بقلم جوزيف فهيم
ترجمة وتحرير مريم الحمد
منذ 50 سنة من عمر الدراما العربية، لم يتم التطرق إلى “المحرمات” المتعارف عليها، خاصة خلال شهر رمضان عندما تكون نسب المشاهدة في أعلى معدلاتها، حيث يتم الالتفاف على المواضيع الدينية أو الجنسية بشكل كبير، ولكن الأهم البعد عن النقد السياسي للأسرة الحاكمة في العالم العربي بشكل عام، أو بمعنى أدق، لم يُسمح حتى للخيال بالاقتراب من تلك المساحة.
على سبيل المثال، ظلت الأفلام التي تحدثت عن عبد الناصر خجولة في إدانته حتى بعد وفاته بعقود، حتى أنها لا تتطرق لأي انتقاد يُذكر لما سُمي بالمشروع القومي العربي الذي لا شك بأنه مسؤول ولو بشكل جزئي عن نمو الاستبداد في منطقتنا العربية.
يتم التنويه في بداية كل حلقة إلى أن “الأحداث والشخصيات خيالية”، إلا أنه كان واضحاً منذ الحلقات الأولى أن الأسرة الحاكمة المقصودة هي أسرة الأسد
ومن هنا شكل المسلسل التلفزيوني الرمضاني “ابتسم أيها الجنرال” صدمة وصدى مهماً هذا العام، لأنه خرج عن المألوف في الحديث بجرأة عن نموذج لعائلة حاكمة فاسدة تكاد تكون مقاربة لعائلة الأسد التي تحكم سوريا حتى اليوم، يشارك فيه عدد من الفنانين السوريين المعارضين أو المنشقين والذين يعيشون خارج سوريا بين لبنان وتركيا وباريس، تم بثه على قناة العربي وتلفزيون سوريا، وإنتاجه بتمويل قطري.
لو وقفنا عند تأثير المسلسل منذ عرضه مع أول أيام رمضان، فسنجد أن الحلقة الأولى تخطت 2.7 مليون مشاهدة على منصة يوتيوب وحدها، فيما كان متوسط المشاهدات لبقية الحلقات حوالي 1.7 مليون مشاهدة، بإجمالي 50 مليون مشاهدة حتى الآن، ومن جانب آخر، أكثر مسلسل غير مصري تم مشاهدته في رمضان.
لاشك أن المسلسل قد أثار زوبعة وجدلاً، وهذا أمر طبيعي ومفهوم، فعلى الرغم من التنويه في بداية كل حلقة إلى أن “الأحداث والشخصيات خيالية”، إلا أنه كان واضحاً منذ الحلقات الأولى أن الأسرة الحاكمة المقصودة هي أسرة الأسد.
الرئيس “فرات” الذي يقدمه الفنان مكسيم خليل هو بشار الأسد، و”عاصي” الذي قدمه الفنان غطفان غنوم هو مزيج من ماهر ورفعت الأسد، أما “صوفيا” زوجة الرئيس التي تقدمها الفنانة ريم علي فهي أسماء الأسد، و”سامية” التي تقدمها الفنانة سوسن أرشيد هي بشرى الأسد، أما الوالدة التي تقدمها الفنانة عزة البحرة فهي أنيسة مخلوف أرملة حافظ الأسد، و”أنيس الرومي” الذي يقدمه الفنان مازن الناطور هو رامي مخلوف ابن عم بشار الأسد، و”حيدر” الذي يقدمه الفنان عبد الحكيم قطيفان هو علي مملوك المستشار الأمني لبشار الأسد.
الوصول إلى السلطة
إضافة إلى الشخصيات ومقاربتها مع شخصيات حقيقية، فإن الكاتب سامر رضوان غمر القصة بأحداث حقيقية من تاريخ سوريا الحديث، ومن المثير للاهتمام، ما يولده المسلسل من حيرة بين أحداثه التي تتوافق مع من يرى الأسد مجرماً قاسياً مسؤولاً عن مقتل الملايين، ومع عنوانه الذي يبدأ “ابتسم”، فالجنرال بطل المسلسل حطم قدسية الأسرة الحاكمة الحالية لأول مرة في تاريخ السينما والتلفزيون ليس في سوريا فحسب، وإنما في المنطقة العربية ككل.
السؤال الأهم، هل يمكن لهذا المسلسل أن يكون نقطة تحول في تطور الإنتاج التلفزيوني العربي نحو مزيد من الجرأة؟
تبدأ الحلقة الأولى من المسلسل بفرضية جذابة، مفادها أن شخصية الجنرال المتقاعد “وضاح فضل الله” التي يؤديها الفنان أحمد الأحمد، تقوم بتنظيم حفل للطبقة النخبة في البلاد، وسرعان ما تتلاشى أجواء الاحتفال بعدما كشف فضل الله عن إقامته لعلاقات مع معظم النساء الموجودات في القاعة، بما فيهن أخت الرئيس “سامية”، الأمر الذي يفتح الطريق لأبواب الفساد في أحداث المسلسل بعد ذلك، حيث بدا “فضل الله” في المشهد وكأنه يبحث عن التطهير بعد اكتشافه إصابته بسرطان عُضال، ثم يختفي تاركاً الأسرة الحاكمة في حال مهزوزة حتى النخاع!
يختلف “فرات” مع شقيقه قائد الجيش “عاصي” اختلافاً جذرياً في كيفية التعامل مع تداعيات ما قاله “فضل الله”، بين صبر وتحرك مدروس يريده فرات وحل أكثر عنفاً وراديكالية يطالب به عاصي، يساهم في تفاقم ذلك ما تقوم به محطة تلفزيونية في دولة مجاورة وكأنها “لبنان” بفضح حديث فضل الله، فتبدأ ملامح الصراع الدموي على السلطة تتكشف طوال حلقات المسلسل.
تبدأ كل حلقة باقتباس فلسفي من كتاب “الأمير” للكاتب الإيطالي نيكولو مكيافيلي، تقوم الدراما بتفسيره من خلال أحداثها التي تقع ضمن مكائد العائلة، فمن وصول “فرات” إلى السلطة ترجع الأحداث بذكريات الماضي، حين تم اختياره رئيساً بعد وفاة والده، لكن ليس قبل إطلاق النار على رأس جنرال عسكري اعترض على القرار.
يظهر المسلسل ما يمكن تسميته “الحاجة الماسة” إلى تغيير الدستور ليسمح بتوريث السلطة، وهو ما يشبه “التعديلات الدستورية” التي حصلت في سوريا بالفعل عام 2000، والتي خفضت من الحد الأدنى لسن الرئاسة من 40 إلى 34 عاماً، وهو ما أتاح لبشار الأسد الذي كان يبلغ 34 عاماً آنذاك بالصعود للحكم بعد وفاة والده.
يظهر “فرات” في المسلسل مثل بشار في الواقع، متردداً عديم الخبرة في تولي العرش، ولا يقبل المنصب بسهولة إلا بعد أن تم إقناعه بأن ذلك مهم لحماية العائلة من انتقام أطراف أخرى، أما “عاصي” على الجانب الآخر، فهو مهووس بالسلطة مثلما كان كل من ماهر ورفعت، تتمثل صفاته بالعنف والقسوة والتهور وقلة الذكاء والتفكير.
الأخت “سامية” تظهر كأنها المتمردة في الأسرة، تماماً مثل بشرى الأسد التي كانت تعتبر أكثر أفراد الأسرة تحضراً حتى أنها هربت إلى الإمارات هرباً من حجيم الحرب والاستبداد الذي ينخر عائلتها، وبعد زواجها بفترة، اختفى زوجها، الذي لم يكن على وفاق مع “فرات”، ظنت أنه مات ولكن يتبين لاحقاً أنه كان محتجزاً، الأمر الذي أثار غضبها داخل منزل العائلة.
“بعيد عن الواقع”
يضفي الكاتب سامر رضوان بعض الكرامة على توصيفه المعقد لشخصية “فرات” و”سامية”، ويصورهما على أنهما نتاج لعالم متوحش لا خيار لهما سوى أن يكونا جزءاً منه رغم بشاعته، والنتيجة تصوير عائلة الأسد بالعائلة التي “تخدم مصالحها الذاتية” وسبب وجودها الوحيد هو الحفاظ على الذات من خلال التمسك بالسلطة.
في مواقف عديدة للرئيس “فرات” يظهر على أنه منعزل عن واقع بلاده وشعبه، إلا في مشهد سريالي واحد في النصف الثاني من المسلسل، حين نزل إلى الشارع وتعرض للهجوم من قبل حشد من الموالين، فحاول “عاصي” الإحاطة به، ليدلل المشهد على أن “فرات” يتغذى على وهم من خلال توظيف اندفاع موالين له كالغوغاء كنوع من الدعاية من قبل مساعديه.
بعيداً عن التفاصيل الدرامية الصغيرة التي قد يكون منها ما هو خيالي بالفعل، إلا أن الخطوط العامة تتشابه مع أحداث الواقع بالفعل، منها محاولات “عاصي” لإسقاط “فرات”، كما حاول رفعت الأسد إسقاط حافظ الأسد عام 1984، واغتيال صاحب المحطة التلفزيونية يشبه اغتيال الصحفي اللبناني الفلسطيني سمير قصير الذين كان من أشد المعارضين للنظام السوري عام 2005.
يتجلى في المسلسل إرهاب الدولة من خلال مواقف “فرات” الذي يأمر بسحق المعارضة، وترى حاشيته أن الخسائر في صفوف المدنيين مبرر من أجل الحفاظ على السلطة!
في إحدى الحلقات، يتحول مركز اعتقال بناه رجل الأعمال “أنيس” مكاناً لمجزرة قُتل فيها شهود بدم بارد، محاكاة لمجزرة التضامن التي قُتل فيها 41 مدنياً على يد عناصر من حزب الله والقوات المسلحة السورية عام 2013.
في حلقات أخرى، هناك محاكاة أقل وضوحاً للسياسة العربية الكاذبة بشكل عام، من مراكز التسليم التي اُقيمت للولايات المتحدة من أجل استخدام الجماعات الإسلامية ككبش فداء للعنف الذي تُجيزه الدولة أو تتعامل معه كمعارضة مصطنعة، بالإضافة إلى الإشارة إلى الاتفاقيات السرية مع إسرائيل لترسيخ سلطة الحكام في المنطقة بشكل عام.
من هذا المنطلق، لا يقتصر المسلسل على تصوير واقع عائلة الأسد فقط، لكنه تشريح قاطع لمنطقة يتجانس فيها الحكم الاستبدادي عموماً، حيث يتم تضييع حقوق المواطنين بلا مبالاة من جانب، وتبرير الاتفاقات المشبوهة من قوى أجنبية بحجة الحفاظ على النظام من جانب آخر.
في تركيزه على الصراع الدموي على السلطة، والذي يتورط فيه الجميع بلا استثناء بمن فيهم “سامية”، يؤكد المسلسل على حقيقة سوريا خاصة في الحلقات الأخيرة من القصة، وتتضح خلاصة الواقع على أن النظام في سوريا مليء بالقمع والكساد الاقتصادي وإرهاب الدولة، وذلك من خلال مواقف “فرات” الذي يأمر بسحق المعارضة، وترى حاشيته أن الخسائر في صفوف المدنيين مبرر من أجل الحفاظ على السلطة!
