إلقاء اللوم على اليمين المتطرف في دولة الاحتلال يُبرئ المجتمع اليهودي من المسؤولية عن الإبادة الجماعية

بقلم محمد المصري

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

مراراً وتكراراً، ألقت النخب السياسية وقادة الرأي في الغرب اللوم على حكومة اليمين المتطرف في دولة الاحتلال الإسرائيلي، متهمة إياها بالمسؤولية عن الفظائع التي تُرتكب في قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة.

ومع أن دولة الاحتلال لطالما حظيت بحصانة واسعة في الغرب، إلا أن بعض الانتقادات بدأت تظهر أخيراً، لكن معظمها يركز بشكل ضيق على الائتلاف اليميني الحاكم الحالي، وعلى رأسه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش. 

في الوقت ذاته، يتجاهل هذا الخطاب السياسي أوسع نطاق السياسة داخل دولة الاحتلال، والتوافق المجتمعي الذي يمكّن هذه الجرائم المستمرة ويدعمها.

هناك أمثلة كثيرة تؤكد ذلك، فطوال الحرب الأخيرة على غزة، انتقد الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن علناً حكومة دولة الاحتلال، موجهًا سهامه صوب نتنياهو وبن غفير وسموتريتش بأسمائهم، كما استهدف المجلس الأوروبي وعدد من رؤساء الدول الأوروبية اليمين المتطرف في دولة الاحتلال.

وفرضت بريطانيا عقوبات على بن غفير وسموتريتش، وأيضاً فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات إضافية على بعض المستوطنين الإسرائيليين “المتطرفين” في الضفة الغربية المحتلة.

وفي الداخل الأمريكي، أبدى عدد متزايد من السياسيين، من بينهم بيرني ساندرز وتشاك شومر، معارضتهم لتحالف نتنياهو.

ولم تقتصر الانتقادات على السياسيين، بل انضم إليها إعلاميون غربيون بارزون، مثل جيك تابر من شبكة CNN الذي وجه نقدًا لاذعًا لـ”الخطاب المتطرف” لليمين في دولة الاحتلال، وهاجم كاتب العمود في صحيفة نيويورك تايمز توماس فريدمان قيادة نتنياهو بشكل صريح، واعترف المذيع بيرس مورغان بأنه أخطأ في الدفاع عن حكومة دولة الاحتلال أمام مزاعم الإبادة الجماعية.

مع ذلك، رغم ما قد يبدو كتحول سياسي وإعلامي مهم، فإن هذا الخطاب يظل في النهاية متنفسًا آمنًا للقلق الغربي، إذ يحول النقاش نحو قادة اليمين المتطرف فقط، في حين يظل الأساس الأيديولوجي والمؤسساتي لسياسات دولة الاحتلال بعيدًا عن المراجعة والمساءلة.

باختصار، يصبح اليمين المتطرف في دولة الاحتلال كغطاء للعنف الإسرائيلي السائد، مما يغسل الأيدي عن باقي النظام السياسي والمجتمعي الذي يغذي ويشرعن هذه الجرائم

تأييد واسع للإبادة الجماعية في دولة الاحتلال

ما يغيب عن هذا الخطاب الضيق، أن سياسات الإبادة الجماعية والفصل العنصري التي تنتهجها دولة الاحتلال ليست نتاج فصيل واحد فقط، بل تحظى هذه السياسات بتأييد واسع عبر الطيف السياسي داخل دولة الاحتلال.

فإن أحزاب المعارضة الإسرائيلية، على سبيل المثال، أيدت إلى حد كبير التهجير القسري والقتل الجماعي والتجويع المتعمد للفلسطينيين في غزة، ويقدم زعيم المعارضة، يائير لابيد، مثالاً واضحاً: على الرغم من معارضته لنتنياهو، فقد عمل على الترويج للروايات الأساسية التي تقدمها حكومة دولة الاحتلال في المحافل الدولية.

في مقابلة حديثة مع الصحفي المصري عماد أديب، قال لابيد إن الفلسطينيين يتضورون جوعًا في غزة لأن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) تسرق المساعدات الإنسانية، وإن الضحايا المدنيين هم بالدرجة الأولى نتيجة استخدام حماس لهم كـ”دروع بشرية“.

كما تؤيد المعارضة الإسرائيلية الحصار المفروض على غزة منذ فترة طويلة، وبرنامج الاستيطان غير القانوني في الضفة الغربية المحتلة. 

ولم تقدم هذه الأحزاب أي بديل ذي مغزى، بل سمحت للعديد من الأعمال الإجرامية التي ارتكبتها حكومة دولة الاحتلال، بل وشجعتها، وعندما تسنّت الفرصة لحكومات إسرائيلية ليبرالية أو وسطية للحكم، فقد أيدت باستمرار السياسات الأساسية للاحتلال.

