إنفاق سعودي ضخم على استثمارات عدة في وقت قصير… فإلى متى تستطيع المملكة الاستمرار في هذا النهج المالي؟

إنفاق سعودي ضخم على استثمارات عدة في وقت قصير… فإلى متى تستطيع المملكة الاستمرار في هذا النهج المالي؟

بقلم أندرو هاموند

ترجمة وتحرير مريم الحمد

تحاول السعودية اليوم النهوض مجدداً بمشروعها الاستراتيجي الضخم، مدينة نيوم، المدينة المستقبلية المنحوتة في المنطقة الحدودية الشمالية الغربية للبلاد، وذلك بعد أن بدا أن التمويل والتحديات الأخرى خلال العام الماضي باتت أهم العناصر التي قد تعرض المشروع لخطر التعثر.

مؤخراً، تم طرد نظمي النصر، أحد الموظفين المخضرمين في أرامكو والذي كان مسؤولاً منذ عام 2018، وذلك بعد أشهر من تصدر مشاكل وعثرات مشروع نيوم عناوين الصحف، والتي بدأت بتقارير في مارس الماضي عن أن “ذا لاين”، أحد مشاريع نيوم، وهو مدينة خطية يبلغ طولها 170 كيلومتراً وارتفاعها 500 متر وعرضها 200 متر، سوف يتم افتتاحه في عام 2030 على مسافة أقل من 5 كيلومترات.

ظهرت تقارير أخرى عن وجود بيئة عمل سامة ورواتب ضخمة لكبار المواطنين الأجانب ووفاة المئات إن لم يكن الآلاف من العمال في بناء المشروع، رغم أن العمل لم يتجاوز مرحلة حجر الأساس بعد خاصة  مع انخفاض أسعار النفط.

 هناك دلائل على حساسية الحكومة بسبب قلق الجمهور السعودي من الوجه الأجنبي لنيوم والمشاريع العملاقة الأخرى وطموح الحكومة لإغراق البلاد بالسياح ورجال الأعمال الأجانب، فمؤخراً، تم استبدال الرؤساء التنفيذيين البريطانيين والهنود بسعوديين في شركة روشن للإسكان ومركز الملك عبد الله المالي

كان النصر كبش فداء مناسباً، والآن سوف يكون بديله، رئيس قسم العقارات المحلية في نيوم أيمن المديفر، مكلفاً بإقناع المستثمرين العالميين وخاصة الصينيين الذين حاولت الشركة الأم لشركة نيوم، صندوق الاستثمارات العامة، إقناعهم بأن الخط يمضي قدماً.

ولا يعد “ذا لاين” مشروع نيوم الوحيد، فهناك سلسلة من 12 منتجعاً فخماً على طول خليج العقبة ما زالت في المراحل الأولى من الإنشاء، ويحمل كل منهم أسماء من الخيال العلمي يطلق عليها جميعاً مصطلح “الماجنا”، التي تم تصميمها بواسطة مصممين عالميين.

من أهم تلك المنتجعات جزيرة منتجع تسمى سندالة، التي سوف تبدأ في استقبال السياح العام المقبل، ومدينة صناعية تسمى أوكساجون والتي  تركز على الصناعات العصرية مثل الهيدروجين الأخضر، ومنتجع جبلي يسمى تروجينا، والذي من المقرر أن يستضيف دورة الألعاب الآسيوية الشتوية 2029.

ومع ذلك، يظل مشروع “ذا لاين” هو المشروع المميز لخطة “رؤية 2030” السعودية، والذي يهدف لتحويل ما كان قبل عقد من الزمن مجتمعاً مغلقاً ومحافظاً إلى ملعب للطبقة الجديدة من أسياد التكنولوجيا. وشرائح أخرى من الأثرياء العالميين.

أشبه بمدينة مثالية

بمجرد وصول الأخبار عن الرئيس التنفيذي الجديد بالإنابة لشركة نيوم، كان قادة مشروع “ذا لاين” على خشبة المسرح لحضور منتدى حواري في معرض عقاري في الرياض في 12 نوفمبر الماضي، حيث جاؤوا لبيع ما وصفوه بالمدينة الرائدة التي سوف يبلغ عدد سكانها 9 ملايين نسمة في المستقبل، لكن الأمر بدا وكأنه رؤية بائسة وكأن الحياة فيها مضغوطة في داخل صندوق زجاجي ضخم من عالم يبدو أنه غير صالح للسكن. 

