بقلم محمد إسلامي وإبراهيم المرعشي
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
أنهى وقف إطلاق النار الهش الذي توسطت فيه الولايات المتحدة تبادلاً للضربات استمر 12 يومًا بين إيران ودولة الاحتلال، حيث أعلن رئيس حكومة الأخيرة بنيامين نتنياهو النصر في واحدة من أقصر الحروب التي شهدها القرن الحادي والعشرين.
إيران من جانبها أعلنت النصر أيضاً، تمامًا كما فعلت في نهاية حربها مع العراق (1980-1988)، وهي أطول حرب تقليدية في القرن العشرين، والتي أعلن الرئيس العراقي وقتها صدام حسين النصر فيها كذلك.
كانت إيران في الحربين هدفًا للهجوم، ووصفت القتال بأنه “حروب مفروضة” وجادلت بأن الحرب شُنّت بـ”ضوء أخضر” من الولايات المتحدة، وفي كلتا الحالتين أيضًا، قرنت إيران إعلان النصر بموقف الصبر الاستراتيجي وهو مبدأ ضبط النفس الذي يهدف إلى استثمار تغيير موازين القوى بمرور الوقت.
وعقب الحرب العراقية الإيرانية، انتظرت طهران تاركةً الوقت والظروف تعمل لمصلحتها، وفي نهاية المطاف، كانت الولايات المتحدة، وليس إيران، هي التي فككت أسلحة الدمار الشامل لصدام حسين خلال حرب الخليج عام 1991، ثم أطاحت به نهائيًا عام 2003.
ومن وجهة نظر طهران، يُطبّق مبدأ الصبر الاستراتيجي نفسه على الحال اليوم، فعلى الرغم من الترحيب الإيراني العلني بوقف إطلاق النار الحالي، إلا أنه يُنظر إليه على نطاق واسع وخاصة في الأوساط السياسية والعسكرية الإيرانية على أنه هدنة تكتيكية وليس سلامًا مستدامًا.
استراحة استراتيجية
فبالنسبة لإيران، يخدم وقف إطلاق النار مع دولة الاحتلال هدفًا استراتيجيًا واضحًا، فخلال هذه الفترة، من المتوقع أن يُعيد المخططون الإيرانيون النظر في مبادئ الردع لديهم، والتي قد تشمل القدرات البحرية غير المتكافئة والعمليات السيبرانية، مع صياغة موقف انتقامي طويل الأمد.
وتماشيًا مع استراتيجيتها الراسخة المتمثلة في الصبر الاستراتيجي، ترى إيران الوقت موردًا لإعادة تقييم وضعها النووي، وتوسيع تحالفاتها، واختبار العزيمة العالمية، أي أن الوقت يمنح طهران متنفسًا حاسمًا لإعادة هيكلة قيادتها وتجديد ترسانتها العسكرية والتخطيط لهجوم دبلوماسي دولي
في يونيو/حزيران 1981، تعرّض الحزب الجمهوري الإسلامي لتفجير، مما أسفر عن مقتل أمينه العام، محمد بهشتي، و74 من كبار مسؤوليه، وفي الشهر نفسه، فقدت إيران أحد أبرز قادتها العسكريين، مصطفى جمران، على خطوط المواجهة مع العراق.
وفي أغسطس/آب 1981، اغتيل الرئيس الإيراني المنتخب حديثًا، محمد علي رجائي، ورئيس الوزراء محمد جواد باهنر، في تفجير استهدف مكتب رئيس الوزراء في طهران نفّذته منظمة مجاهدي خلق (MEK) المسلحة المعارضة للجمهورية الإسلامية والتي تحالفت مع نظام صدام خلال الحرب العراقية الإيرانية.
في ذلك الوقت، زرع القنبلة مسعود كشميري، أحد عناصر منظمة مجاهدي خلق الذي تسلل إلى الحكومة متنكرًا في صورة مسؤول أمني، وقد أسفر الانفجار عن مقتل ثمانية مسؤولين رفيعي المستوى، بمن فيهم الرئيس ورئيس الوزراء وقائد الشرطة الوطنية وكبار المستشارين العسكريين وأعضاء المجلس الأعلى للأمن القومي.
جعلت هذه الخسائر من الهجوم واحداً من أعنف أعمال التخريب الداخلي في السنوات الأولى من الحرب، لكن إيران استطاعت رغم ذلك شن هجوم مضاد أدى إلى إخراج كافة القوات العراقية من الأراضي الإيرانية.
إعادة البناء وإعادة التسليح
في صباح يوم الجمعة، 13 يونيو/حزيران 2025، شنت دولة الاحتلال أوسع عملية عسكرية لها ضد إيران حتى الآن، حيث تجاوزت ضرباتها المنشآت النووية والصاروخية، مستهدفةً كبار القادة العسكريين والعلماء.
وكان من بين الذين اغتيلوا اللواء محمد باقري، وقائد الحرس الثوري الإيراني حسين سلامي، ورئيس القوات الجوية الفضائية أمير علي حاجي زادة، إلى جانب عدد من العلماء النوويين والمسؤولين العسكريين، ومع ذلك، استطاعت إيران شن هجمات صاروخية على دولة الاحتلال، مُتغلبةً بذلك على نظام دفاعها الصاروخي المُعتد به.