ولا يقل دور المجتمع الإسرائيلي، ولا سيما المجتمع اليهودي داخل دولة الاحتلال، أهمية في دعم هذه السياسات الإجرامية وإضفاء الشرعية عليها.

 فقد أظهر استطلاع أجرته مؤسسة “بيو” للأبحاث بعد أكثر من خمسة أشهر على اندلاع الحرب على غزة، حين تجاوز عدد القتلى الفلسطينيين 30 ألفًا، وازداد الحديث عن ارتكاب دولة الاحتلال إبادة جماعية، أن 4% فقط من اليهود الإسرائيليين يعتقدون أن دولة الاحتلال ”تجاوزت الحدود“ في عملياتها العسكرية.

وتُظهر استطلاعات رأي أحدث صورة أكثر قتامة، حيث كشف استطلاع أجرته جامعة بنسلفانيا وشركة “Geocartography Knowledge Group” الإسرائيلية في مارس الماضي أن 65% من اليهود الإسرائيليين يؤمنون بوجود تجسيد معاصر للـ “عماليق”، في إشارة إلى الشعب الذي أمرت التوراة بإبادته، كما أيد 82% منهم طرد الفلسطينيين من غزة، و 47% أيدوا صراحة قتل جميع سكان غزة.

وفي استطلاع أجرته الجامعة العبرية مؤخرًا، اعتقد 64% من اليهود الإسرائيليين أنه لا وجود لأبرياء في غزة، وفي استطلاع جديد أجراه مركز فيتيربي للرأي العام وبحوث السياسات التابع لمعهد الديمقراطية الإسرائيلي هذا الأسبوع، وجد أن 79% من اليهود الإسرائيليين “ليسوا قلقين أو غير قلقين على الإطلاق” إزاء تقارير المجاعة التي تعصف بغزة.

هذه الأرقام تظهر بوضوح أن الآراء المتطرفة ليست حكراً على فاعلين سياسيين هامشيين، بل هي منتشرة على نطاق واسع في المجتمع الإسرائيلي.

رغم وجود عدد قليل من الاحتجاجات المناهضة للحرب داخل دولة الاحتلال – والتي لا تجتذب عادة سوى بضع مئات من المشاركين – تظل هذه الفعاليات هامشية، خاصة أمام بيانات استطلاعات الرأي التي تؤكد تأييد غالبية اليهود الإسرائيليين للحرب ورفضهم إلحاق الأذى بالمدنيين الفلسطينيين.

ولم يختلف الخطاب العام في دولة الاحتلال عن هذا التطبيع المقلق للعنف، ففي الأشهر الأخيرة، روج مستخدمو تطبيق “تيك توك” في دولة الاحتلال لعدد من المقاطع التي انتشرت على نطاق واسع، تسخر من معاناة الأطفال الفلسطينيين، ومن صحفي أجنبي تعرض للقصف، وظهر هذا النوع من المحتوى بعد أن تعرض جنود الاحتلال لانتقادات بسبب نشر مقاطع تسخر من الضحايا الفلسطينيين على وسائل التواصل الاجتماعي.

في هذا السياق، لا يبدو وصف الباحث نورمان فينكلشتاين لدولة الاحتلال بأنها ”مجتمع مجنون“، أو وصف الأكاديمي الإسرائيلي مناحيم كلاين لها بأنها ”مجتمع إبادة جماعية“، مبالغاً فيه، فالأدلة – سواء الكمية أو الثقافية – تشير إلى وجود مجتمع لا مبالٍ بالموت الجماعي، وملتزم بالقضاء على الفلسطينيين.

لماذا يخطئ الخطاب الغربي في تشخيص المشكلة؟

يخطئ الخطاب الغربي الذي يركز لومه على نتنياهو وحلفائه من اليمين المتطرف في تشخيص طبيعة المشكلة، فالقضية ليست مجرد قصة قيادة متطرفة انحرفت عن مسارها، بل هي انعكاس لإيديولوجية وممارسات راسخة منذ زمن طويل، تتجذر في التفوق العرقي، والاستعمار الاستيطاني، والعسكرة المستمرة.

التركيز الضيق على اليمين المتطرف يخفي الطبيعة النظامية للعنف الإسرائيلي، ويبرئ بقية المجتمع الإسرائيلي من المسؤولية، بل ويشجع على الوهم بأن استبدال القيادة يعني بالضرورة تغييراً حقيقياً في السياسات والممارسات، لكن الحقيقة أعمق وأشد تعقيدًا من ذلك بكثير.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة