بقلم ديفيد هيرست
ترجمة وتحرير مريم الحمد
هل كان هناك اتفاق؟ هل كان، كما وصفه البعض في الإدارة الأمريكية، عرضاً مضاداً من حماس؟ هل هناك عرضان مطروحان على الطاولة أم كانت هناك صفقة تراجعت عنها الولايات المتحدة بعد رؤية الرد الإسرائيلي؟
هذا ما يجري خلف الأبواب، بحسب مصادري المقربة من المفاوضات في القاهرة والدوحة، فقد كان مكث وفد حماس في القاهرة لبعض الوقت، حيث كانت هناك ورقة أولية سجلت عليها حماس ملاحظاتها، كما فعل الإسرائيليون، ولكن لم يكن هناك اتفاق، فقد قررت حماس سحب وفدها.
إن ثقة حماس في قدرتها على مواصلة هذه الحرب هي القضية الوحيدة التي لم تستطع حكومة الحرب الإسرائيلية ولا واشنطن معالجتها
أوضحت لي مصادري أن وفد حماس كان في المطار عندما قدمت مصر عرضاً وافقت الحركة على دراسته، كان الوفد في طريقه إلى الدوحة، والتي منها أعلنت حماس بعد ذلك أنها ستعقد اجتماعاً للنظر في العرض المقدم من المصريين والقطريين.
كان مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، بيل بيرنز، مرافقاً لوفد حماس في الرحلة من القاهرة إلى الدوحة، حيث مكث في القاهرة يومين ثم انتقل إلى الدوحة، وكان من المتوقع أن يسافر إلى إسرائيل لكنه أرجأ مغادرته من أجل انتظار رد حماس بعد اجتماع الدوحة.
لقد كان هناك تغييران طفيفان في نص الوثيقة التي أرسلها المصريون إلى وفد حماس في المطار، ومع ذلك لم يتم اعتبارهما حاسمين في التوصل إلى اتفاق.
دور واشنطن
طوال هذه الفترة، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد أصبح متوتراً حول ما سيفعله المصريون والقطريون خاصة مع وجود بيرنز في المدينتين، فسارع بالإعلان عن نية إسرائيل بالمضي قدماً في العملية على رفح بغض النظر عما إذا كان هناك اتفاق بشأن تبادل الرهائن والأسرى.
إضافة إلى ذلك، فقد كان قرار الحكومة الإسرائيلية بإغلاق قناة الجزيرة مؤشراً آخر على رفض إسرائيل، ليس فقط للعرض الأخير، ولكن أيضاً لدور الدوحة كوسيط، ويبقى التساؤل حول دور واشنطن ومدى تورطها ، بالنسبة لنتنياهو، أو معرفتها بالصفقة التي أرسلتها مصر وقطر إلى حماس.
تنص النسخة الإنجليزية من العرض الذي تم إرساله إلي بوضوح على أن الجهات الضامنة للاتفاقية هي قطر ومصر والولايات المتحدة والأمم المتحدة، فهل يعني ذلك أن الولايات المتحدة وقعت على اتفاق وقف إطلاق النار الذي وافقت عليه حماس يوم الاثنين أم لا؟ فبحسب أحد المصادر، فإن ” بيرنز لم يكن بالتأكيد في إجازة لزيارة الكازينوهات في القاهرة أو الذهاب للسباحة في الدوحة”.
“نتنياهو يعلم جيداً أننا الأفق العسكري لدينا مسدود، فبعد أن سيطر الجيش على 80% من قطاع غزة باستثناء رفح، سحب قواته منه لأنه لم يعد لديه أي قوات أخرى لتحل محلهم، وكانت النتيجة عودة حماس إلى جميع المناطق التي تركها الجيش الإسرائيلي واستعادة السيطرة عليها” – اللواء احتياط يتسحاق باريك في صحيفة معاريف
من جانبه، تلاعب المتحدث باسم مجلس الأمن القومي، جون كيربي، بالسؤال قائلاً: “من الآمن أن نستنتج أن رد حماس جاء كنتيجة للمناقشات المستمرة التي كان السيد بيرنز جزءاً منها”، ثم استرسل بالقول أن الولايات المتحدة ما زالت تراجع رد فعل حماس، وكأن العرض الذي وقعته المجموعة لم يتم تقديمه إليها من قبل حكومتين وسيطتين أخريين، مصر وقطر، وكما لو أن وجود بيرنز في كل من القاهرة وقطر الدوحة كان بهدف المراقبة فقط.
ظهور الانقسامات
لا شك أن موافقة حماس على النسخة الأخيرة من العرض قد شكلت صدمة لإسرائيل، فقد كان الجميع يتوقع أن ترفض حماس، في حين لم يكن الرفض الإسرائيلي مفاجئاً، ولكن الجديد المفاجئ هو تورط الولايات المتحدة في الصفقة التي رفضتها إسرائيل.
بعد زيارة بيرنز المكوكية بين القاهرة والدوحة، أخبرني أحد المصادر المطلعة أن الاتفاق الذي تم التوصل إليه “لم يكن رد فعل مضاد، بل كانت الورقة المصرية القطرية، على أساس أن الولايات المتحدة دعمتها بحضور بيرنز بشكل شخصي”.
وفقاً لوكالة أسوشيتد برس، فقد أوضح كل من مسؤول مصري ودبلوماسي غربي أن المسودة التي قبلتها حماس تحتوي فقط على “تغييرات طفيفة في الصياغة” من النسخة التي دفعت الولايات المتحدة في وقت سابق من أجل الحصول عليها بعد موافقة إسرائيلية، وأن التغييرات قد تم إجراؤها بالتشاور مع إسرائيل، وهذا يعني أن بيرنز كان قد تبنى المشروع قبل إرساله إلى حماس.
يشير هذا إلى احتمال حدوث انقسامات داخل الإدارة الأمريكية، فوكالة المخابرات المركزية تدعم صفقة تراجعت عنها عناصر أخرى في إدارة بايدن بعد أن رفضتها إسرائيل، وفي كلتا الحالتين، بحسب مصادري، فإن حماس لا تعتبر هذه مشكلتها.
أخبرني أحد المصادر أن هذه “لم تكن نسخة وقف إطلاق النار التي أرادوها (حماس)، فقد قدموا تنازلات للوصول إلى هناك، لكنهم غير قلقين إذا انهار هذا الاتفاق”، وأضاف محذراً: “إذا لم يتم حل الأمر، فقد تتخذ حماس قراراً بعدم المشاركة في أي مفاوضات حتى يكون هناك وقف لإطلاق النار، فهي مستعدة لمواصلة القتال حتى يدرك الإسرائيليون أن عليهم التوصل إلى وقف لإطلاق النار”.
إن ثقة حماس في قدرتها على مواصلة هذه الحرب هي القضية الوحيدة التي لم تستطع حكومة الحرب الإسرائيلية ولا واشنطن معالجتها، فلو كانت حماس على حافة الانهيار حقاً، ولم يتبق لها سوى عدد قليل من الكتائب في معقلها الأخير، رفح، فلماذا تتصرف بهذه الثقة وتواصل ضرب أهداف عسكرية إسرائيلية؟ كان آخرها مقتل أربعة جنود وإصابة آخرين بجروح خطيرة في منطقة كرم أبو سالم.
“لم يتبقَ سوى 4 كتائب”
بعد 7 أشهر من القصف الذي حول معظم غزة إلى أنقاض، ما زالت حماس تتحرك وتضرب، فكيف لم يتم إخضاعها؟ فالجيش الإسرائيلي ما انفك يردد أنه قد قضى على معظم مقاتلي حماس، وأنه لم يتبقَ سوى 4 كتائب داخل رفح.
عندما طرحت هذا التساؤل على مصدر مطلع على قدرات حماس العسكرية، أجابني بالقول: “في كل مكان ينسحب فيه الجيش الإسرائيلي، تعود حماس للظهور، في الشمال والوسط وفي الجنوب، فالقوات الإسرائيلية تحتل ممر نتساريم، لكن نقاط التفتيش التابعة لها هناك معرضة للخطر، ولهذا السبب قدمت عرضاً للانسحاب من هذا الخط في المفاوضات”.
يوافق بعض الخبراء العسكريين في إسرائيل على ذلك، حتى أنهم على استعداد لشق الصف الإسرائيلي، فقد كتب اللواء احتياط يتسحاق باريك في معاريف يقول: “نتنياهو يعلم جيداً أننا الأفق العسكري لدينا مسدود، فبعد أن سيطر الجيش على 80% من قطاع غزة باستثناء رفح، سحب قواته منه لأنه لم يعد لديه أي قوات أخرى لتحل محلهم، وكانت النتيجة عودة حماس إلى جميع المناطق التي تركها الجيش الإسرائيلي واستعادة السيطرة عليها”.
ومما يبدو، فإن التجنيد أو المتفجرات لا يشكلان أي مشكلة بالنسبة لكتائب القسام، الجناح المسلح لحركة حماس، ورغم المعارضة الأولية للهجوم الذي شنته حماس في السابع من أكتوبر على بعض مناطق غزة، إلا أن الفلسطينيين من كافة الفصائل وقفوا خلف مقاتلي حماس، بعد أن أصبح من الواضح أن الحرب الإسرائيلية تشكل تهديداً وجودياً للفلسطينيين ككل.
يوجد الآن عدد غير محدود من المجندين في حماس، يقدرون بعشرات الآلاف، حتى بعد 7 أشهر من القتال، فزمن الحرب واولويتها قد تجاوزت التاريخ المرير من المنافسة السياسية بين فتح وحماس.
“لقد حاولت إسرائيل استخدام الدمار الذي أحدثته كوسيلة لإجبار حماس على الاستسلام، لكن هذا الدمار أصبح سلاحاً ذو حدين، حيث تم فضح إسرائيل بطريقة غير مسبوقة، فإسرائيل هي من أصبحت في ورطة وليس حماس، حتى جو بايدن بدأ يشعر بالقلق والتوتر، وكل هذا يمنح حماس الثقة خلال المفاوضات”
لدى حماس أيضاً إمدادات غير محدودة من المتفجرات، ووفقاً لتوقعات الأمم المتحدة، فقد تم إسقاط عدد كبير من المتفجرات على غزة منذ 7 أكتوبر، مما قد يستغرق 14 عاماً لتطهير القطاع من القنابل غير المنفجرة، بعبارة أخرى، مع معدل فشل يصل إلى حوالي 15%، فإن المواد المتفجرة التي يتم الحصول عليها من القنابل والصواريخ التي لا تنفجر يمكن أن تزود حماس بالإمدادات لفترة طويلة قادمة.
لقد تم بالفعل إعادة تدوير بعض المتفجرات، حيث أعلنت كتائب القسام أنها استخدمت متفجرات وصواريخ من مقاتلات F16 في هجوم على منطقة المغراقة وسط غزة.
وما الغريب في ذلك، فبعد حرب 2014، تمكن مهندسو الشرطة من استعادة 5 أطنان من الذخائر غير المنفجرة من خان يونس ورفح وحدهما من غارات جوية استمرت لأقل من شهرين، فما بالك بكمية المتفجرات التي يمكن إعادة تدويرها من مخلفات 7 أشهر من القصف اليومي؟!
المعوقات الحقيقية
خلال الحرب، واجهت حماس محاولتين منسقتين من قبل من أجل إزاحتها عن السلطة في غزة، وهي تهديدات أخذتها على محمل الجد، مما أفشل كلتا المحاولتين.
المحاولة الأولى كانت من جانب إسرائيل في يناير، وكانت تهدف لحمل زعماء العشائر على تقسيم غزة إلى مناطق تحكمها القبائل وتتولى الإدارة المدنية للقطاع من خلال ترتيبات فردية مع إسرائيل، ولكن تم رفض العرض من قبل القبائل نفسها حيث ظلت موالية لحماس.
في بيان له آنذاك، أعلن المفوض العام للهيئة العليا للقبائل الفلسطينية، عاكف المصري، أن “دولة الاحتلال تسعى للتغطية على فشلها في غزة وإثارة البلبلة والفتنة في المجتمع الفلسطيني”، داعياً إلى إنهاء الانقسام السياسي بين حماس وفتح،من أجل تلبية “الحاجة إلى قيادة وطنية موحدة لتعزيز صمود الشعب ومنع الفرص أمام كل مخططات الاحتلال”.
أما المحاولة الثانية، فقد كانت أكثر خطورة، حيث قيل أنها خطة صممتها الأردن ومصر والسعودية، ونفذها رئيس جهاز المخابرات التابع للسلطة الفلسطينية، ماجد فرج، وهو الرجل الذي وصفه وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بأنه مدير محتمل لقطاع غزة بعد الحرب، ومن خلف الكواليس الإمارات، التي تدعم محمد دحلان للعودة إلى غزة.
لا شك أن اجتياح رفح، سوف يأتِ لنتنياهو بصداع أكبر مما يعاني منه الآن، فكيف يعلن النصر عندما تكون ملامح هزيمته واضحة في الأفق؟!
تم التنفيذ من خلال تسلل العشرات من عملاء المخابرات التابعة للسلطة الفلسطينية إلى غزة، متنكرين في زي حراسة قوافل المساعدات من الحدود المصرية، ووصلت بعض هذه المجموعة إلى الشمال حتى مستشفى الشفاء في مدينة غزة، حيث قيل أنها قدمت معلومات استخباراتية للقوات الإسرائيلية، أدت إلى مداهمة المستشفى بعد ذلك، وبقي معظم أفراد المجموعة في رفح حيث حاولوا إقامة مقر لهم في مبنى الهلال الأحمر الفلسطيني.
بحسب مصدر نقلته الجزيرة، فقد صعدت 10 فرق، يتألف كل منها من 4 أشخاص، على 10 شاحنات عند معبر رفح لإيصال المساعدات إلى الهلال الأحمر، ولكن ظهر وجود السلطة الفلسطينية في الفوضى التي أحاطت بالشاحنات، وعندما تدافع الفلسطينيون الجوعى عند الشاحنات، قام أفراد من قوة الأمن التابعة لفرج بسحب أسلحتهم، مما كشفهم فتم اعتقالهم واستجوابهم من قبل حماس، وتم التعرف على هوية 4 منهم كانوا ضباطاً قد تلقوا تدريبهم في الأردن ثم تسلمتهم السلطة الفلسطينية.
صداع أكبر
كل هذه الأحداث تزيد من ثقة حماس بقدرتها على مواجهة أي محاولات أخرى من جانب القوات البرية الإسرائيلية للقضاء عليها، فوفقاً لأحد مصادري الذي أكد أن “ثقتهم في مواصلة المقاومة عالية”.
وأضاف : “لقد حاولت إسرائيل استخدام الدمار الذي أحدثته كوسيلة لإجبار حماس على الاستسلام، لكن هذا الدمار أصبح سلاحاً ذو حدين، حيث تم فضح إسرائيل بطريقة غير مسبوقة، فإسرائيل هي من أصبحت في ورطة وليس حماس، حتى جو بايدن بدأ يشعر بالقلق والتوتر، وكل هذا يمنح حماس الثقة خلال المفاوضات”.
لا يمكن تجنب حقيقة مفادها أن المعركة المقبلة من أجل رفح ستكون عبارة عن سلسلة من المذابح وسوف يكون الثمن البشري باهظاً، فإذا فعلت القوات الإسرائيلية برفح ما فعلته بخانيونس فسوف يتم تسوية رفح بالأرض، وفي السابق كانت خانيونس توصف بأنها المقر الرئيسي لحركة حماس، ومع ذلك فقد انسحبت منها القوات الإسرائيلية بعد أكثر من 4 أشهر من القصف دون أن تحصد إلا تدميراً كاملاً للمدينة.
وإذا ما تكرر السيناريو في رفح، فلن تتمكن إسرائيل بعدها من استعادة الرهائن الذين ما زالوا على قيد الحياة، ولن تتمكن من أسر أو قتل زعماء حماس، خاصة مع ثقة حماس من كلا الأمرين.
هذه النقطة التي رددها باريك في مقالته، حيث قال: “نتنياهو يدرك أيضاً أن دخول رفح لن يجلب شيئاً، بل سيؤدي إلى تفاقم المشكلة وسوف نضطر إلى مغادرة رفح بعد احتلالها أيضاً، فدخولنا إلى رفح سوف يدمر علاقاتنا تماماً مع دول العالم ومع الدول العربية التي نعقد معها السلام”.
يضيف قائلاً: “ستكون لذلك عواقب وخيمة للغاية، أولها عزل دولة إسرائيل في المجالين السياسي والاقتصادي وفرض حظر الأسلحة الذي بدأ بالفعل، كما أن دخول رفح لن يترك أي من المختطفين على قيد الحياة، سيكون لدينا الكثير من الضحايا”.
لا شك أن اجتياح رفح، سوف يأتِ لنتنياهو بصداع أكبر مما يعاني منه الآن، فكيف يعلن النصر عندما تكون ملامح هزيمته واضحة في الأفق؟!
للإطلاع على النص الأصلي (هنا)