البداية، كما في حالة زعيم ميليشيا رواندي المطلوب على خلفية جرائم ارتكبت في جمهورية الكونغو الديمقراطية، أو عمر البشير، الرئيس السوداني السابق، إلا أن الدائرة التمهيدية المؤلفة من 3 قضاة يجب أن تدرك أمرين، أولهما أن هناك أسباب معقولة للاعتقاد بأن جريمة واحدة على الأقل تدخل في نطاق اختصاص المحكمة قد تم ارتكابها، وأن اعتقال الأشخاص المذكورين “ضروري” لضمان مثولهم أمام المحكمة.
إضافة للتنمر الذي تعرضت له المحكمة وتهديد الولايات المتحدة لأعضائها بالعقوبات، فإن أمراً ثالثاً غير مكتوب سوف يلوح في أذهان هؤلاء القضاة، وهو الحاجة إلى دعم استقلال المحكمة الجنائية الدولية، لأنهم إذا أذعنوا لهذه الضغوط فإن شرعية المحكمة الجنائية الدولية سوف تنتهي.
يبدو صندوق باندورا كبيراً هذه المرة، فإذا صدرت أوامر اعتقال بحق نتنياهو وغالانت، فإن كل عضو آخر في مجلس الوزراء الحربي الإسرائيلي والآلة العسكرية، وصولاً إلى جندي الاحتياط المتواضع الذي يقوم بتحميل مقاطع الفيديو الملتقطة على هاتفه الخاص يمكن أن يتعرض لنفس الاتهامات.
النقطة الثانية التي يجب أخذها في الاعتبار هي أن الاتهامات تتعلق فقط بما حدث في 7 أكتوبر، حيث استند خان في طلبه إلى تقرير أعدته لجنة من خبراء القانون الدولي، الذين ركزوا على سياسة المجاعة والحصار التي تنتهجها إسرائيل، وتقييد الوسائل اللازمة لبقاء السكان ككل على قيد الحياة، ولم يدرس الخبراء الآثار القانونية المترتبة على القتل الجماعي للمدنيين.
إذا نجح هذا الطلب أو حتى إذا تم رفضه مؤقتاً، فإن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية سوف يعود إلى لحظة قبول فلسطين عضواً في عام 2015، ففي عام 2021، فتحت المحكمة الجنائية الدولية تحقيقاً في مزاعم جرائم حرب مرتكبة في فلسطين المحتلة منذ يونيو 2014.
إذا ما نجح طلب اليوم، فسوف يكون هناك طابور من الطلبات التي سوف تنتظرها المحكمة حول كل ما فعلته إسرائيل في الأراضي المحتلة خلال العقد الماضي.
تاريخ طويل
ما وصل إليه قانون المحكمة الجنائية الدولية اليوم من يد طولى يرجع إلى تاريخ طويل مرير، فلم يكن طلب خان نتيجة عمل منفصل أو في لحظة واحدة، أو عمل رجل واحد كان يعتقد أن أوكرانيا ستكون إرثه الرئيسي بعد أن أصبح المدعي العام في عام 2021.
لطالما كان اختصاص المحكمة الجنائية الدولية على الأراضي المحتلة محل نزاع شديد، ولذلك كان لا بد من التغلب على سلسلة من العقبات قبل أن يصل الأمر إلى مرحلة طلب أمر اعتقال كما حصل، ففي البداية، لم يكن هناك اعتراف بفلسطين كدولة ولذلك لم يُسمح لها بأن تكون جزءاً من المحكمة الجنائية الدولية، تلا ذلك ضغوطاً هائلة شملت التهديد بفرض عقوبات أمريكية على السلطة الفلسطينية، حتى لا تستخدم عضويتها لملاحقة إسرائيل.
بايدن يقول أنه يريد إعادة بناء الدولة الفلسطينية بعد انتهاء هذه الحرب، ولكنه بدلاً من ذلك، غارق في الوحل بشكل كامل مع الإسرائيليين في تفكيك خيار البناء بدلاً من السعي له!!
بعد ذلك، كان على المحكمة الجنائية الدولية أن تناقش ما إذا كانت تتمتع بالولاية القضائية على الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلتين، فقد كان قرار المدعية العامة السابقة، فاتو بنسودة، هو الوحيد الذي سمح بالمضي قدماً في الإجراءات الحالية، مع العلم بأن تلك المناقشة استغرقت 6 سنوات ما بين عامي 2015 و 2021.
