بقلم عبد أبو شحادة
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
تعيش دولة الاحتلال مساراً تشريعياً متسارعاً داخل الكنيست، ازدادت حدّته خلال الإبادة في غزة، ثم اكتسب زخماً جديداً بعد إعلان وقف إطلاق النار.
ورغم أنّ كثيرين يصفون هذه الخطوات بأنها “انقلاب قضائي” أو “انتقال من الديمقراطية إلى السلطوية”، إلا أن هذا الوصف يتجاهل، ورغم تداوله الواسع في الإعلام الغربي، جوهر التحوّل السياسي العميق الذي تشهده منظومة الحكم في دولة الاحتلال.
لم يعد الأمر مجرد تغيير في نظام الحكم، بل تعبير عن توافقٍ مجتمعي أوسع يهدف إلى تفكيك المسألة الفلسطينية برمّتها.
تعتمد حكومة دولة الاحتلال على حالة الضعف التي يمرّ بها النظام السياسي الفلسطيني لتأسيس إطار دستوري جديد يمنح السلطة التنفيذية نفوذاً غير مسبوق عبر إطار يمهّد لفرض الضمّ الكامل في الضفة الغربية، ويعمّق في الوقت ذاته تقويض المكانة المدنية للفلسطينيين داخل الخط الأخضر.
وينطلق من يصرّون على وصف هذه الإجراءات بأنها “تحوّل من ديمقراطية إلى استبداد” من فرضية خاطئة أساساً، وهي أن دولة الاحتلال كانت يوماً ما “ديمقراطية ليبرالية”.
لكن، وحتى عند حصر النقاش داخل الخط الأخضر، حدود وقف إطلاق النار لعام 1949، فإنه يصعب تجاهل البنية التمييزية الراسخة في قوانين دولة الاحتلال الأساسية، والتي تمنح أولوية قانونية مطلقة لليهود حول العالم، بمن فيهم غير المواطنين، على حساب السكان الفلسطينيين الأصليين.
كما يفترض المدافعون عن هذه الرواية أنّ “حُماة الديمقراطية” أي مؤسسات القضاء والإعلام هي مؤسسات محايدة تقف في وجه الظلم، غير أن التاريخ يكشف واقعاً مغايراً تماماً عبر تاريخ متواصل من اللامساواة العميقة المتغلغلة في الثقافة السياسية والقانونية لدولة الاحتلال.
فمنذ ما قبل الإبادة في غزة أو مشاريع الانقلاب القضائي الحالية، لعب الإعلام العبري دوراً مركزياً في التحريض على الفلسطينيين وتطبيع خطاب نزع الإنسانية، وخلال الإبادة، كرّر الإعلام ذاته شعارات صريحة ذات مضمون إبادي دون تردّد.
تشريع الأبارتهايد في القانون الأساسي
لم يكن القضاء بمنأى عن هذا المسار أيضاً، فالمحكمة العليا صدمت مراراً المجتمع المدني الفلسطيني، وبلغ الأمر ذروته عندما صادقت على “قانون القومية” الذي ينص بوضوح على أن: “الحق في ممارسة تقرير المصير القومي في دولة الاحتلال هو حق حصري للشعب اليهودي”.
وينص القانون كذلك على أن “الدولة تعتبر تطوير المستوطنات اليهودية قيمة وطنية، وستعمل على تشجيعها وترسيخها”.
ويُعد هذا القانون، بكل ما يحمله من إقصاء دستوري، بمثابة تشريع أبارتهايد صريح يعترف فقط بـ “الأمة اليهودية” في كامل “أرض دولة الاحتلال”، وهو تعبير يُستخدم في الخطاب السياسي والقانوني للدلالة على كافة المناطق الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط.
وبذلك يؤسّس القانون لشرعنة التمييز في المستقبل، ويُدخل اللامساواة إلى عمق البنية الدستورية.
ولهذا، فإن فهم الصراع الداخلي حول “الإصلاح القضائي” يستدعي العودة إلى الأسس الخاطئة التي بُنيت عليها هذه المقاربة.
فالقوانين التي تُطرح اليوم مهما بدت قمعية ليست “نهاية الديمقراطية”، بل إعادة ترتيب لموازين القوى داخل دولة الاحتلال نفسها.
على وقع الإبادة
يُدرك اليمين في دولة الاحتلال حجم القوة المادية والسياسية التي يحتفظ بها التيار اليساري في قطاعات حيوية مثل الأكاديمية والتكنولوجيا والمال، رغم التفوّق العددي للتيارات اليمينية والدينية في المجتمع.
كما أن شرائح واسعة من قواعد اليمين، خاصة في الأوساط الحريدية تعيش تهميشاً اقتصادياً وخروجاً واسعاً من سوق العمل.
هذه الهوّة العميقة في النفوذ هي ما يدفع الائتلاف الحاكم إلى محاولة فرض مشروعه تشريعياً، معتمداً على التعبئة الشعبوية لتكريس هيمنته، وعلى هذه الأرضية، تسعى الحملة التشريعية الراهنة إلى إعادة تعريف مستقبل الشعب الفلسطيني بأكمله.
ففي الشهر الماضي، تقدّم الكنيست بمقترح قانون لفرض “السيادة” على أجزاء واسعة من الضفة الغربية المحتلة، بمباركة من وزراء الائتلاف والمعارضة على حدّ سواء.
ومنذ تولّيه منصبه، رسّخ وزير المالية بتسلئيل سموتريتش خطوات الضمّ الفعلي ميدانياً، ولم يكن ينقص لتثبيت الضمّ القانوني سوى اعتراض أمريكي مباشر حتى اللحظة.
وفي الوقت ذاته، أقرّ الكنيست بالقراءة الأولى قانوناً يتيح تنفيذ أحكام الإعدام بحقّ الأسرى الفلسطينيين المدانين بقتل يهود، وهو قانون يهدّد مئات الأسرى، ويعكس النزعة العقابية المتوحشة التي تُشرعنها بيئة سياسية منحازة بالكامل ضد الفلسطينيين.
كما يدفع مشرّعو دولة الاحتلال بقانون آخر يحظر عمل وكالة “أونروا” في الضفة الغربية وغزة المحتلتين، رغم الدور الحيوي الذي تؤديه الوكالة في التعليم والخدمات الإنسانية.
ويأتي ذلك في إطار تقويض ممنهج لبقايا الحماية المدنية للفلسطينيين، وبتوافق واضح بين مختلف أطياف الكنيست.
وبالنسبة للفلسطينيين داخل الخط الأخضر، فإن تداعيات هذه الموجة التشريعية لا تقل خطورة، ذلك أن القوانين مثل “بند المعقولية”، الذي يقيّد قدرة الجهاز القضائي على مراجعة قرارات الحكومة، و”بند التجاوز”، الذي يسمح للكنيست بإصدار قوانين تتجاوز القوانين الأساسية، تُشكّل تهديداً مباشراً على ما تبقى من هوامش الحماية القانونية.
نحن نقترب من لحظة يصبح فيها قادة دولة الاحتلال قادرين على تمرير قوانين عنصرية واستبدادية من دون أي رادع فعلي، فالمحكمة العليا التي كانت تتدخل أحياناً لاعتبارات تتعلق بالمظهر الخارجي أو خشية الإحراج الدولي ستفقد أدوارها المتبقية حتى الرمزية منها.
وفي السياق ذاته، يحمل الاقتراح الهادف إلى تجزئة منصب المستشار القضائي للحكومة إلى عدة مناصب أثراً بالغاً على الرقابة القانونية المتعلقة بجرائم الحرب في الأراضي المحتلة.
إذ إن تفكيك هذا المنصب سيُضعف الرقابة المؤسسية على جرائم جيش الاحتلال، ما يفتح الباب على مصراعيه لتعزيز الإفلات من العقاب الذي تتمتع به دولة الاحتلال تاريخياً.
