بقلم رجا عبد الحق
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
منذ بداية عدوانها على غزة، ركّزت قيادة الاحتلال برئاسة بنيامين نتنياهو سرديتها الحربية على ثلاثة “متطلبات أساسية للسلام” هي تدمير حماس، ونزع سلاح غزة، وتفكيك المجتمع الفلسطيني.
وكلما حدد نتنياهو هذه المتطلبات، استلهم من آثار الحرب العالمية الثانية نموذجًا له، وقد تبنى صراحةً الإطار الذي فرضته قوات الحلفاء على ألمانيا: نزع النازية، ونزع السلاح، وإعادة بناء الاقتصاد بعد الاستسلام غير المشروط.
يخدم هذا التأطير غرضًا مقصودًا يتمثل في تمويه الإبادة الجماعية للسكان الفلسطينيين الأصليين على أنها حرب دولية ضد “الإرهاب”.
وبمساواة مقاومة الاحتلال الأجنبي بفظائع الدولة النازية، تسعى دولة الاحتلال إلى توفير ذريعة استعمارية لهدفها الحقيقي في غزة والمتمثل في القضاء على الهوية السياسية الفلسطينية وتطلعات الفلسطينيين للتحرر الوطني.
وتسعى المقارنة أيضاً إلى ترقية الأهداف الاستعمارية للاحتلال إلى أولوية دولية، وتوفير غطاء قانوني وأخلاقي للإبادة الجماعية المستمرة من خلال تقديم حماس كنظام لا يمكن إصلاحه مثل الرايخ الثالث.
لكن استحضار الحرب العالمية الثانية لم يقتصر على حرب الدعاية الإسرائيلية، فكما حددت الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى والاتحاد السوفيتي مستقبل ألمانيا في مؤتمر بوتسدام عام 1945، تسعى خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونتنياهو، المكونة من 20 بنداً، الآن إلى إملاء مصير القضية الفلسطينية.
نموذج الحرب
تستند خطة ترامب التي كُشف عنها هذا الأسبوع مباشرةً إلى شروط نتنياهو الأساسية كإطار لمحو ادعاءات الفلسطينيين بالأصلية.
وفي حين كانت ألمانيا النازية دولة معتدية، فإن الفلسطينيين شعب مُستعمَر يُكافح من أجل بقائه المادي والسياسي، وبالتالي، يُمكّن هذا الاقتراح دولة الاحتلال، من تفكيك هويتهم السياسية مع إفلات تام من العقاب.
ففي خطابه أمام الكونغرس الأمريكي في يوليو/تموز 2024، شدد نتنياهو على أهمية نزع السلاح والتطرف لخلق “جيل جديد من الفلسطينيين” لا “يكره اليهود” ويمكنه العيش في “سلام” مع دولة الاحتلال.
واعتبر ألمانيا واليابان ما بعد الحرب نماذج ناجحة لشعوب مهزومة أعيد تشكيلها إلى الاستقرار بعد استسلام غير مشروط، مما أدى إلى “عقود من السلام والازدهار والأمن”.
هذه الفكرة العنصرية المتمثلة في تطوير “سلالة فلسطينية جديدة”، التي استحضرها لأول مرة الجنرال الأمريكي كيث دايتون خلال مشروعه في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين لإعادة هيكلة قوات الأمن في الضفة الغربية.
تكشف عن أهداف الولايات المتحدة والاحتلال الراسخة: محاولة من المستعمر لإقصاء المستعمَرين واستبدالهم والاستيلاء على أرضهم من خلال إجبارهم على قبول تفوق مضطهديهم.
وعلى الرغم من إصرار نتنياهو على تشبيه الفلسطينيين بالنازيين وتصوير غزة كألمانيا ما بعد الحرب، فإن الواقع يظل قائما، وهو أن دولة الاحتلال، باعتبارها مشروعا استعماريا استيطانيا، تعامل الفلسطينيين باعتبارهم سكانا أصليين يجب القضاء عليهم، إما من خلال الإبادة الجماعية أو الإخضاع، لإفساح المجال للدولة الجديدة.
نزع “الحمسنة”
إن “الشروط الأساسية الثلاثة للسلام”، مع أنها تُحاكي برنامج نزع النزعة النازية لأغراض دعائية، إلا أنها تخدم مشروع الاحتلال الاستعماري الاستيطاني المستمر.
إذ يعني نزع النزعة التطرفية هندسة اجتماعية عنيفة للفلسطينيين للتخلي عن مطالبهم بالأرض وحقوقهم في تقرير المصير والسيادة، على خطى السلطة الفلسطينية في تحويلهم إلى مخبرين محليين للمستعمرين.