لقد كانت الحاجة إلى تدخل المحكمة الجنائية الدولية واضحة للغاية، حيث كانت هناك محاولات قانونية فاشلة لحمل المسؤولين الإسرائيليين على المثول أمام العدالة في الخارج بموجب مبدأ الولاية القضائية العالمية، منها أن رئيس الوزراء السابق، أرييل شارون، ووزير الدفاع السابق، شاؤول موفاز، ووزيرة الخارجية السابقة، تسيبي ليفني، يواجهون احتمال الاعتقال إذا سافروا إلى لندن.
رغم ذلك، دافع رئيس الوزراء البريطاني السابق، جوردون براون، عن ليفني، قائلاً أنه “يعارض تماماً” مذكرة الاعتقال التي أصدرتها محكمة بريطانية بتهمة ارتكاب جرائم حرب، كما اتصل وزير الخارجية السابق، ديفيد ميليباند، هاتفياً بنظيره الإسرائيلي للاعتذار.
في وقت وقت حادثة عام 2009، صرح ميليباند بأن القانون البريطاني الذي يسمح للقضاة بإصدار أوامر اعتقال ضد شخصيات أجنبية “دون أي معرفة مسبقة أو مشورة من المدعي العام” يجب تغييره، وقد كان وأصبحت كل المحاولات الآن بحاجة إلى موافقة مدير النيابة العامة قبل إصدار مذكرة التوقيف!
الولايات المتحدة وعقدها المتشابكة
يشكل رد فعل واشنطن الحالي من توصية المحكمة الجنائية الدولية بإصدار أوامر الاعتقال مؤشراً آخر على ما هو على المحك، حيث تراوح رد الفعل بين التهديدات الصريحة لأعضاء المحكمة ومحاولات وقف تمويل السلطة الفلسطينية إذا استمرت في دعم قضية المحكمة الجنائية الدولية.
من جانبه، أعرب الرئيس الأمريكي، جو بايدن، عن غضبه من أن المحكمة الجنائية الدولية تساوي بين إسرائيل وحماس من خلال السعي إلى إصدار أوامر اعتقال بحق 3 من قادة حماس أيضاً، حيث قال: “واسمحوا لي أن أكون واضحاً، أيا كان ما قد يعنيه هذا المدعي العام، فإنه لا يوجد تساوٍ بين إسرائيل وحماس، سنقف دائماً إلى جانب إسرائيل ضد التهديدات لأمنها”.
لا شك بأنها لحظة فاصلة، تم فيها خرق حصانة إسرائيل وإحراج مؤيديها بشدة، كما أن ذلك يكشف بطريقة غير مسبوقة عن الطبيعة الاستعمارية لمنطق أن العدالة الدولية تنطبق على الآخرين فقط
من جانب آخر، فقد ذهب المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، ماثيو ميلر، إلى أبعد من ذلك باعتباره أن النتيجتين المفضلتين لواشنطن بالنسبة لقادة حماس هما الاغتيال أو المحاكمة أمام محكمة إسرائيلية، ولذلك يجب على الحكومة الإسرائيلية أن تحاسبهم في ساحة المعركة، لأنه “إن لم تكن ساحة معركة فسوف تكون محكمة”.
بهذا السياق، فإن إدارة بايدن المنتهية ولايتها تزيد من العقد المتشابكة على نفسها بنفسها، فإذا ما أقدمت على تهديدها بمعاقبة السلطة الفلسطينية أو سحب الأموال أو تقويض شرعية المحكمة الجنائية الدولية من خلال فرض عقوبات على قضاتها ومدعيها العام، ذلك سيكون بمثابة إطلاق النار على قدمها بنفسها.
لم يسأل بايدن نفسه، أنه إذا ما اتفق مع وزير الخارجية السابق، مايك بومبيو، على أن المحكمة الجنائية الدولية هي “محكمة صورية” وحاول تقويضها، فماذا سيحدث لقرار محاكمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لدى المحكمة الجنائية الدولية باعتباره مجرم حرب بسبب غزو أوكرانيا؟! ماذا سوف يحدث لجميع الأعمال الأخرى التي تراها الولايات المتحدة مهمة للمحكمة الجنائية الدولية؟!
الأهم من ذلك كله، ماذا سيحدث لمحاولات الولايات المتحدة إنشاء سلطة مدنية للسيطرة على غزة بديلة عن حماس في حال قامت واشنطن بوقف تمويل الذراع الأخرى الوحيدة للحكومة الفلسطينية؟!
بايدن يقول أنه يريد إعادة بناء الدولة الفلسطينية بعد انتهاء هذه الحرب، ولكنه بدلاً من ذلك، غارق في الوحل بشكل كامل مع الإسرائيليين في تفكيك خيار البناء بدلاً من السعي له!!
