ابن رشد… جسر بين الفلسفة الإسلامية والغربية

ابن رشد… جسر بين الفلسفة الإسلامية والغربية

بقلم ندى عثمان

ابن رشد، العالم والموسيقي الأندلسي المسلم، أنتج أعمالاً في الطب وعلم النفس والفلك والفلسفة، هذا توصيفه العام، ولكن أهم مساهماته التي اشتهر بسببها شرقاً وغرباً بدأت من تعقيبات وإضافات على نظريات الفيلسوف اليوناني أرسطو.

إلى جانب أرسطو الذي كان مصدر إلهام للعديد من العلماء الأوروبيين لاحقاً، ساهم ابن رشد هو الآخر في التأثير في تأسيس المنهج العقلاني عند الأوروبيين، حتى أن بعض الأوروبيين يعتبرون أعماله مقدمة للتنوير الغربي الذي جاء بعده بقرون طبعاً، كما اشتهر ابن رشد في العالم الإسلامي بإنجازاته الدينية خاصة في مجال الفقه، ولم تكتسب أفكاره الفلسفية شعبية واسعة في العالم الإسلامي إلا مع ظهور الحركات الإصلاحية الإسلامية في القرن التاسع عشر.

من هو ابن رشد؟

هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد، ولد ابن رشد عام 1126 في مدينة قرطبة في عائلة من العلماء المسلمين المرموقين، وكان جده أبو الوليد محمد قاضي قضاة قرطبة وإمام جامع قرطبة الكبير، تدرب ابن رشد على الفقه الإسلامي في أول عمره ودرس القرآن والأحاديث النبوية وفق المذهب المالكي، كما درس الفيزياء والطب والرياضيات واللغة.

ما قيل في كتب التاريخ، أن صيت ابن رشد ذاع عام 1169، وذلك بعد أن لفت انتباه أبي يعقوب يوسف، حاكم دولة المرابطين التي كانت تحكم جنوب إسبانيا وشمال غرب إفريقيا، فقد كان يوسف ملكاً فضولياً بقدر قدرة ابن رشد على شرح نظريات الفلاسفة اليونانيين مثل أرسطو، حتى عينه قاضياً لمدينة إشبيلية وبعد ذلك مدينته قرطبة، حتى وصل إلى منصب جده، قاضي القضاة.

ما الذي اشتهر به ابن رشد؟

اشتهر بالفلسفة كما هو معروف، فقد اشتهر في أوروبا بسبب تعقيباته على نظريات وشروحات أرسطو، وكان ابن رشد ملهماً لفلاسفة أوروبيين من بعده، مثل الكاهن والفيلسوف الإيطالي في القرن 13 توماس الأكويني، والذي رغم انتقاده لأعمال ابن رشد إلا أنه استخدم العديد من أفكاره في نهجه الفكري الخاص به.

خلال العصور الوسطى، بدأ الحديث عن دور الأساليب الفلسفية واستخدام العقل في دراسة الدين وتلقي تعاليمه، الأمر الذي صار محل جدل في العالمين الإسلامي والمسيحي، لاعتقاد كل من الكنيسة وعدد من علماء المسلمين أن هذا المنهج العقلي الفلسفي البحت يحد من تأثير الروحانيات في فهم الإيمان، ولذلك كان العديد من أتباع ابن رشد الأوروبيين إن صح التعبير موضع إدانة الكنيسة طوال فترة القرن الثالث عشر، رغم ذلك تم ترجمة كتابات ابن رشد إلى اللاتينية مما زاد من أتباع نهجه الفكري، وصولاً إلى ما يسمى عصر النهضة في أوروبا لاحقاً.

أما في العالم الإسلامي، فقد اشتهر ابن رشد بنزالاته الفكرية مع علماء مسلمين مثل الإمام الغزالي، للدفاع عما كان يراه ضرورة البحث الفلسفي في الخطاب الديني.

ما هي فلسفة ابن رشد؟

يرى ابن رشد أن دراسة الفلسفة واجب قرآني يجب أن يقبل عليه المسلمون، باعتباره نتاجاً للعقل البشري، مكملاً للدين الذي جاء بوحي إلهي، معتبراً أنهما نابعان من المصدر نفسه، فكان التركيز الرئيسي لأعماله هو إظهار توافق الوحي مع الوسائل الفلسفية، فذلك ما يوصل الإنسان إلى الحقيقة، وإن وًجد تناقض بين نص قرآني وحقائق تم التوصل إليها عن طريق الاستنتاج المنطقي مثلاً، فإن المشكلة هنا لا تكمن في النص بل في تفسيره.

اعتقد ابن رشد أن نصوص القرآن مشبعة بمعاني تقف خلف الكثير من الاستعارات والتشبيهات الظاهرية، ولذلك عندما لا يوجد إجماع على تفسير نص قرآني ما، يكون للقارئ الحرية في تفسير تلك المعاني الظاهرية وفقاً لفهمه الخاص، وبما أن الإجماع المطلق أمر شبه مستحيل، لأنه يتطلب معرفة جميع التفسيرات الممكنة للنص، بالتالي فإن مساحة القراءة المجازية للقرآن باتت مفتوحة بطريقة لم تسمح بها التفسيرات الحرفية، فقد كان يرى ابن رشد أنه إذا لم يتعامل الناس مع الدين من منظور نقدي فلسفي، فقد يضيع المعنى الحقيقي والمقصود، مما يؤدي إلى سوء تفسير الوحي الإلهي بنظره.

بذل ابن رشد جهداً كبيراً في فحص المذاهب الدينية، وسلط الضوء على ما اعتبره أخطاء ارتكبتها مذاهب فكرية إسلامية أخرى، مثل الأشعرية والمعتزلة والصوفية وغيرها، فعندما يكون الأمر متعلقاً بالعلاقة مع الله، يكون تفسير ابن رشد الفلسفي منضبطاً بالنظرة الإسلامية التي تنص على أن الكون مهيأ لظهور الحياة ولا يمكن أن يحصل شيء بالكون إلا وفق إرادة الله، فالله هو خالق العالم الطبيعي، والعالم الطبيعي هو مصدر ما يحصل من حولنا، من خلال تفاعلنا معه تحت جناح ملكوت الله.

مساهمات ابن رشد

على الرغم من نقده لابن سينا، إلا أنه بنى على علم ابن سينا والرازي في منجزاته الطبية، فقد قدم وصفاً لأعراض مرض باركنسون، وشرحاً لأسباب السكتة الدماغية، واكتشف وظيفة مستقبلات الضوء في شبكية العين، وكان مهتماً بالأوعية الدماغية وكان من أول من وصف علاجات لأمراض المسالك البولية، كما أنتج موسوعة طبية تسمى “الكليات في الطب” (1153-1169)، والتي تتكون من 9 مجلدات تم ترجمتها بعد ذلك إلى اللاتينية والعبرية، وتم تدريسها في أوروبا في القرن الثامن عشر.

وقد اهتم ابن رشد أيضاً بالموسيقى واللغة، كما كتب في علم النفس كتاب “تلخيص كتاب علم النفس”، الذي قسم فيه الروح إلى 5 ملكات بين التغذية والحساسية والخيالية والشهوانية والعقلانية.

إرث ابن رشد

مهدت أعمال ابن رشد الطريق لفلاسفة أوروبيين، مما ساهم في إحياء فكري واسع بين العلماء الذين يكتبون باللغة اللاتينية، كما خلفت أفكاره الفلسفية اهتماماً متجدداً بتفسير الكتب المقدسة، لا سيما اليهودية، حيث تأثر به الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون.

ظلت كتابات ابن رشد أكثر شعبية في العالم الغربي منها في العالم الإسلامي زمناً طويلاً، حتى لاقت رواجاً في القرن التاسع عشر بعد قرون من وفاته في مراكش عام 1198 عن عمر يناهز 72 عاماً، ولكنه دُفن في مسقط رأسه قرطبة.

لقراءة القصة باللغة الأصلية من المصدر:

https://www.middleeasteye.net/discover/ibn-rushd-islamic-western-philosophy-bridge

مقالات ذات صلة