“عمل منشق”
جل من شارك في العمل هم من الفنانين السوريين المعروفين بمعارضتهم للنظام السوري، فالكاتب سامر رضوان انحاز إلى الثورة عام 2011، قبل أن يفر إلى لبنان ويستقر فيما بعد في تركيا، في البداية مرت كتاباته دون عقاب، لكنه اُتهم في النهاية بـ “تقويض سلطة الدولة” و”التآمر على التمرد المسلح”، حتى أنه تعرض للاعتقال عام 2013 قبل تركه للبلد.
أما بطل العمل الرئيسي، الفنان مكسيم خليل، فقد أعلن مبكراً عن انحيازه للثورة، حتى أنه أشار بإيماءة للمعتقلين بمن فيهم رضوان خلال تسلمه لجائزة الموريكس دور في لبنان عام 2013، وأعرب عام 2014 صراحة عن دعمه للمطالب المدنية السلمية بإنهاء حكم البعث، انتقل مع زوجته سوسن ارشيد إلى لبنان ومنها إلى باريس.
تعرض المسلسل والممثلين فيه إلى تنديد من قبل بعض الفنانين الموالين للنظام السوري، مثل باسم ياخور الذي اعتبره “مثيراً للجدل” وأنه “يخرق كل منطق فني لأن الفن لا يجب أن يكون مباشراً في أهدافه” على حد قوله.
أما المخرج السوري محمد عبد العزيز، فوصف المسلسل بأنه “أسوأ دراما تلفزيونية سورية منذ 10 سنوات”، معتبراً القصة “ضعيفة وطفولية و فجة ومباشرة أيديولوجياً” على حد زعمه.
يكفي المسلسل أنه بات يشكل طعنة في خاصرة نظام الأسد الذي بات يدرك الآن أن الطريق إلى الشرعية لم يعد سلساً كما كان في السابق
من جهة أخرى، لا ينبغي أن تخفي الشعبية الهائلة للمسلسل أوجه القصور الملموسة فيه، فالمسلسل طويل جداً، وفيه تكرار يضعف القصة، كما أن الكثير من الأشخاص ذات بُعد واحد فقط، بما في ذلك “فرات” و”عاصي” الذين لا نغوص في أعماق حياتهما الداخلية ما عدا الاهتمام بالعرش، حتى أن “عاصي” يظهر شريراً خالصاً، وتعد “صوفيا” زوجة “فرات” الشخصية الأكثر تعقيداً وميكافيلية في المسلسل من خلال حرصها على المشاركة في الحكم بأي شكل.
تصوير الإعلام الغربي بأنه محكوم من قبل الحكومات بشكل كامل تقريباً بعيد الواقع، بالإضافة إلى أن دور الولايات المتحدة وروسيا في سياق القصة غير مفهوم أيضاً.
رغم الانتقادات، يبقى بريق المسلسل وأهميته، بسبب الظروف التي تم إنتاجه بها، وهو ممول من قبل شركة ميتافورا القطرية الإنتاجية المستقلة، وفي الوقت الذي يبدو مستبعداً فيه أن تهتم شركة MBC السعودية بعرضه، قد تبدي نتفليكس اهتماماً بالاستحواذ عليه، لأسباب تتعلق بالربح والمكاسب المادية.
وفي الوقت الذي تضغط فيه السعودية من أجل التطبيع مع نظام الأسد، يأتي المسلسل كتذكرة ليس فقط بوحشية بيت الأسد، بل بالجرائم التي سوف تتغاضى عنها جامعة الدول العربية نتيجة إعادة النظام السوري إلى الحظيرة العربية.
نجح المسلسل في كسر أول خطوات التابو السياسي في الدراما العربية، ربما لن يكون التغير كبيراً وسريعاً، لكنه قد يشجع المزيد من الكتاب والفنانين على الجرأة في الطرح، ويكفيه أنه بات يشكل طعنة في خاصرة نظام الأسد الذي بات يدرك الآن أن الطريق إلى الشرعية لم يعد سلساً كما كان في السابق.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)