لحظة فاصلة
بالنسبة لحماس، فإن احتمال توجيه الاتهامات إلى قادتها لا يشكل مشكلة كبيرة، فبعد أن رحبت حماس بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية لولايتها القضائية على الأراضي الفلسطينية المحتلة، أدانت قرار المحكمة بطلب إصدار أوامر اعتقال بحق رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية، وزعيم غزة يحيى السنوار، وقائد كتائب القسام محمد الضيف، معتبرة أن المقاومة المسلحة ضد الاحتلال مكفولة بموجب قرارات الأمم المتحدة.
لم تمزق الحرب سمعة إسرائيل الدولية فحسب، بل أيضاً المكانة العالمية لكل أولئك الذين يواصلون دعمها، فبالنسبة لهم، كل العلامات التي تدل على ذلك موجودة ولكنهم يرفضون التسليم بذلك لاعتقادهم أنه ما زال هناك متسع من الوقت
الحقيقة أن حماس مدرجة أصلاً كمنظمة إرهابية في معظم أنحاء العالم الغربي، فلن يتغير الكثير، باستثناء حقيقة أن هنية قد لا يثق في القيام بزيارة إلى مصر في ظل المناخ الحالي.
على أية حال، بغض النظر عن الطريقة التي تنظر بها إلى الأمر، لا شك بأنها لحظة فاصلة، تم فيها خرق حصانة إسرائيل وإحراج مؤيديها بشدة، كما أن ذلك يكشف بطريقة غير مسبوقة عن الطبيعة الاستعمارية لمنطق أن العدالة الدولية تنطبق على الآخرين فقط.
خان نفسه نقل عن زعيم غربي، لم يذكر اسمه، قوله له بأن المحكمة الجنائية الدولية بنيت من أجل “إفريقيا والبلطجية مثل بوتين”، وهذا برأي خان كان إدانة حزينة لمحكمة تم إنشاؤها كإرث لمحاكمات نورمبرغ.
في هذا السياق إذن، فإن منظمة أيباك محقة في تحذيرها لواشنطن بأنه نجاح أوامر المحكمة الجنائية الدولية مع نتنياهو وإسرائيل، يعني أن ذلك قد يطال القوات الأميركية أيضاً، ففي بيان للمنظمة جاء فيه: “إن هذه الإجراءات التي اتخذتها المحكمة تشكل تهديداً خطيراً، فقد يواجه المسؤولون والمواطنون الأمريكيون والإسرائيليون السابقون والحاليون مذكرات اعتقال سرية أو أوامر استدعاء صادرة عن المحكمة والتي تلتزم الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية بتنفيذها”.
لكل هذه الأسباب، هناك حاجة ماسة إلى تحرك المحكمة الجنائية الدولية لوقف الحرب الوحشية التي تدور رحاها الآن.
تمسك أعمى بإسرائيل
تبدو هذه الحرب وكأنها بلا نهاية، فلم يتم وضع خطة ذات مصداقية لمستقبل غزة، كما أنها حرب يُساق فيها مئات الآلاف من الفلسطينيين في غزة مثل الماشية من خيمة إلى أخرى، بينما تواصل إسرائيل قطع جميع المساعدات، وكل هذا يحدث تحت مظلة الإفلات من العقاب!
من الواضح أن بايدن أقدم من أن يدرك مدى الضرر الذي يلحقه ببلاده بتمسكه الأعمى بعادة دعم إسرائيل مدى الحياة.
لقد أدى تحرك المحكمة الجنائية الدولية إلى انقسام الدول التي وضعت حتى الآن ثقلها وراء الهجوم الإسرائيلي المستمر منذ 7 أشهر، وأصبحت المملكة المتحدة معزولة عن أوروبا بسبب إصرارها على أن المحكمة ليس لها اختصاص في فلسطين، وأعربت فرنسا وبلجيكا ودول أخرى عن دعمها لتحقيق المحكمة، وكذلك فعل مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، الذي ذكّر الدول الأطراف في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بضرورة تنفيذ أحكام المحكمة.
أما بالنسبة لبايدن وأمثاله، الذين يجدون صعوبة في الانفصال عن عادة دعم إسرائيل، فقد أصبح لذلك الدعم ثمن، وأصبح يعني إنكار الفصل العنصري وإنكار الإبادة الجماعية وإنكار جرائم الحرب مثل المجاعة الجماعية في صحيفة اتهام طويلة صار من المستحيل الدفاع عنها.
لم تمزق الحرب سمعة إسرائيل الدولية فحسب، بل أيضاً المكانة العالمية لكل أولئك الذين يواصلون دعمها، فبالنسبة لهم، كل العلامات التي تدل على ذلك موجودة ولكنهم يرفضون التسليم بذلك لاعتقادهم أنه ما زال هناك متسع من الوقت.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)