كانت الفكرة الأساسية على غرار مانهاتن، التي تعد واحدة من أقدم المدن المصممة بشكل خطي، وذلك بأخذ الناس على طول كل جانب من منطقة تشبه سنترال بارك وتكديسهم بين جدارين ممدودين يحيطان بمساحة عامة مفتوحة تمتد على طول المدينة.

يذكر أن  فكرة طي مدينة على طول هذا الممر الأخضر تُنسب إلى ولي العهد محمد بن سلمان نفسه، وكان كبار المهندسين المعماريين في العالم، مثل بيتر كوك، سعداء بمواكبة هذه الفكرة. 

يرى المدير التنفيذي لتصميم مشروع ذا لاين، طارق قدومي، أن المدينة سوف تحل مشاكل الحياة العصرية، قائلاً: “لقد شهدنا جميعا حركة المرور والتلوث والعزلة في مدن اليوم، في حين أن المدن كان من المفترض أن تجمع الناس معاً، فكل ما فعلناه الآن هو مجرد الزحف، لذلك عليك التخلص من النموذج القديم والعودة إلى المبادئ الأولى”.

من جانبه، يرى مدير الإستراتيجية الرئيسي للتصميم الحضري في شركة المهندسين المعماريين الأمريكيين جينسلر التي تم تعيينها مؤخرًا، إيان مولكاهي، أن المشروع يعتبر علامة فارقة في الإبداع البشري، قائلاً: “إنه حجم التعاون، فأفضل المهندسين والمصممين ومصممي الحدائق في العالم يجتمعون معاً كمشروع ناسا لمحاولة تحقيق ما لا يمكن تحقيقه تقريباً”.

ويقوم القائمون على المدينة بدراسة النماذج السلوكية البشرية عن كثب وإدخالها في تصميم المبنى الذي يبدو من الخارج كمرآة ضخمة ممدودة للرمال والجبال المحيطة.

ويرى الشريك في شركة “المدينة، مارتن جوست، أن في المشروع  منظور مختلف داخل المدينة، فلا تحجبك المباني ويمكنك النظر للأعلى ويمكنك الرؤية في كل الاتجاهات وهذا يعطي شعوراً بالقشعريرة قليلاً”، وأضاف: “إن الأبعاد الثلاثية للمدينة مذهلة للغاية، لديك مساحة متعددة الطبقات، ومن المثير أن يكون لديك قرى عائمة فوق شوارع البيع بالتجزئة، ولديك منشآت ثقافية تحت المناطق الرياضية، فلك أن تتخيل المشجعين وهم قادمون من مناطق مختلفة”.

كلفة مالية ضخمة

لعل أحد الأسئلة الرئيسية هو من سيعيش هناك في نيوم؟ فقد تم الترويج لنيوم منذ البداية بأن مجتمعها المثالي الجديد مناسب للأجانب، مما يشير إلى أنه سوف يخضع لمجموعة مختلفة من القوانين عن بقية البلاد.

وعلى الجانب الآخر، هناك دلائل على حساسية الحكومة بسبب قلق الجمهور السعودي من الوجه الأجنبي لنيوم والمشاريع العملاقة الأخرى وطموح الحكومة لإغراق البلاد بالسياح ورجال الأعمال الأجانب، فمؤخراً، تم استبدال الرؤساء التنفيذيين البريطانيين والهنود بسعوديين في شركة روشن للإسكان ومركز الملك عبد الله المالي.

وفي تحول مفاجئ، يتم الآن عرض الشقق الفاخرة في منتجع تروجينا الشتوي على السعوديين، حيث يرى مستشار المبيعات السكنية للمنتجع، هاني الحربي، أن “الكثير من السعوديين لديهم منازل ثانية في دبي ولندن وأماكن أخرى، ولكن لدينا الآن شيء يمكننا التباهي به ويمكننا توفيره للسعوديين والعائلات السعودية، فهو منتج بالنسبة لهم”.

تجدر الإشارة إلى أنه في فبراير الماضي، أصدر الملك سلمان مرسوماً يلزم الوزراء بارتداء عباءات سوداء ذات إطار ذهبي في المناسبات الرسمية، كما أمر مرسوم آخر في إبريل الماضي جميع موظفي الحكومة بالالتزام بالعباءات البيضاء التقليدية وغطاء الرأس.