ويمكن لإيران الآن تحويل تركيزها نحو إعادة البناء وإعادة التسليح، سيما وأن الحرب قد استنفدت مخزوناتها من الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، وألحقت أضرارًا بالبنية التحتية لإطلاق الصواريخ، والتي استُهدف جزء كبير منها في الموجات الأولى من الضربات الإسرائيلية والأمريكية.
في هذه المرحلة الجديدة من الهدوء، يُتوقع أن تُعطي إيران الأولوية لتجديد ترسانتها الصاروخية وتحديثها، بما في ذلك فئات أحدث مثل صواريخ “فاتح” و”خيبر شكان” الفرط صوتية، مع تعزيز دفاعاتها الجوية تحسبًا لأي هجمات مفاجئة مستقبلية.
ومن أهم الدروس التي استخلصتها إيران من هذه الحرب الأخيرة أن النصر في صراع حديث لا يمكن تحقيقه بدون قوة جوية قادرة ومتطورة.
لقد أظهر اعتماد إيران على الردع الصاروخي والطائرات المسيرة بعض نقاط القوة التكتيكية، إلا أنه كشف أيضًا عن نقطة ضعف حرجة، فهذه الأنظمة وحدها هشة عند مواجهة قدرات الحرب الجوية والإلكترونية المتقدمة.
ولسد هذه الفجوة الاستراتيجية، يُتوقع من إيران الآن أن تسعى بشكل عاجل إلى الحصول على أنظمة الدفاع الجوي الروسية S-400 وطائرات Su-35 المقاتلة، وهي في الوقت نفسه، تُدرس بجدية صفقة الطائرات المقاتلة الصينية، مثل J-10 وJ-20 من الجيل الخامس، والتي أثبتت قدراتها في المواجهة الأخيرة بين الهند وباكستان.
وإلى جانب هذه الطائرات، أقرّ المخططون العسكريون الإيرانيون بعيب كبير آخر وهو عدم وجود أنظمة إنذار مبكر محمولة جواً.
فحتى أكثر أنظمة الدفاع الجوي الأرضية تطوراً تُصبح محدودة الفاعلية للغاية بدون أنظمة الإنذار والتحكم المحمولة جواً (أواكس)، وهي ضرورية للكشف والتنسيق الفوري، وعليه فقد أصبح الحصول على طائرات أواكس من الصين أو روسيا أولوية ملحة في أجندة طهران لتحديث دفاعها.
ما وراء المعركة
تُمهّد إيران الطريق أيضاً لهجوم مضاد قانوني ودبلوماسي، وقد أعلن المسؤولون الإيرانيون بالفعل عن نيتهم تقديم شكوى شاملة إلى محكمة العدل الدولية، مُحمّلين كلاً من دولة الاحتلال والولايات المتحدة مسؤولية بدء حرب غير معلنة وانتهاك السيادة الإيرانية باستهداف منشآت نووية محمية بموجب القانون الدولي.
وإلى أن تصل هذه العملية القانونية إلى مرحلة الاعتراف الرسمي والحكم، أوضحت طهران أنها لن تعود إلى طاولة المفاوضات النووية.
ولا يمثل هذا التحول عن المفاوضات تراجعًا، بل مناورة مدروسة، ففي غضون ذلك، يبقى متغير حاسم آخر مخفيًا عن الأنظار الدولية، حيث وقّع الرئيس الإيراني قانونًا يعلق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية برئاسة مديرها العام رافائيل غروسي، مشيرًا إلى رقابة متحيزة وضغوط سياسية.
وقبل الحرب، ودون علم معظم أجهزة الاستخبارات، أفادت التقارير أن طهران نقلت كميات كبيرة من اليورانيوم المخصب من فوردو ونطنز إلى مواقع آمنة غير معلنة، ولا تزال هذه الاحتياطيات بمنأى عن الضربات الأمريكية والإسرائيلية، حيث لم يبلّغ عن أي إشعاعات في إيران، مما يشير إلى أن المخزون لم يتضرر على الأرجح.
كما يمكن لإيران اختيار عدم الكشف عن مكان وجود مخزونات اليورانيوم هذه، واستخدامها كأداة ردع استراتيجية في المواجهات أو المفاوضات المستقبلية، وفي ضوء كل هذه العوامل، فإن وقف إطلاق النار الحالي ليس حلاً، بل هو فصلٌ في قصةٍ أكبر بكثير لم تُستكمل بعد.
تُؤكد أفعال إيران، أثناء الحرب وبعدها، على مبدأٍ متماسكٍ ومنضبط يتلخص في امتصاص الضربة، والرد بدقةٍ مُدروسة، واستخدام الوقت كأداةٍ للقوة، والصبر الاستراتيجي، بالنسبة لطهران، ليس ضبطًا للنفس بل هو شكلٌ من أشكال الحرب النفسية والسياسية طويلة الأمد.
إن صمود وقف إطلاق النار أو انهياره تحت وطأة التوترات العالقة لن يعتمد فقط على الصواريخ أو المفاوضات، بل على أي جانبٍ يُدرك قيمة الوقت بشكلٍ أفضل.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)