تشريعات بلا كلفة سياسية
ومنذ بداية الإبادة في غزة، بات الإجماع السياسي اليهودي حول القضية الفلسطينية مظلة واسعة شرّعت للمشرّعين التحرّك من دون خشية من أي ارتداد انتخابي.
بل إن القوانين التي تستهدف الفلسطينيين باتت في أحيان كثيرة وسيلة لتعزيز شعبية السياسيين، سواء في اليمين أو ما يُسمّى “الوسط”.
فعندما طرح زعيم المعارضة يائير لابيد فكرة تقييد حق التصويت في دولة الاحتلال بمن خدموا في جيش الاحتلال، كان يخاطب شريحتين في آن واحد، الأولى، اليهود العلمانيون الرافضون لإعفاءات اليهود المتدينين من الخدمة العسكرية، والثانية، التيار القومي الساعي إلى حرمان الفلسطينيين من حقوقهم السياسية بالكامل.
وقد سبق للكنيست أن مرّر قانوناً يتيح سحب الجنسية من الفلسطينيين “المتهمين بارتكاب مخالفات أمنية”، وهو قانون يخالف القانون الدولي لأنه يفتح الباب لجعل الفرد بلا جنسية.
ومؤخراً فقط، صوّت البرلمان بالقراءة الأولى على مشروع يسمح للسلطات بإغلاق وسائل إعلام أجنبية إذا رأت أنها “تضر بالأمن القومي”.
وحتى من دون تشريعات رسمية، فإن مؤسسات دولة الاحتلال مارست سياسات قمعية ضد الفلسطينيين بتأييد شعبي واسع.
فقد كشف تقرير لصحيفة هآرتس أن 96% من قضايا “التحريض” التي فتحتها شرطة الاحتلال خلال السنوات الثلاث الماضية كانت موجهة ضد فلسطينيين داخل الخط الأخضر، في حين تم تجاهل آلاف الدعوات العلنية للإبادة التي صدرت عن يهود إسرائيليين، بما في ذلك تصريحات متلفزة وشعارات في مظاهرات ومحتوى منشور على وسائل التواصل الاجتماعي.
ثقافة سياسية تتوحّش
ولا يمثل هذا الهجوم التشريعي استثناءً، بل هو انعكاس للتحوّل المتسارع في الثقافة السياسية لدولة الاحتلال.
فالنظام السياسي يدرك تماماً أن الفلسطينيين هم من سيتحمّلون الكلفة، بينما ستصل المكوّنات اليهودية المتصارعة في النهاية إلى تسويات داخلية، تُفرَض عادة تحت ضغط المراكز الاقتصادية والنخب اليهودية في الخارج.
لذلك، فإن ما نعيشه اليوم ليس “انقلاباً قضائياً” بالمعنى التقليدي، بل إعادة إنتاج لنظام الحكم في دولة الاحتلال بما ينسجم مع عالم باتت فيه الإبادة وخرق القانون الدولي لا يثيران عواقب سياسية حقيقية.
وبينما تتفاقم آثار الإبادة في غزة، وتتمدد المستوطنات في الضفة الغربية، ويتعمّق القمع داخل الخط الأخضر، يتّضح أن دولة الاحتلال تعيد تشكيل بنيتها القانونية والسياسية بطريقة تجعل القمع جزءاً عضوياً من منظومة الحكم، لا مجرد سياسة طارئة.
إنها دولة تتصالح مع نموذج يجعل الإبادة قابلة للاستمرار سياسياً، ويحوّل القوانين إلى أدوات لضمان تفوق عِرقي دائم.
وفي هذا السياق، يصبح أي حديث عن “حماية الديمقراطية” مجرد خطاب تجميلي لا يعكس حقيقة البنية الاستعمارية الاستيطانية التي تحكم العلاقة بين دولة الاحتلال والشعب الفلسطيني منذ عقود.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)