أما بالنسبة للتعامل مع المال وخطر إفلاس البلاد بسبب المصاريف الضخمة، فإن نظرة فاحصة على المعلومات المتاحة من صندوق الاستثمارات العامة تظهر أن الدولة تصرف أموالاً لا تستطيع البلاد تحملها، فقد أظهر البيان المالي لصندوق الاستثمارات العامة لعام 2023 أن تكاليف الموظفين، التي تغطي الرواتب والمزايا، قد ارتفعت بنسبة هائلة بلغت 40% في عام 2023، أي ما قيمته 59.9 مليار ريال يعادل 15.9 مليار دولار أمريكي.

تظل أسعار النفط هي صاحبة الحصة الأكبر في حالة السعودية، فرغم صعوبة احتمالية انهيارها، إلا أنها أثبتت بالفعل أنها مخيبة للآمال بالنسبة للقيادة السعودية حيث يتم تداولها بأقل من 80 دولاراً للبرميل اليوم

ورغم قيام شركة كيه بي إم جي بمراجعة البيان المالي، إلا أنه لم يوضح فيه عدد الموظفين الذين شملهم الرقم، إن كان جميعهم في الشركات التابعة لصندوق الاستثمارات العامة البالغ عددها 168 شركة، أو أن هناك 2553 موظفاً يعملون في مكاتبه العالمية الأربعة؟!

إذا كان الجواب هو الخيار الثاني، فإن ذلك يعني أن متوسط ​​الأجر السنوي يبلغ 6.2 مليون دولار، وهو أمر معقول بالتأكيد بالنسبة لكبار المسؤولين التنفيذيين، إلا أن الفجوة البالغة 212 مليار دولار بين أصول صندوق الاستثمارات العامة والأصول المملوكة يمكن أن تعني ضمناً أن هناك إنفاقاً ضخماً على الأصول الثابتة مثل مباني المكاتب الفخمة في نيويورك ولندن وسنغافورة.

لقد تمكنت السعودية من التحليق والتطور سريعاً في الفترة الماضية بلا شك، ومع بقاء احتياطيات النقد الأجنبي عند حوالي 411 مليار دولار في سبتمبر الماضي، فلا يزال بإمكان الحكومة دعم ربط الريال بالدولار وتجنب عدم الاستقرار الذي قد يجعل السكان يرغبون في أن يكون لهم دور أكبر في الحكومة.

من ناحية أخرى، لا يزال الدين الذي يبلغ 28.3% من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام ضمن نطاق المتوسطات العالمية، ولا تزال وكالات التصنيف الائتماني الغربية تمنحه أعلى الدرجات، حيث تستمر خطة التنمية البالغة 1.25 تريليون دولار في جعل السعودية مدينة جذابة للممولين والاستشاريين والبنائين والمصممين.

من جانب آخر، يتم التغاضي عن طرق المحاسبة السريعة والفضفاضة لزيادة الديون دون ظهورها في الميزانية العمومية للحكومة، مثل اقتراض أرامكو الأموال لضمان توزيع أرباح ضخمة على المساهمين مثل صندوق الاستثمارات العامة، الذي يمتلك 16% من أسهم الشركة.

وتظل أسعار النفط هي صاحبة الحصة الأكبر في حالة السعودية، فرغم صعوبة احتمالية انهيارها، إلا أنها أثبتت بالفعل أنها مخيبة للآمال بالنسبة للقيادة السعودية حيث يتم تداولها بأقل من 80 دولاراً للبرميل اليوم، وهو أقل بكثير من مبلغ 96 دولاراً والذي تم تحديده من قبل صندوق النقد الدولي كسعر للتعادل.

ويبقى التساؤل، مع الأحداث الكبرى التي تلوح في الأفق، مثل دورة الألعاب الآسيوية الشتوية والمعرض العالمي 2030 في الرياض و كأس العالم لكرة القدم 2034، كيف تتجنب السعودية التدقيق الحقيقي من قبل الداعمين الماليين الأجانب وحلفائها؟ عندها فقط سوف يبدأ الناس بالتساؤل عن سبب فراغ المشاريع وكيف يسد السعوديون ديونهم!

مقالات ذات صلة