وعلى عكس الاستعمار الكلاسيكي، الذي يسعى إلى استغلال عمالة السكان الأصليين ومواردهم، فإن الاستعمار الاستيطاني يدمر واقع السكان الأصليين ليحل محله واقع آخر، فدولة الاحتلال لن تشعر “بالأمان” ما لم تُدمر الهوية الوطنية الفلسطينية.
لهذا السبب، لطالما اعتبرت دولة الاحتلال أي ادعاء، ثقافيًا كان أم سياسيًا، للمطالب الفلسطينية تطرفًا يجب اقتلاعه من جذوره.
ويُعمّق “نزع الانتماء الحماسي” هذه الاستراتيجية، مُجبرًا الفلسطينيين على الاستسلام للواقع الذي فرضه المستعمر دون أي مقاومة.
وفي حين أن لغة “الإسلام المتطرف” و”الإرهاب” تُساعد دولة الاحتلال على تبرير جرائمها، فإن “نزع الانتماء الحماسي” يُشير إلى الحاجة إلى تغييرات مجتمعية وثقافية أعمق تتجاوز قمع المقاومة المسلحة.
ويتطلب هذا رفضًا عنيفًا للأصلانية الفلسطينية، التي تُشكل أساس الحق في مقاومة الاحتلال فيزيائياً سعيًا للتحرر.
ومنذ نشأة الحركة الصهيونية، دأب قادتها على استخدام الخطاب الغربي الاستعماري والعنصري والاستشراقي لتبرير اعتبار دولة الاحتلال “معقلًا حضاريًا” في وجه “الهمجية”.
وخلال العامين الماضيين، استخدم القادة الإسرائيليون هذا الخطاب العنصري نفسه ضد الفلسطينيين لحشد الدعم الغربي وتبرير الإبادة الجماعية في غزة.
وفي خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، كرر نتنياهو أن دولته تحمي الغرب من “الإسلام المتطرف”.
هذا الخطاب العنصري والتفوقي ليس عرضيًا، بل هو جزء لا يتجزأ من الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، فالتسلسل الهرمي العرقي ضروري لتبرير استعمار الأرض وإخضاع سكانها الأصليين وإبادتهم.
ودون بلورة النقص الثقافي والأخلاقي المزعوم للفلسطينيين، لا يمكن تبرير التطهير العرقي كخطوة ضرورية نحو إنشاء دولة “متحضرة” مثل دولة الاحتلال.
الاستمرارية الاستعمارية
استُدعيَ التسلسل العرقي الإسرائيلي في قمة ترامب-نتنياهو الأخيرة، التي تعمقت في تفاصيل الاقتراح المكون من عشرين نقطة دون أي تعاطف مع معاناة الفلسطينيين أو اعتراف بتطلعاتهم السياسية.
فقد تحدث كلاهما عن الفلسطينيين كأمور ثانوية في أولويات دولة الاحتلال، وحصرا رغباتهما في سياسات تُركّز على أمنها.
إن العناصر الرئيسية للاقتراح، سواءً كانت سيطرة عسكرية وأمنية دائمة، أو نزع سلاح كامل، أو نزع التطرف الثقافي، أو إدارة مدنية فلسطينية غير ذات سيادة خاضعة لسيطرة القوى الغربية، جميعها مصممة لمحو أي حقوق سياسية للسكان الأصليين.
وفي جوهره، يُمكن اعتبار اقتراح ترامب، المُكوّن من عشرين نقطة، نسخة القرن الحادي والعشرين من وعد بلفور لعام 1917.
لقد كانت كلمات ترامب ونبرته بالكاد تنفصلان عن إشارة آرثر بلفور إلى الفلسطينيين على أنهم “مجتمعات غير يهودية”، ناقلاً إياهم من مقام أصحاب الأرض إلى مجرد أقليات بلا حقوق سياسية أو كرامة إنسانية.
وبتأمله لإعلانه عام 1919، قوّض رجل الدولة البريطاني إرادة الفلسطينيين وحقوقهم بقوله إن الصهيونية، سواءً أكانت “صوابًا أم خطأً، خيرًا أم شرًا”، أهم للإمبراطورية البريطانية من رغبات الشعب الفلسطيني.
ونتيجةً لذلك، شنّت الحركة الصهيونية حملة تطهير عرقي ضد سكان فلسطين الأصليين بهدف إقامة الدولة العبرية عام 1948.
واليوم، تُشبه “رؤية ترامب الجديدة للسلام” تدخلًا استعماريًا غربيًا آخر لإبقاء دولة الاحتلال قوةً إقليميةً مُهيمنةً، بهدف الحفاظ على السيطرة السياسية والاقتصادية الغربية في الشرق الأوسط.
وبالتالي فإن دولة الاحتلال ستواصل أجندتها في القضاء على الفلسطينيين من خلال القتل الجماعي لهم، والحد من قدرتهم على المقاومة، ومحو هويتهم الوطنية وتاريخهم وثقافتهم وحضارتهم وكرامتهم.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)